ميزات التعدد والتنوع والتشعب والانفتاح في رواية “فوق الأرض”
عبد النبي بزاز
لعل أبرز ما يميز رواية “فوق الأرض” للكاتب والأديب السوري محمد فتحي المقداد هو طول النفس السردي (أكثر من 250 صفحة)، وعدد الشخوص (الذي تجاوز الثلاثين)، والأمكنة العديدة والمتنوعة، فضلا عن تفاصيل، وجزئيات، واستطرادات ولَّدت حكايات متشابكة الخيوط، متعددة المناحي والمرامي في أبعادها النفسية والاجتماعية والإنسانية والتاريخية عبر أحداث ووقائع توزعت بين قيم وأفعال كالظلم والعداء، والمقاومة، والخيانة، والاستسلام… تم تصريفها عبر نُظم ومسلكيات من تظاهر واحتجاج وهجرة وترحيل مرهونة لرؤى تأرجحت بين الثبات والتراجع، والتضحية والخذلان… وأمام تشعب فصول الرواية، وكثرة تفاصيلها مما يُصَعِّب من الإلمام بأغلب مكوناتها، والنبش في ما تتضمنه من عناصر تتآلف، وتتناشز عبر علاقات مركبة ومعقدة، وامتدادات موسومة بسعة آفاقها، وبُعْد رؤاها وتصوراتها سنقتصر على بعض الجوانب من متنها السردي الغني والمتنوع.
ومما يطالعنا في مستهل الرواية حديث الراوي فاضل عن اختياره للعزلة كما عبر عن ذلك في قوله: “أغلقت نافذة صومعتي، أرخيت ستائرها عدت إلى رشدي… انتبهت لأوراقي وأقلامي مما أثار بداخلي شعورا بالراحة … ” ص25، وهي طقوس انخرط فيها الراوي بخلق الأجواء المناسبة لكتابة نوعية تمنح شخوصها (الأبطال) حرية التعبير دون أي تدخل لتحوير كلامهم أو تحريفه مع تخويل صلاحية الحكم للقارئ: من المهم لي احترام الموقف؛ بإفساح المجال لأبطال الرواية الآخرين… “ولن أتدخل في مسار أحاديثهم… والقارئ هو الحكم الوحيد الذي بإمكانه الدفاع عما قرأ … “. ص 25، وهذه الخلوة التي اختارها الراوي تعج بحكايات وقصص مختلفة ومتنوعة بين الإبهار والجودة، والتفاهة والإسفاف: “صومعتي (غرفتي) معتزلي، يختزن حكايات وقصصا تنث دهشة، ومنها مما لا يُنْظَر له إلا على أنه تافه
مضحك. ص 26، معلنا عن قرار كتابة روايت”فوق الأرض”دون إهدار للوقت في أمور غير ذات نفع أو فائدة:
شعرت بأهمية الوقت، وكان علي عدم إضاعة دقيقة واحدة، عندما قررت كتابة هذه الرواية، “فوق الأرض” ص7 ، موضوع الكتابة الذي سلك منعرجات متباينة، واجترح حدودا مغايرة في المسار الذي رسمته رواية “فوق الأرض “. فحسب فاضل السلمان، والذي لم يمنعه خطه النضالي الشائك والمكلف ، في الإقرار بقيمة الكتابة وأهميتها : ـ فاضل
السلمان : أنا على قناعة تامة بأنه لا بد من الكتابة ، لأنها هي الحل برأيي … ربما يتوجب علي كتابة الكثير بالتفاصيل المملة … ; ص164. وعلاقة بموضوع الكتابة، وما تحتله من مكانة مؤثرة في التعبير يحضر فعل القراءة، بحمولاتها المعرفية، والتي تسهم في إغناء الرصيد الثقافي فيصبح أكثر سعة وانفتاحا: القراءة المتأنية تحفر بنتائجها مسارب العقل العميقة ، وتلامس شغاف القلب. ص 236، فهي، أي القراءة، في كنهها الوجداني، وجوهرها الذهني تغوص في أعماق القلب، وخفايا الفكر. وإن كان عدد الشخوص كبيرا، إلا أن الذين ساهموا في تسيير الأحداث، وانخرطوا في معمعتها ارتباطا بموضوعات كالاعتقال، والنضال، والتظاهر، والاستشهاد في تعالق وتواشج وتقاطع مع ما هو ثقافي وفني، وهم قلة، فإذا كان فطين اعتكف في غرفته ناشدا العثور على فكرة بحث عنها طويلا: “وجدت فكرة كنت أبحث عنها منذ سنة تقريبا ، والآن وجدتها “. ص11، وتداعت إليه صور تطفح حزنا وأسى عن أمه التي تألمت كثيرا على فقدان ابنها محمد من زوجها الثاني: “أحزان الأرض كلها تهيجت من اجل وجهها المتلألئ الغائص في لجج الآلام على وحيدها محمد من زوجها الثاني غير أبي ، وأنا وحيدها كذلك من أبي .. أم الوحيدين “. ص 15، والذي اغتيل فأثر ذلك على الأم التي تقطع قلبها ، وانتابتها مشاعر حزن عميق: الفجيعة فطرت قلبك.. ، أواه يا قلبك المسكين ..!!،
“وصلك الخبر أثناء تواجدك في مخيم الزعتري … تربته ارتوت من دموعك وحدك”، ص 16، وتفاعله مع أمه التي رزئت في ابنها، وما خلفه ذلك من جرح غائر بدواخلها عصي عن الالتئام والاندمال: “أؤكد أن دموع أمي لم تكن وسيلة العجز بل ضريبة الأمومة، فآخر كلام قالته، أنقله عنها بالضبط. بعد أن كفكفت دموعها: … دم محمد مازال نديا في قلبي، والتراب الذي ارتوى منه أعشب ..” ص 23. ومن أهم شخصيات الرواية نصّار الذي تطوع لمهمة حفر القبور، رغم منصبه الاجتماعي والوظيفي المحترم، بعد مقتل أخيه نادر متخطيا ما راوده من توجسات: ـ أعتقد أنها مهمة مخيفة… أين سيكون موقع قلبي مني؟. هل سيترتب علي نسيان عواطفي، وتجميدها؟. ص 34، أسئلة تقاطعت مع صور ترسخت في ذاكرته ووجدانه : “انداحت أمام نصّار صور شتى لا تعد ولا تحصى، اصطفى من بينها صورتين… صورة فادي (ابن عمته)… يتلمس جرحه البليغ، دمه يثعب مستعجلا إلى خارج جسده، حدقتاه تُعتِمان، وينتهي كل شيء هناك فوق الأرض في بيروت… صورة أخي نادر أتخيلها، عندما أصيب برصاص القناص اللئيم…”، ص46. ثم ما فتئ يحدد ويجدد رؤيته للموت موازاة مع الحياة: “في مهابة الموت تهون كل زخارف الدنيا ومباهجها”، ص40، وعلاقته، أي الموت، بتبديد غياهب النسيان التي تجلل محيط الذاكرة : “وهل نحن بحاجة للموت لإجلاء غبار النسيان عن ذاكرتنا ؟”ص 15، في تساؤل وجودي عن مدى حضور الموت واستحضاره لتطهير الذاكرة من أدران النسيان . وفائق ابن عم نصّار الذي عاد من ليبيا بعد عشر سنوات واسترجاعه لما عاشه من معاناة وقهر وتعذيب في سجن تدمر العسكري حيث قضى سنة كاملة بسبب فراره من دوامه خلال تأديته خدمة العلم (العسكرية) مما ولَّد لديه (فوبيا) رهيبة، وقد استفاد بشكل، غير متوقع، من دعم السلطات وتسهيلها لإصدار كتاب عن تفاصيل رحلته: “ـ خذ الرحالة فائق إلى قيادة الشرطة؛ لاستصدار كتاب موجه إلى فرع الحزب… لم يواجه فائق أية صعوبات في الحصول على الموافقات اللازم…”، ص95، وهو ما لم يصدقه ولم يتوقعه ” نشوة عارمة اكتسحته ، نقلته إلى عالم الخيال… وهو ما لم يكن قد توقعه، في أن يصبح موضوعه وقصته حديث الساعة، وعلى هذا المستوى من حفاوة الاستقبال والتوديع …، ص 96، وهالة نجم الدين الفنانة التشكيلية المقيمة بإيطاليا التي ألهمتها أجواؤها وفضاءاتها زخما إبداعيا عكسته وترجمته في لوحاتها: “بدأت رحلتي قبل سنوات مع روما لليوم الأول، بجولة تاريخية لمشاهدة أجمل ما خلَّفته الحضارة الرومانية … مدينة منسوجة من الأشواق والعشق والرومانسية ..” ص 135، وما راعها من مشاهدات ومعاينات أذكت جذوة الإبداع بداخلها : “هناك على طرف الميدان وتحت عامود الكهرباء أرى أحد الفنانين التشكيليين ، يرسم جدارية على جدار أوهنه الزمن هشاشة من كثرة الرسم والمسح .”، ص 137، ومشهد فتاة غجرية يطوقها التيه والعوز والضياع: “إنها هناك، فتاة صغيرة شقراء ، متشابكة الشعر… إنها قطعة من القدر تمشي في شارع الحياة، المثقلة بأحمال الخوف من الجوع … لا يستر جسدها سوى أسمال بالية … “، ص 139،
مشهد فَجَّر لديها الإحساس بالكتابة عما راعها من تلك الفتاة فسطرت مقاطع شعرية تنضح صدقية وتأثرا قرأتها على زوجها. هالة التي استضافتها قناة “الجزيرة” مما ساهم في منحها إشعاعا وانتشارا فنيا وإبداعيا وثقافيا وهو ما أفرح فئات عريضة من الجمهور العربي والسوري وأصدقائها من كتاب و مثقفين ، وقد اخبر فاضل صديقه معن وسعيد الذين جمعتهم سهرة غنية بنقاشات حول الوضع في بلدهم، وما أفرزه من وقائع وأحداث: ” نسيت أن أخبركم عن موعد حلقة صديقتنا (هالة نجم الدين) ستبث
على قناة الجزيرة، يوم غد الأربعاء التاسعة ليلا بعد نشرة الأخبار”، ص206، وفعلا كانت المتابعة ممزوجة بشوق ولهفة: “العيون مثبتة على أجهزة التلفزيون والأعصاب مشدودة … “، ص 207، وكان الموضوع يدور حول رواية “فوق الأرض”، والتي ساهم في كتابتها مجموعة من الأصدقاء من ضمنهم هالة، والتي سألها المذيع أيضا، إلى جانب مشاركتها في إنجاز الرواية، عن إقامتها في إيطاليا، وممارستها للفن التشكيلي، وعلاقتها بهذا الفن وحيثيات اتجاهها لمجال الكتابة، ومدى تأثير الغربة والاغتراب على حياتها الفنية والإبداعية، وحجم اهتمامها بالموسيقى، والأوضاع المزرية والمأساوية في بلادها سوريا، وعن أمها وابنتها سارة ووقع تأثرها بالمظاهر الحضارية والعقدية والفنية في
إيطاليا، وأيضا عشقها لأغاني فيروز، واهتمامها بالأدب العربي، وما يكتبه روائيون مثل فطين، وشعراء كأمل دنقل، ومدى إحساسها بالوحدة في بلاد الغربة… تألق توالى وغدا أكثر انتشارا حيث عرفت معارضها إقبالا كبيرا بإيطاليا أكسبها شهرة غطت الآفاق: “هالة بعد انتهاء معرضها الثاني هذا ونجاحه الباهر؛ سيضعها على قائمة الفنانين التشكيليين المرموقين، واسمها صار عالميا بعد شهرتها عربيا إثر مقابلتين لها مع قناة الجزيرة … ، ص 252، وعلى نفس المنوال سار القاص والروائي فطين الذي ظهر في برنامج تلفزيوني ثقافي للحديث عن المشروع الروائي،”فوق الأرض” بحيث أوضح فيه رؤيته للكتابة من زاوية مخالفة تمنح لأبطال الرواية حرية التعبير بمحض إرادتهم واختيارهم دون وصاية أو تحكم مسبق من الكاتب: “وأخبرتني وقتذاك: أنك أفسحت المجال لأصدقائك أبطال روايتك كتابة ما يشاؤون وعلى طريقتهم، وقررت الوقوف جانبا تنظر إليهم، وهم منهمكون في رسم أدوارهم “، ص 226، بل ساهموا في كتابة خاتمة الرواية خوفا من أن تأتي مبتورة. كما أن منهم من تطوع للكتابة عن أمه لأنها أمية مثل فطين: “فأنا تطوعت للكتابة عن أمي لأنها أمية، لا تعرف حقيقة تاريخ ميلادها… وتنفرج أساريرها بفرح طفولي، وهي تعود لِسِني طفولتها وشبابها..”، ص228.
وفي تقاطع وتواشج وتجاذب مع باقي موضوعات الرواية الكثيرة، وأحداثها المتداخلة والمتشابكة والمتشعبة؛ من مظاهرات، واعتقالات، ونضالات… برز موضوع الثقافة والفن من خلال شخصيات فائق، وهالة، وفطين التي ساهمت في مشروع رواية “فوق الأرض”، وما تطرحه وتتبناه من تصور مختلف للكتابة النمطية، وذلك بإشراك وإسهام شخوص الرواية وأبطالها في رسم معالمها ، وسير أحداثها عكس ما هو سائد من إناطة نسج خيوط السرد للراوي. ومن أهم موضوعات مدونة الحكي موضوع الاعتقالات بدءا من أسرة عبد الرحمن التي اعتقل ابنهم سمير كما يروي الأب: ” ـ والله ، مع انطلاق آذان الفجر أثناء يومنا ، اقتحمت دورية الأمن بيتنا ، واعتقلوا ابني سمير ، بعد أن قلبوا أغراض البيت… وتركونا في حالة يرثى لها، مازالت أم سمير تبكي والأولاد من حولها لم تنقطع دمعتهم. ص 71، وحسب ما راج عن سبب اعتقالهم ما كتبوه على الجدران من عبارات ضد الدولة… وفاضل السلمان اعتقل على خلفية ما كتب في المنتدى عن بلده سوريا، وطرحت عليه أسئلة حول ما كتب فأكد أنه لم يسئ إلى البلد: “ـ موقفي كان واضحا من خلال ما كتبت في مقالتي ، وأشرت فيها إلى الاستقرار والأمان الذي ننعم فيه جميعا في سورية”. ص 117، وسُئل عن علاقته بالمهندس معن، وهالة نجم الدين فأجاب بما يعرفه عنهما، كما تحدث عن معاناته من ظروف الاعتقال المزرية: “آثار التعذيب تركت بصمتها المنقوشة في أعماقي جرحا نازفا… ضيق زنزانتي رحمة، ظلامها فسحة مضيئة من الهدوء، أتاحت لي لملمة ذاتي. ص 120، مع ما صاحب ذلك من مضايقات ومتابعات عبر لغة الفرض والإرغام: “خاصة بعد مجيء عنصرين من الأمن السياسي وقتها، وأخذوا مني تعهدا خطيا بعدم الدخول لمنتدى (أتاو) … “، ص 121، واعتقال فائق كذلك في ظروف لا تقل سوءا :”بينما أخرجوا فائق من الحمَّام مغطي العينين بطماشة جلدية سوداء … ويداه مكبلتان للأمام بقيد حديدي..”، ص 190. وموضوع المظاهرات والاحتجاج الذي انطلقت شرارته بعدما ضاق المواطن ذرعا من أساليب الظلم والقمع والتضييق، والاعتقالات التعسفية : ” لكنهم آمنوا أن الحرية تؤخذ ولا تعطى.. طار صواب السلطات بمجانبتها للاستماع والإنصات لصوت العقل.. وصوت الجماهير، واعتبروا أن شق عصا الطاعة جريمة لا تغتفر أبدا… انقلبوا، وكأن مسا من الجن أصابهم ؛ فاستنفروا بكامل وحشيتهم وهمجيتهم. ص60، مما ضاعف من عزم المواطنين على التمرد على كل ألوان الظلم وقرروا الخروج للتظاهر والاحتجاج: أولياء أمور الأولاد المعتقلين، عندما ضاقوا ذرعا باحتجاز أطفالهم، بعد مشاورات ومداولات وسهرات متتابعة…
أخيرا أجمعوا الرأي على التجمع كوفد… للمطالبة بالإفراج عن أبنائهم. ص61 . وذكر موضوع الحرب كآفة لا تتوانى في حصد الأرواح، وإزهاق النفوس: “الحرب ظالمة وإن كانت عادلة. العلاقة جدلية قائمة فيما بين نقيضين، الحرب ظلمها في دمارها للإنسان والبنيان . فلا ينجو من شرورها لا حجر ولا بشر”، ص242 ، والنضال كوسيلة للرفض والمواجهة، الذي كرست له نخبة من أنتلجنسيا البلد حياتها، ووهبت له نفسها دفاعا عن قناعة راسخة لمناهضة الظلم والفساد مثل نموذج المهندس معن: “معن صلب الإرادة ، من الممكن أن تلين صخور البازلت ، بينما يقينه يزداد رسوخا بعدالة قضية شعبه المظلوم… فإن صرخة معن جديرة أن تؤرخ؛ فالبدايات لها شرف السبق “. ص 78، نضال كان مصير متزعميه الاستشهاد وهو ما حصل مع معن: “والمهندس سعيد صديق الشهيد معن رحمه الله، ص243، فسعيد هو الآخر أدى ثمن نضاله بإعاقة حركية إثر إصابته بشظية في ظهره عقب قصف طائرة مروحية لبرميل متفجر تطايرت شظاياه . فالحرب الغاشمة المدمرة حصدت أرواح مواطنين أبرياء، ومناضلين بررة شرفاء وهبوا حياتهم للذود عن قضايا العدل والحرية والكرامة، وقدموا أرواحهم فداء لمبادئهم الإنسانية النبيلة . كما ورد ، في سياق أحداث الرواية ومجرياتها، الحديث عن القومية العربية، وما أحاط بها من استرخاص وتبخيس للدم العربي: “المفارقة أن الدم العربي رخيص على الصعيد الرسمي، خلاف الأمم الأخرى”، ص43، وتخاذل العرب، وتقاعسهم عن الوحدة والتضامن
ارتهانا لحسابات ضيقة يحكمها حس الانتقام القائم على أسباب واهية مما حذا بفاضل إلى القسم والجزم بعجز العرب عن تقديم ما يعود بالنفع على بلادهم وأمتهم: “أقسم بالله العظيم، أنه منذ 1900م، لم يستطع أحد من العرب تحقيق شيءنافع لبلاده. هذا اليمين المغلظ من أجل التاريخ، لم يطالبني به أحد البتة”، ص 132، شهادة من شخص خبر النضال، وذاق ويلات الاعتقال. ووردت كذلك في ثنايا الرواية فكرة ذات صبغة وجودية طرفاها الموت والحياة كما يراها نصّار حين تطوعه لمهمة حفر قبور الشهداء، وما عاشه من أحداث في فضاء المقبرة، وما أحاط به من مشاهد ومواقف عمقت من تصوراته، ووسعت رؤيته للموت والحياة، حيث يقول: “أنا الآن في عنق الحياة، شعوري هذه اللحظة أني قريب من الموت حد الموت بحجم الأسى.. بعيد عن الحياة كتباعد يوم ميلادي.. لا يقلقني الموت بذاته.. تستفزني تناقضات المشاعر. ص 48، في مقاربة فلسفية بطابع وجودي قطباه الموت والحياة. وتمت كذلك الإشارة لوقائع تاريخية في السياق السردي: “كما بغداد تحت سنابك خيول المغول في سقوطها الأول، ودجلة مازال شاهدا على مغول العصر… ولو ملئت صحف الدنيا كلها كتابة؛ فإنها لم، ولن تفي وصف ساعة واحدة من حياة البغداديين في مرحلة بريمر. ص17، في إشارة إلى ما تعرضت له العراق من تدمير وخراب على يد المغول قديما، وأمريكا في العصر الحالي بعد
غزوها للعراق، وإرسال بريمر إلى بغداد ليشرف على إدارة شؤون العراق بعد الغزو الأمريكي. والأحداث المؤلمة لسوريا التي ترزح تحت وطأة التهجير والتقتيل: “بلا شك أن أحداثه وقعت فوق الأرض في الجمهورية العربية السورية على أيدي حماتها المفترضين؛ بتحقيق موازين العدالة والرفاه لمواطنيهم الذين أصبحوا مأساة العالم ولم يحدث أكبر مما صنعوا من مآسي التهجير الجماعي…”، ص22، وما تعرض له لبنان من جور وعدوان من قبل الأشقاء السوريين: “مساكين هم أهل لبنان لا حول ولا قوة لهم، مقابل الآلة الهمجية للجيش السوري بإمكاناته الضخمة..”، ص 156، وهو ما يعكس تناحر العرب بينهم بدافع حسابات تسقط في مغبة التسرع والتهوربدل توجيه بوصلتهم، وتكثيف قواهم لمناصرة فلسطين المكلومة في مواجهة عدوان الصهاينة، وكسر شوكة غطرستهم وجبروتهم. ورغم ما طغى على المتن السردي من مآسي ونكبات فإنه لم يخل من ذكر بعض مظاهر الفساد التي تستفحل في المجتمع من رشوة: “ومن لم يكن من أصحاب المعدلات العالية؛ فعليه دفع الرشاوي لأصحاب الواسطات؛ للحصول على هذه الوظيفة، لما لها من الامتيازات الكثيرة …” ، ص32، وتهريب السلع لبيعها في استغلال لعامل السلطة وامتيازاتها: “عندما كان يوصي عليه من لبنان مع العساكر الذين كانوا يخدمون هناك، ويجلبون معهم الأغراض والأشياء لبيعها في سورية؛ لتحسين وضعهم المعاشي، ومنهم من جمع ثروات حقيقية من التهريب ببن البلدين، خاصة الضباط وصف الضباط والعساكر”. ص 86، والسرقة المكشوفة التي يقترفها العسكر في حق أفراد مدنيين كحالة فاضل مع العسكري الذي سطا على نقوده: “العسكري تمتد يداه لتفتيش جيوب ملابسي… وهو يسحب منها حافظة نقودي الجلدية السوداء، يفرغ محتوياتها على الطاولة، النقود يدسها في جيبه خفية..”، ص149، وورد كذلك في سياق الأحداث التي عجت بها الرواية قصة الحب من طرف نصار إزاء ابنة عمته حمدة التي هاجرت للسعودية والذي رغم قناعته بعدم نجاحه في الارتباط بها ظل وفيا لهذا الحب ولو من جانب واحد كما صرح بذلك: ” رغم فارق السن بيننا، ويقيني منذ البداية أنه كان مستحيلا أن نكون لبعضنا أزواجا رغم حبي الذي لا يموت ما دمت على قيد الحياة… لكنك ملهمتي . مشاعر طغت على تفكيري، سدت كل منافذ الرؤية باتجاه المستقبل، إلا نافذة واحدة.. فقط من خلال عينيك. ص 52، عشق لازمه لأمد طويل، بحيث سكن ضلوعه، وعشش في ذهنه حتى بعد زواجه ومن امرأة تتمتع بالوسامة والجمال: “رغم جمال زوجتي الباهر، لكنه لم يستطع التغطية على حبي الأول السلبي من طرف واحد إلى هذه الساعة وبعد هذه السنوات الطوال من زواجنا ما زالت عينا حمدة الأجمل…”، ص 222 . كما تضمن المتن السردي ذكر أسماء أعلام في السياسة، كنابليون، وتشرشل، وأمين الجميل، وميشال عون، ومعاوية بن أبي سفيان.
والأدب مثل حنا مينة، ومعروف الرصافي، وأمل دنقل، وامرؤ القيس، وابن الرومي، وتوفيق الحكيم، وصلاح عبد الصبور، وواسيني الأعرج.
والتصوف كالحلاج. وفي مجال الفقه والدين كابن تيمية، وابن حنبل. وهو ما أفرز استحضار فاضل، في عز محنته، داخل المعتقل أعلام مثل ابن تيمية: “ما قادني لهذا الشعور المفاجئ ، عندما تذكرت عالم الدين والفقيه (ابن تيمية).
حينما حُبِس، على خلفية اختلاف آرائه في العقيدة مع علماء السلطان الذين أرادوا سوءا. وفي فترة الحبس الثانية على خلافه مع الصوفية، عندما أنكر عليهم كثيرا من أفعالهم وشطحاتهم، رغم أنه كان صوفيا في بعض مراحله، ص125. في تقاطع وتماه مع وضعيته وقت اعتقاله: “عند إخباري بنقلي إلى سجن (عدرا)، الذي قضيت فيه ثلاثة أسابيع؛ لتكمل فترتي كلها تسعين يوما، كنت محتجزا على ذمة التحقيق عند المخابرات، وبلا مذكرة اعتقال”، ص 127، واستحضار الشاعر صلاح عبد الصبور حيث قال بصدد ذلك : الشاعر (صلاح عبد الصبور)، جاءني بصورته المرتسمة بقاياها في مخيلتي… استعرضت من جديد بقايا ما علق في ذهني مما قرأته قبل سنوات، في مسرحيته الشعرية الشهيرة (مأساة الحلاج).. ص128، مما ولَّد لديه حالة من تجاذب روحي وحسي: “خاصة في حبسه (يعني الحلاج)، اتحاد حالتي واندماجها بتماثل عجيب مع هؤلاء القوم من صفة الصفوة، الصفاء الروحي في أعلى تجلياته المتسامية على واقعي المتردي في هذا المكان الحقير…”، ص129، لينضاف إلى ابن تيمية، والحلاج، وصلاح عبد الصبور الروائي الجزائري واسيني الأعرج والإمام أحمد بن حنبل في أفق تداعي تتوارد صوره ومشهدياته : “لتقي (ابن تيمية)، و(الحلاج) جاء مقيدا بأصفاد رائعة (صلاح عبد الصبور، و(واسيني الأعرج). يا إلهي..!!.. التهيؤات تتجلى إلى تصورات أعاينها بكل قواي العقلية، الإمام (أحمد بن حنبل) حضر إلي أيضا ليشد من عزيمتي؛ فانجلت أغشية الظلام عن روحي، وحكى لي الكثير عن محنته في السجن، ومراودته على صلابته في الحق، وأساليب الإغراء بالترغيب تارة، وأخرى بالترهيب”، ص 130، فيجترح معهم حوارا ت، خاصة مع ابن حنبل، عقدية وجودية، واستخدام طرق القمع والترهيب لزعزعة قوة الإيمان بقناعة فكرية ودينية، للتحايل، بشتى الوسائل، على اجتثاتها واستئصالها. ولابد من الإشارة ولو باقتضاب لما ورد في مقابل عنوان الرواية “فوق الأرض” عبارة “التحت” مثل ما جاء على لسان فاضل: “فتساوى عندي الفوق والتحت، هذا التقارب؛ أطلقني للتفكير على سجيتي بلا قيود”.. ص 120، الذي سحب صفة التقابل والتضاد عن الفوق والتحت وهو ما غدا معه نمط تفكيره سلسا وتلقائيا. فرواية “فوق الأرض” تتضمن ميزات وخاصيات سردية موسومة بالتعدد والتنوع والتشعب والانفتاح مما يصعب معه الإحاطة بمكونات نسقها الروائي، ومجريات أحداثه، وتوجهات شخصياته بما يجمعها من مواقف ورؤى، وما يفرقها من سياقات حبلى بزخم من تحديات ورهانات نأمل أن نكون وفقنا في مقاربة بعضها من خلال هذه القراءة التي يعوزها الكثير من عناصر الإلمام والاستفاضة نظرا لضيق حدودها وحيزها.
_____________________________________________
ــ “فوق الأرض” (رواية) محمد فتحي المقداد ــ المكتبة الوطنية ـ الأردن 2019
