هَلْ طَوَى الْمَغْرِبُ فِعْلًا صَفْحَةَ الْمَاضِي؟

عبد الرحمان الغندور
يمر المغرب بمنعطف مؤلم، يُعيد إلى الأذهان استفهامات جوهرية حول طبيعة المرحلة الانتقالية التي عاشها البلاد، والمسار الذي تسلكه اليوم في تعاملها مع ملف حقوق الإنسان والإرث التاريخي لسنوات الجمر والرصاص. فما تشهده الساحة من تطورات، ومن محاكمات للنشطاء والحقوقيين، ومحاصرة للحركات الاحتجاجية، واستخدام أساليب التشهير عبر أذرع إعلامية موالية، يدفع إلى إثارة سؤال مركزي حول مدى جدية المصالحة التي نُظِر لها، وعما إذا كانت البلاد قد تجاوزت ماضيها الأليم حقًا أم أنها تعيد إنتاج انتهاكاته بصيغ جديدة.
لقد مثَّلت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، في بداية عهد الملك محمد السادس، لحظة فارقة في التاريخ المغربي الحديث. كانت لحظة رمزية وقوية، اعترف فيها النظام، ولو جزئيًا، بوجود انتهاكات جسيمة في الماضي، وسعى إلى تعويض بعض الضحايا معنويًا وماديًا. هذا الإجراء، دون شك، كان تقدميًا في سياقه الإقليمي، حيث نادرًا ما شهدت دول المنطقة مبادرات مماثلة للاعتراف بجرائم الماضي. لقد أرست الهيئة سابقة مهمة، وفتحت ملفًا كان مغلقًا، وبدت وكأنها تطوي صفحة من صفحات العنف السياسي المنهجي. لقد كان مشروعًا طموحًا يهدف إلى “طي” الصفحة وبناء شرعية جديدة قائمة على الاعتراف بحقوق المواطن وحرمته.
غير أن التساؤل الذي يفرض نفسه اليوم، وبقوة، هو: هل كان ذلك طيًا حقيقيًا للصفحة أم كان مجرد تقليب لها؟ يبدو أن الإجابة معقدة. فطيّ الصفحة الحقيقي يفترض عدم العودة إلى ممارسة انتهاكاتها، وأن يُبنى على أساسها مستقبل متحرر من أشباحها. إلا أن الممارسات الحالية تشير إلى استمرار منطق قمعي، وإن كان بأدوات وأشكال مختلفة. فلم يعد الأمر يتعلق بمعتقلات سرية وتعذيب وحشي في أقبية، كما كان سائدًا في عهد الحسن الثاني، بل تحول إلى آليات أكثر “حداثة” وأقل علنية، لكنها تحمل في طياتها نفس الروح القمعية.
فمحاكمة النشطاء الحقوقيين والصحفيين والمشاركين الحراكات الاجتماعية، مثل أحداث الريف وجرادة وزاكورة، تحت ذرائع قانونية غالبًا ما تكون هشة، تذكرنا بمحاكمات الماضي السياسية. حيث يتحول القضاء من أداة يناط بها تحقيق العدالة إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية وكبح جماح أي صوت معارض أو محتج. وإن إيداع نشطاء وراء القضبان بسبب منشورات على فيسبوك أو بسبب المشاركة في مسيرات سلمية هو انتهاك صارخ للحق في التعبير والتجمع، وهو أمر لا يليق بمرحلة يفترض أنها تجاوزت هذا النوع من الممارسات.
كذلك، فإن سياسة التشهير والتبخيس عبر ما يُعرف بالصحافة “المأجورة” أو التابعة للنظام، تمثل استمرارًا لسياسة “التسفيه” التي عرفها العهد السابق. فبدلًا من مواجهة الرأي المخالف بحجج سياسية، يتم توجيه سهام الهجوم الشخصي، وتشويه السمعة، وخلق حملات إعلامية مسعورة لتجريد الخصوم من مصداقيتهم ووصفهم بأوصاف مثل “عملاء” أو “انفصاليين” أو “خونة ” أو “مخربين” أو “معادين للوطن”، خاصة أولئك الذين ينتقدون الفساد أو يرفضون سياسة التطبيع مع إسرائيل. هذه الآلية لا تقل خطورة عن القمع المباشر، فهي تهدف إلى تحطيم الإنسان معنويًا وعزله اجتماعيًا.
وهنا يبرز سؤال المصالحة الحقيقية. فالمصالحة ليست مجرد تعويض مالي لضحايا الماضي، بل هي عملية شاملة تتطلب إصلاحًا مؤسساتيًا عميقًا يضمن عدم تكرار الانتهاكات. وهذا يشمل إصلاح القضاء لجعله مستقلاً ونزيهًا، وإصلاح الأجهزة الأمنية لتعمل تحت سلطة القانون وليس كأداة للقمع السياسي، وخلق فضاء ديمقراطي حقيقي يتسع للاختلاف والمعارضة. ويبدو أن هذا الإصلاح المؤسساتي لم يكتمل، بل إن هناك تراجعًا ملحوظًا في العديد من المكاسب التي تحققت، مما يعني أن جذور المشكلة لم تُستأصل بعد.
وبالتالي، يمكن القول إن المغرب لم يطوِ صفحة الماضي بالمعنى الحقيقي للكلمة. لقد قام بتغليفها بطريقة ذكية، مقدماً نموذجًا للمصالحة كان تقدميًا في شكله لكنه بقي ناقصًا في جوهره. ما يحدث اليوم ليس سوى تجديد لتلك الانتهاكات، ولكن بوجه آخر أقل قسوة ظاهريًا وأكثر دهاءً. إنه يعيد إنتاج نفس المنطق القديم في ثوب حديث، مما يخلق حلقة مفرغة من الانتهاكات والاعتذارات الشكلية التي تفتقر إلى الإرادة السياسية الحقيقية للقطع النهائي مع الاستبداد.
وفي الختام، فإن الطريق نحو المصالحة الحقة لا يزال طويلاً. إنه طريق يتطلب شجاعة سياسية أكبر للاعتراف بأن آليات القمع لم تتغير جوهريًا، والاستماع إلى صوت الشارع المغربي الذي يطالب بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وليس مجرد الرضوخ لوصفات خارجية أو شكليات لا تمس صلب المشكلة. المصالحة الحقيقية تبدأ عندما يصبح كل مواطن مغربي يشعر بأنه محمي بالقانون وبأن صوته مسموع، وأنه لن يُعاقب لمجرد اختلافه أو معارضته. دون ذلك، ستبقى صفحة الماضي مفتوحة، تتقاذفها رياح التغيير الشكلي وعواصف الاستمرارية الجوهرية للمنطق القديم.