هل الإعلام أولوية؟
جمال المحافظ
في دردشة عابرة مع أحد الصحافيين المخضرمين من بين الذين اشتغلوا لمدة طويلة بوسائل إعلام دولية شهيرة، وانتقلوا منها للعمل بمنابر وطنية، من اجل المساهمة في الارتقاء بالإعلام الوطني، عبر توظيف خبرتهم المهنية التي راكموها. لكن وعلى الرغم من الوعود التي تلقاها، قبل التحاقه بالمؤسسة الإعلامية، اصطدم بواقع مرير يسيطر عليه ” جيوب مقاومة التغيير”، وهو ما جعله رغم محاولاته إلى “رفع الراية البيضاء”.
ومع توالى الأيام، تحولت “أحلامه الوردية” مع “فريقه الشاب” من أجل إحداث النقلة النوعية والتغيير المطلوب إلى سراب، وعوض أن ينجح أولا في “تغيير العقليات والممارسات”، حتى ينعكس ذلك على الأداء المهني، أصبح يخاف أن يتغير هو ويصبح أسير “التعليمات”، فقرر أن ينسحب “بشرف” اعتقادا منه بأن “دار لقمان قد تظل على حالها”، كما هي الآن .
لكن فضلا عن سؤال هل يشكل الاعلام أولوية؟ فإن المطروح هل هناك قناعة بالدور الحيوي لوسائل الاعلام تضطلع في أية عملية انتقال ديمقراطي، وذلك عبر تسهيل النقاش العام، وتمكين المواطنين من المشاركة والمساءلة، من خلال توفير وتداول المعلومات اللازمة لصنع القرار ويتيح للأحزاب السياسية الوصول إلى الناخبين. إذ لا يمكن للإعلام أن يقوم بهذا الدور الا في ظل الاستقلالية، حتى لا يتحول إلى مجرد وسيلة للدعاية.
إعلام وديمقراطية
وإذا كان يرى البعض بالمقابل، هل أصلا البناء الديمقراطي في حاجة للإعلام؟ فإن أسئلة جريئة مطلوبة في المرحلة الراهنة، لتأمل وتطارح كيف يساهم الإعلام في عملية البناء الديمقراطي، حتى يتمكن من مواكبة تحولات المجتمع وتكريس الديمقراطية، إذ “لا ديمقراطية بدون إعلام، ولا إعلام من دون ديمقراطية” رغم ما يرسمه المهنيون حاليا من “صورة قاتمة” عن وضع الإعلام راهنا.
فالديمقراطية ليست مجرد مؤسسات وفصل للسلطات وقضاء مستقل، بل كذلك كيف اتمكن المواطنات والمواطنين بشكل يومي من ممارسة الديمقراطية، التي حتى تتطور وتزدهر، يتعين أن تستند إلى إعلام تعددي، حر ومستقل، يساهم بشكل فعلي في تنشيط النقاش السياسي والثقافي والاجتماعي.
مؤسسة ديمقراطية
وإذا كان الإعلام سلطة مضادة ورقابة، ومؤسسة ديمقراطية، تجعل من أعمال السلطة موضوع مساءلة وتحقيق في ما قد ترتكبه من تجاوزات، فإن العلاقة بين الإعلام والدولة، خاصة في بلدان الهشاشة الديمقراطية، غالبا ما تتسم بالتعقيد والتوتر. غير أنه في الحالة التي تكون فيها مؤسسات الوساطة، كالأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، قد فقدت جانبا كبيرا من مصداقيتها، فإن الإعلام، يظل حاضرا، باعتباره الأداة الرئيسة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتوفير المعلومات المخالفة، خاصة تلك المرتبطة بتدبير الشأن العام.
لقد كان من الإيجابي أن ينص دستور 2011 لأول مرة على الحق في الإعلام، وأن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها في أي شكل من أشكال الرقابة القبلية، مع ضمان حق الجميع في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، مع إلزام السلطات العمومية بالتشجيع على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، والالتزام بما يحدده القانون من قواعد تهم تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع.
بيئة إعلامية
بيد أنه يلاحظ بالمقابل بأن العديد من هذه المقتضيات الدستورية رغم أهميتها، ما زالت تصطدم بإكراهات موضوعية وذاتية في مقدمتها بيئة الممارسة الإعلامية، والنقص الحاصل في التربية الإعلامية، وتراجع منسوب أخلاقيات المهنة، وعدم استيعاب غالبية الفاعلين، بما فيه الكفاية، للأدوار المهمة التي يضطلع بها الإعلام، ليس فقط في مجال النهوض بحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكن أيضا في تحقيق الديمقراطية والتنمية المستدامة.
فبغض النظر عن النوايا المعلنة، فإن الوضع الراهن يتطلب الارتقاء بمستوى تعزيز برامج التوعية، والتحسيس بأهمية ممارسة حرية التعبير والصحافة والإعلام، وتوطين موقع ووظائف الإعلام والتواصل في الديمقراطية والتنمية وطنيا وجهويا. كما أن الأمر يقتضى في ظل الضبابية السائدة في هذا القطاع، العمل على توسيع وتطوير الحوار والتشاور بين مختلف الفاعلين في مجال الاعلام والتحول الديمقراطي، سيساهم بلا شك في ترسيخ دور وسائل الإعلام كجهاز إنذار وأداة لليقظة المجتمعية وللرقابة على تدبير الشأن العام.
إعلام خارج النسق
لقد ظل الإعلام دوما خارج النسق والزمن السياسي، في الوقت الذي يتطلب ترسيخ الديمقراطية، أولا توفر إرادة الانتقال من علاقة الصراع والتوتر والتوجس وعدم الثقة بالإعلام، إلى علاقات مبنية على عدة مبادئ ضمان استقلالية هيئات التحرير عن الضغوط السياسية والإدارية والاقتصادية، وهي قواعد أساسية لضمان دور فعال في أي ممارسة ديمقراطية. ان المكلوب كذلك فتح أفق جديد لاستعادة الاعلام زمام المبادرة المفقودة .
وبالعودة الى الصحافي المخضرم، فإن المشهد الأخير – وهو عادة ما يكون الأهم في الأفلام والمسلسلات- فإنه يلاحظ في زمن اللايقين الإعلامي، وبعد انصرام مدة طويلة، على مغادرته للمؤسسة الإعلامية، من “إصرار” على الإبقاء على “نفس الكتيبة” رغم ما تراكم من فشل ذريع في التدبير، وهو ما جعله يصبح أكثر اقتناعا – كما هو شأن فئة واسعة من نظرائه، بأن الإعلام بالفعل ليس أولوية بالنسبة لمدبري الشأن العام ومن خلالهم واضعو السياسات العمومية في الاعلام الذي يعد خدمة عمومية ويشكل العمود الفقري لأي مساءلة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
