وادي الشعبة بآسفي.. الخطر المتكرر منذ قرون
عبد الله النملي
شهدت مدينة آسفي أمطارا استثنائية لم تشهدها المدينة منذ عقود خلت، جرفت الحجر والبشر، كانت كافية لفيضان وادي الشعبة وإغراق المدينة العتيقة وحصول كارثة حقيقية، خلفت خسائر جسيمة في الممتلكات والأرواح، كما وثقت الكثير من أشرطة الموت على مواقع التواصل الاجتماعي الخسائر ومشاهد الرعب التي عاشها الضحايا قبل أن يقضوا، بعد أن جرفتهم مياه الأمطار الطوفانية، في حين لازال البحث جاريا عن آخرين. الحادث الذي وثقته الهواتف النقالة، وجرى تقاسمه على نطاق واسع، وبثته كبريات المحطات الفضائية العالمية، شكل صدمة واسعة للمواطنين.
صُنفت خسائر الكارثة التي أصابت آسفي بأنها من بين الأشد التي عرفها المغرب خلال فيضانات العقد الأخير، فقد وجد عدد كبير من السكان والتجار أنفسهم بلا مأوى وعمل، بعد أن ألحقت السيول أضرارا جسيمة بمنازلهم ومحلاتهم التجارية، جعلت بعضها غير صالح للسكن أو خارج الخدمة، في حين أصبحت أخرى مهددة بالانهيار.
ولازالت الأسر المكلومة تلملم جراحها إثر هذه الكارثة، كما أن نشرات الأخبار تتداول أرقام الضحايا ومعطيات المفقودين وكذا عدد المنكوبين واستمرار حالة الهلع. ويبدو أن السلطات المحلية ترفض الاعتبار من كل الكوارث السابقة التي تسبب فيها وادي الشعبة عبر التاريخ، حيث يشير خبراء ومؤرخون أن مدينة آسفي، قلب منطقة عبدة، عانت منذ قرون من مجرى الوادي الذي يعود في كل مرة مذكِّراً أهل المدينة بقوة الطبيعة وقسوة الفيضانات.
وبحسب مؤرخين مغاربة، فقد شهدت مدينة آسفي خلال القرون الثلاثة الأخيرة 4 فيضانات كبرى، كان مصدرها جميعا وادي الشعبة، وكان آخرها سنة 1927، والذي داهمت فيه السيول المدينة، وأغرقتها بدون أن تستثني مسكنا أو متجرا. والسبب راجع إلى عدم احترام مقاييس البناء، أو إنجاز بعضها على أراض غير صالحة تماما، كما أن بعض المشاريع لا تزال تجسد على مستوى الأودية، نتيجة أخطاء التوسع العمراني الذي يزحف على مجال الأنهار والأودية، وعدم مراعاة المجاري الطبيعية للوديان في تصاميم التهيئة، وعدم احترام مسافة الأمان من الأنهار، رغم تحذيرات الخبراء ومكاتب الدراسات، ما يجعل شبح الموت يتربص بآلاف المغاربة.
إن سبب فاجعة المدينة العتيقة بآسفي، يعود كذلك إلى فشل النظام الذي أحدثته كتابة الدولة المكلفة بالماء ووزارة الداخلية سنة 2018، حول اليقظة الرصدية، والذي كان من أهدافه التحذير من الظواهر الجوية والبحرية القصوى. ذلك أن النشرة الإنذارية الرسمية لم تتضمن أي تحذير يهم مدينة آسفي، رغم التساقطات الرعدية العنيفة التي شهدتها المدينة بشكل مفاجئ، علما أن هذا النظام يتيح إمكانية اتخاذ قرارات استباقية لفائدة المواطنين، وكافة مستعملي المعلومة الرصدية من أجل التصدي للظواهر الطبيعية كالأمطار الغزيرة، وفيضانات الأنهار والأودية والرياح القوية، والتساقطات الثلجية، وموجات الحر، والبرد والأمواج العاتية.
فيضان وادي الشعبة بآسفي هو مزيج من الأمطار الغزيرة والخلل البنيوي في مجرى الوادي، فضلا عن أن انسداد مجرى الوادي بالأوحال والأتربة والحجارة والنفايات أدى إلى تغيير في مساره. وأدى تراكم الأوحال والمخلفات والكتل الخرسانية إلى انسداد المنفذ الطبيعي للبحر، مما تسبب في ارتفاع منسوب المياه وتحول المدينة إلى “بحيرة” خطيرة. ويُعزى ذلك إلى غياب الصيانة الدورية، والتقصير في التعامل مع مجرى الوادي التاريخي، والتخطيط العمراني غير الملائم، مما فاقم من آثار الظواهر المناخية المتطرفة، ناهيك عن التعامل مع المشكلة برد الفعل بدلاً من الاستباق، وعدم ربط التاريخ بالواقع، مما أدى إلى بناء مناطق عالية الخطورة حول الوادي.
وأمام هول فاجعة آسفي وما خلفته الفيضانات من ضحايا وخسائر فادحة، وترك الساكنة تواجه مصيرها، واعتبار بعض الدوائر الفيضانات الأخيرة قوة قاهرة، جعلها تتحرك بوسائل بدائية، الأمر الذي خلّف استياء عميقا. والحال أن الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العامة مسؤولة عن أضرار الفيضانات، لكونها لا تعتبر قوة قاهرة لأنها كانت متوقعة، لكن السلطات لم تخبر المواطنين باحتمال وقوع فيضانات، وإشعار المواطنين بالخطر المحدق بهم من وادي الشعبة، خاصة أنه كان من الممكن تفادي سقوط أرواح بشرية من قبل السلطات لو أنها فعّلت وسائل الإنذار مع إخلاء السكان من أماكن الوادي، وهذه الالتزامات ليست مستحيلة، مما يجعلهم في حكم المرتكب لخطـأ جسيم.
إن السياسات الوقائية يجب أن تشكل أساس تدخل الدولة في مجال إنجاز البنية التحتية قبل الملاعب العالمية. ولاسيما بناء سدود أو قنوات كبيرة لصرف المياه، بهدف الحماية الدائمة للسكان والمراكز والأنشطة الاقتصادية والفلاحية الموجودة في المناطق المهددة من الفيضانات. وحيث إن الأمطار الغزيرة والاستثنائية المُسببة للفيضان، لا تعتبر قوة قاهرة، وإنما قرينة على ترتيب المسؤولية لكون وقوعها من الأمور المتوقعة وليست سببا أجنبيا للإعفاء من المسؤولية، ما يفتح الباب للمتضررين للمطالبة بتعويض من الدولة، بسبب إهمال البنية التحتية أو سوء تسيير المرافق، وليس لكونها حدثاً طبيعياً لا يمكن توقعه أو دفعه، وفقاً لقانون الالتزامات والعقود، خاصة الفصل 79 والفصل 269.
وعليه، فالحكومة مدعوة لاعتبار فيضانات آسفي واقعة كارثية وتعويض الضحايا بواسطة صندوق التضامن الذي يوجد تحت وصاية وزارة المالية، خاصة أن المغرب يتوفر على المخطط الوطني للوقاية من الفيضانات منذ سنة 2002، وقد كشف هذا المخطط عن 391 موقعا مهددا بخطر الفيضانات، وحوالي 90 موقعا في حالة حرجة تستدعي التدخل العاجل لحماية السكان وممتلكاتهم. ومن الخلاصات التي خرج بها المخطط أن 94% من الفيضانات ناتجة عن تعمير غير منظم، وأن 50% من الفيضانات هي نتيجة لسوء التحكم في نظام جريان لعدد من الأودية.
إن ظاهرة فيضانات الوديان أصبحت تفاجئنا جميعا من حين لآخر تستدعي تظافر جهود الخبراء والمختصين وخاصة السلطات المحلية لحماية أرواح المواطنين، ووضع ضوابط لإنجاز المساكن بجوار هذه الأودية والأنهار بالمقاييس الكفيلة بحماية الأرواح في حالة عودة الفيضانات إلى الظهور، ومنع البناء في المواقع المتداخلة مع مجاري الأودية وبطونها حتى لو كان صاحبها يملك صكا شرعيا، وضرورة معالجة مشكلات السيول، ووجوب المحافظة على مجاري الأودية ومحارمها من خلال تحويل مسار الشعاب عن المواقع الآهلة بالسكان من بداية مجراها لتكون مسارا آخر يقي الساكنين من مخاطر السيول، وجعل الخريطة الجيوتقنية أهم وثيقة من ضمن وثائق التعمير، واستثمار التكنولوجيا الحديثة في مجال التنبؤات بحدوث الفيضان (صور الأقمار الصناعية، وتقنية الاستشعار عن بعد)، وتعميم أنظمة الإنذار المبكر على جميع الأودية، وبناء سدود تلية على الأودية الجافة، وحواجز إسمنتية لكسر سرعة الجريان عند حدوث تساقطات مطرية مركزة.
