ميخائيل نعيمة والغربال وتأثّره بالأدب الروسي

الدكتورة جمال القرى
(ترجمة عن الروسية)
كان ميخائيل نعيمة معجباً متحمساً ومتذوقاً للأدب الروسي. فبعد مدرسة المعلمين في الناصرة، حيث كان الأدب مادته المفضلة، واصل تعليمه في المدرسة اللاهوتية في بولتافا (1906-1911) – المدينة التي باعترافه الشخصي، كان يذكرها دائماً “بحب وحنان” كـ “محطة رائعة في طريقي في هذا العالم”. وسرعان ما انغمس نعيمة في دراسة الأدب الروسي الذي فتح أمامه “عالما جديدا مليئا بالمعجزات”، ووقع في حب هذا العالم إلى الأبد. “قرأته بشغف. لم يكن هناك أي كاتب أو شاعر أو فيلسوف روسي لم أعد قراءته”. وهنا بدأ بكتابة مذكراته، مقتدياً بالشاعر الروسي نيكيتين بعد أن قرأ مذكراته، وقد ترك “انطباعاً عميقاً جداً” في روحه. يكتب نعيمة في مذكراته، انطباعاته عن روسيا، ويثق بأعمق الأفكار والتأملات التي قرأها في كتب المؤلفين الروس. فهذا الشاب من بسكنتا البعيدة، ينبهر بـ “الشيطان” وبأعمال ليرمونتوف الشعرية الأخرى: “يا له من شعر! كم هو سامي! تبدو جبال القوقاز أجمل في شعره منها في الطبيعة. لو كنت شاعراً لتغنيت بجمال لبنان، بمهد طفولتي ومركز أفكاري. يا إلهي، ما هي هذه المشاعر التي أثارها هذا الشاعر في داخلي، وما تأثيره على الأفكار والأحلام! منذ أن قرأت ليرمونتوف، امتلكتني رغبة لا تقاوم في كتابة الشعر”. وفد افتُتن نعيمة أيضاً بـ “الضباب الأسود” لغنيديتش، و”تجربة الفلسفة في الأدب الروسي” لأندريفيتش، و”أعمال الكتّاب الشباب – غوركي “الاعتراف”، وأورينبورغسكي وزولوتاريف بأسلوبهم المليء بالحياة والنشاط والألوان، وهو يقدّس “عبقرية” غوغول بل ويؤلف قصيدة عنه، لكن إعجابه الأكبر كان بتولستوي، الذي حسب تعريفه هو “الشعلة المضيئة في جميع بلدان العالم”، وأصبح معلمًا وقائدًا للتلميذ الشاب.
مدركاً لفقر الأدب العربي مقارنة بالأدب الروسي، كتب: “لفت انتباهي الركود الأدبي في العالم الناطق بالعربية بأكمله عندما غادرت روسيا. لقد كان هذا الأمر محبطاً ومهيناً إلى أقصى حد بالنسبة لشخص نشأ على الفن الرفيع لبوشكين وليرمونتوف وتورغينيف، وعلى الضحك من خلال دموع غوغول، وعلى واقعية تولستوي الرائعة، وعلى مُثُل بيلينسكي الأدبية، وأخيراً على الإنسانية الرفيعة للأقوى والأعمق والأكثر اكتمالا والأكثر اختراقاً بين جميع الكتّاب الروس – دوستويفسكي“.
وفي نهاية العام 1911 هاجر نعيمة إلى أميركا واستقر في مدينة صغيرة، وفي العام 1916 انتقل إلى نيويورك حيث شارك في مجلات المهاجرين العرب “السائح” و”الفنون” حيث كان زملاؤه في مدرسة الناصرة عبد المسيح حداد ونسيب عريضة محرّريها. واعتبر نعيمة أن الفنون هي المجلة الوحيدة التي يمكن أن ينشر فيها “النقد الحقيقي”، ففيها كُتبت فيها لأول مرة كتابات ضد “الركود في الأدب العربي”. وكتب في سيرته الذاتية: “لقد قامت هذه المجلة بعمل رائع، حيث بثّت حياة جديدة في الأدب العربي، ومهّدت طريقاً جديداً”. كما نشر في “السائح”، مقالاته الأدبية النقدية الخاصة، والتي نشرها فيما بعد في مجموعة منفصلة “الغربال”، التي نُشرت في العام 1923 في القاهرة في “المطبعة العصرية” ضمن السلسلة الأدبية والاجتماعية التاريخية “المطبوعات العصرية”. في إحدى منشورات المجموعة، بعنوان “الحباحب”، قال نعيمة، متحدثاً عن الفتوحات الحديثة للثقافة الغربية وتخلّف الأدب العربي الذي كان مزدهراً ذات يوم: “ليس لدينا إبداعات بل حباحب، وليس كتّاب، بل كتّاب رديئين، وليس كتب، بل كتب تجارية صغيرة. دعونا نعترف بهذه الحقائق، على الأقل أمام أنفسنا. وفي منشور آخر لنفس المجموعة بعنوان “فلنترجم”، دعا نعيمة زملاءه الكتّاب للتوجّه إلى الإنجازات الروحية للغرب من أجل التغلّب على تخلّف الثقافة الفنية العربية (“آبارنا الجافة لا تروي عطشنا، لماذا لا نشرب من ينابيع جيراننا؟”)، في الوقت نفسه، أكد على أهمية الترجمة وأهمية دور المترجم الوسيط “الجدير بالاحترام” لأنه قادر من خلال التغلب على حواجز اللغة على رفعنا من المساحة الصغيرة المحدودة التي نتخبط فيها في الطين إلى مساحات أرحب نرى من خلالها العالم الواسع وآماله وأفراحه وأحزانه. لذلك دعونا نترجم!
تم الاعتراف بمجموعة “الغربال” نفسها على أنها “كلمة جديدة” في الأدب العربي. وأبدى المصري عباس محمود العقاد، في مقدمته، إعجابه بـ “الشجاعة” التي أبداها نعيمة متحّدثاً بشكل علني عن آراء مبتكرة في الفن.”خرج نعيمة علناً بآراء مبتكرة في الفن”، لقد مرّر “الغربال” الأسماء والأعمال والأفكار، دون أن يخشى إثارة الغضب ومهاجمة “حرّاس” الأدب، وهي “ظاهرة” شائعة جداً في جميع أنحاء العالم وفي دول الشرق على وجه الخصوص. أثارت المجموعة ردود فعل واسعة في الدول العربية الأخرى. وكان هذا الكتاب، بحسب الكاتب التونسي محمد البشروش (1911-1944)، “الريح النقدية الثانية بعد “الديوان” التي هبّت في تاريخ الأدب العربي الحديث”. واعتبر نعيمة (مثل دوستويفسكي) أن الإنسان هو الموضوع الرئيسي للأدب، وأن الفن الواقعي وحده يستطيع “أن يعرف ويكشف كل أعماق روحه وقلبه”. في المقالات الواردة في “الغربال”، رفض نعيمة “المقاربة المعيارية للفن”، وهي سمة من سمات الشعر الكلاسيكي بأوزانه وإيقاعه والقافية الراسخة التي لا تتغير. ويرى نعيمة أن الشرط الأساسي للإبداع الشعري هو حرية الشاعر في التعبير عن نفسه بما يتوافق مع فرديته: الخيال وثراء الحياة العاطفية. في رأيه، لا ينبغي أن يكون نشاط الناقد الأدبي أحادي البعد: فهو مدعو ليس فقط لتقييم ظواهر الثقافة الفنية، ولكن الأهم من ذلك، “غربلتها”، والكشف عن الفروقات الدقيقة المختلفة المتجسّدة في الجمال فيها، وتقديمها للناس، مما يساهم في تربية الإنسان، وتنمية أذواقه الجمالية. لذلك، وجدت “المثل الأدبية لبيلينسكي” التي تصوّرها نعيمة تجسيدها الأول. كتبت مجلة السائح عن نعيمة، الذي كان يعيش آنذاك في الولايات المتحدة، باعتباره “ناقد مشهور”، وهو “في طليعة السائرين على طريق النقد الأدبي الصحيح باللغة العربية. لقد فتح لنا حقبة جديدة في دراسة الظواهر الأدبية، مغربلاً إياها. كان نعيمة مشبعاً بالأدب الروسي. ولم يترك تواصله بالأدب الأميركي الأثر الذي تركه تواصله بالأدب الروسي، ما أشعل في روحه ناراً وأعطاه الحرية لإبداعه في مجال الأدب العربي“.