يقول الاحتفالي: المال والبيروقراطية قتلا المسرح العربي

يقول الاحتفالي: المال والبيروقراطية قتلا المسرح العربي

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

           لقد اكد الاحتفالي دائما، وهو المؤمن بالنشوء وبالارتقاء وبالسير إلى الأمام، وبالتحليق عاليا باتجاه الأبعد والأعلى والأسمى، على أن الآتي غدا هو الأجمل، وهو الأكمل، وهو الأصدق دائما، وبذلك فقد كانت مسيرة الاحتفالي، فكرا وفنا وعلما وصناعة، نحو المستقبل، ولقد اكدت الاحتفالية في كل كتاباتها النظرية والإبداعية على أن ما لا يأتي اليوم، يمكن أن يأتي غدا، أو بعد غد، أو بعد غد، أو في أي يوم من الأيام الآتية إلينا من الغيب، ولقد أتى الآتي في المسرح المغربي والعربي اليوم وما تغير فيهما أي شيء، إلا في العناوين البرانية فقط، وظلت عجلة هذا المسرح تدور وتدور في مكانها، من غير أن تحمل أي جديد حقيقي غير الأماني والأحلام التي قد تصل درجة الأوهام.

وهذا المسرح المغربي العربي هو اليوم مسرح بلا ذاكرة، وهو مصاب بداء الزهايمر في كثير من تجاربه الممتلئة بالفراغات، وهو مسرح يعيش لحظته ويومه وساعته التي هو فيها، في انفصال تام عن أمسه وعن غده، وعن بيئته ومناخه، وعن كائنه وممكنه، وعن واقعه وتاربخه، هذا إذا كان له فعلا تاريخ، والأفكار والمعاني والحالات في هذا المسرح تولد وتموت في نفس اللحظة، ولا أحد من المسرحيين اليوم، إلا من رحم ربك، يمكن أن يرى أبعد من أنفه، والمهم عنده هو أن ينتج مسرحية، أية مسرحية، وأن يعرضها، بحضور الجمهور أو بغير حضوره، لا يهم.

هو مسرح إذن هجين في مجتمعات عربية هجينة، مسرح فيه مهرجانات حقيقية قليلة جدا، ولكن فيه (بهرجانات) كاذبة ومزيفة كثيرة جدا جدا، مسرح بلا هوية فكرية وبلا ملامح جمالية، مسرح يعيش يومه في انفصال تام عن أمسه وعن غده، وعن كائنه وممكنه، والأفكار فيه تولد وتموت في نفس اللحظة، ولا تجد من يخالفها ولا من يجادلها، بل ولا يسمح لأي أحد بان يخالفها أو أن ينتقدها أو أن يتحداها أو أن يقترح غيرها.

ولعل أبرز ما في هذا المسرح هي مهرجاناته، والتي هي مهرجانات كثيرة جدا، تتشابه في كل شيء، وتقول نفس الكلام، وتعرض نفس المسرحيات، وتبدأ نفس البدايات وتنتهي نفس النهايات، وبين الافتتاح الرسمي والاختتام الرسمي يغيب المسرح ويغيب معه جمهور المسرح أيضا.

أين المسرح في صورة هذا لمسرح؟

ويحق لنا اليوم، وغدا وفي كل يوم، أن نتساءل، هذا الذي نسميه المسرح العربي، والذي له هيئة عربية، وله وزارات وادارات ومقالات ومجلات ومعاهد وكليات، ما نسبة المسرح فيه؟ وما نسبة العروبة فيه؟ وما نسبة الاجتهاد فيه؟ وما نسبة البحث العلمي الفكري والحمالي فيه؟ وما نسبة التجريب المختبري فيه؟ وما نسبة العقل والعقلانية فيه؟ وما نسبة الصدق والمصداقية فيه؟

إن هذا (المسرح) يحتاج بكل تاكيد إلى فعل تاسيسي جاد وجديد ومتجدد، أو إلى فعل إعادة التأسيس، ونعرف أنه لا مجال لممارسة فعل التأسيس الحق إلا من خلال وجود أرض أولا، ومن خلال الحفر عميقا في هذه الأرض، ونحن، في أرضنا وفي تربتنا الفكرية والجمالية، هل اشتغلنا جديا على إقامة الاساسات العلمية والفكرية والجمالية والصناعية والتقنية لهذا الذي نسميه المسرح العربي؟

وهذا المسرح الذي ندعي أننا نبنيه، هل نحن نبنيه في أرضنا وفي تربتنا وفي ثقافتنا وفي لغتنا وفي لحظتنا التاريخية أم إننا نبنيه خارج شروطه الموضوعية وفي غير ارضه، وبغير هندسته المعمارية، وبغير أدواته الفكرية والجمالية والأخلاقية؟

شيء مؤكد أن أغلب التجارب المسرحية المغربية والعربية هي اليوم مجرد نوافذ ومجرد شرفات مفتوحة على كل مسارح العالم،. وهي ترى وتشاهد كل تجارب، من غير أن يراها وأن يشاهدها كل العالم، ومن هذه النوافذ، ومن هذه الشرفات، نطل على اجتهادات الآخرين ولا نجتهد، ونقتبس إبداعات الآخرين ولا نبدع، ونردد كثيرا من الأفكار ولا نفكر، وأكثر من هذا، فإننا لا نسمح لأي مفكر فينا أن يفكر، ولكم أن تعيدوا قراءة تاريخ التفكير الاحتفالي وما جرى له مع جماعات التكفير وجماعات التخوين.

وأعتقد أنه من واجب المسرحي العربي اليوم أن يراجع نفسه، وأن يتساءل عن نسبة مساهمته في مسيرة المسرح العالمي، ومن العبثي أن تكون لهذا المسرحي نوافذ وشرفات، وأن تكون معلقة في الهواء وفي الفراغ، من غير أن يكون له بيته المقام على أرض فكرية وجمالية وأخلاقية صلبة، وما نسميه المسرح العربي هو اليوم، تماما كما كان بالأمس، مجرد نوافذ وشرفات مفتوحة على كل مسارح العالم، ومن العبثي أن تكون لك نوافذ من غير أن يكون لك بيت أولا، وهذه هي الصورة الأولى، أما الصورة الثانية فهي أن هذا المسرح العربي هو اليوم سفينة تائهة تبحر في محيط المسرح، من غير أن تكون لها خرائط، ومن غير أن تكون لها بوصلة، ومن غير  أن تكون لها وجهة محددة تقصدها، ومن غير أن يكون لها مرفا ترسو فيه، ومن غير أن تكون له قيادة عالمة وحكيمة.

أين هي خرائط المسرح العربي ؟

وهذا المسرح العربي، عندما كان مسرحا عربيا حقيقيا، في الثمانينات من القرن الماضي، بادرت لجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية، التابعة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس، بأن وضعت لهذا المسرح العربي مخططا شاملا ومتكاملا، ولقد ساهمت شخصيا، إلى جانب الباحثين د.محمد يوسف نجم ود. علي الراعي في إعداد هذا المخطط، والذي تم إقراره واعتماده بدولة الكويت، وبعد ذلك، جاءت الهيئة العربية للمسرح، والتي دعت المسرحيبن لإيجاد استراتيجيا المسرح العربي، ولقد تم الاشتغال عليها في ندوة موسعة، وتم تدوينها على الورق، ومن واجبنا أن نقف اليوم عند التساؤلات التالية:

ــ ما مصير تلك الاستراتيجيا التي فكر فيها فنانو ومفكرو المسرح العربي؟

ــ وأين هي اليوم خارطة الطريق في هذا المسرح العربي؟

ــ وما دور هذه الهيئة التي عطلت العمل الديموقراطي في دواليبها الإدارية، والغت مبدأ الشورى، واصبحت هيئة تعتمد الشللية والزبونية والمحسوبية والاستبداد بالسلطة؟

ــ وهل من المنطقي اختزال كل المسرح العربي في ثلاثة أشخاص يسيرون الهيئة بمزاجيتهم الخاصة؟

وكيف يكون المسرح فن التحاور والتشاور والتعدد والاختلاف مع اقصاء الآخر المختلف والمخالف؟

ــ وهل يعقل أن تعيش هذه الهيئة لعقود طويلة جدا من غير أن تعڨد جلسة واحدة مفتوح، بمشاركة المسرحيين في كل العالم العربي، وذلك لمناقشة حصيلة هذه الهيئة؟

ــ وما هي القيمة المضافة التي اتت بها الهيئة العربية للمسرح، من غير ستة ايام في السنة هي عمر مهرجان يتيم لا يعكس حقيقية المسرح العربي؟

ـ وبمقارنة بسيطة، بين المسرح العربي قبل هذه الهيئة وبعدها، يتبين بأن المسرح العربي كان قبلها بألف خير، وأنه كان له وجود و له حضور، وأنه قد كانت به تجارب مسرحية كبيرة وخطيرة وصلت لحد العالمية، وظهرت جماعات مسرحية حركت النقد المسرحي، وألهمت الباحثين والدارسين والمؤرخين في هذا المسرح.

ــ من قبل كان لهذا المسرح العربي جمهور مثقف ثقافة مسرحية شاملة، واليوم، لا وجود إلا لفضوليين يحضرون مع حضور أي مهرجان وپغيبون مع غيابه.

وبخصوص هذه الهپئة التي اغتالت حاضر المسرح العربي بدم بارد، وبتواطؤ مع حفنة من الإداريين البيروقراطيين، وأن تتم هذه الجريمة في واضحة النهار، والتي جعلت الفن المسرحي، بكل علومه وفنونه وىصناعاته، يتحول إلى مجرد كنيسة مسرحية مغلقة على رهبانها وعلى أحبارها وعلى سدنتها، بدل أن تكون بيت كل المسرحيين العاشقين للجمال والكمال، والمؤمنين بأخوة هذا المسرح، والذي لا فرق فيه إلا بين من يجتهد ومن لا يجتهد، وليس لأية اعتبارات مناعية أو مصلحية.

وأقول قولي هذا، إيمانا مني بأنه لا رهبانية في العلم ولا رهبانية في الفكر ولا رهبانية في المسرح.

وهذا الذي نسميه المسرح، والذي يتم اليوم خوصصته من خلال مجموعة من الإداريين هو اليوم مسرح له صور وما له جوهر، وله مبنى، وليس له أي معنى، وله جعجعة مهرجانية وما له طحين، وله أجراء يشتغلون بأجر، ويغيب فيه وعنه المسرحيون المبدعون الحقيقيون.

هو مسرح فيه أضواء وظلال وأزياء وأقنعة، وهل هذا وحده يكفي؟ خصوصا إذا كان هذا (المسرح) بغير حياة وبلا حيوية، وكان بلا صدق ولا مصداقية، وكان مسرحا لا يفكر، ولا يسمح فيه بالتفكير، ولا يعي اللحظة التاريخية، ولا يسأل ولا يتساءل، ولا يجتهد، ولا يجرب.. لأن المهم أو الأهم، الذي غاب ويغيب عن أخبار وكهنة الهيئة العربية للمسرح، هو روح المسرح قبل كل شيء، وهو عقل المسرح، وهو وجدان المسرح، وهو آداب المسرح، وهو أخلاقيات المسرح، وهو الطاقة الحيوية المحركة لمحركات المسرح، وهذه المحركات، هي اليوم معطلة حتى إشعار آخر.

أرادوا اغتيال الاحتفالية فمات المسرح العربي...

ويقول الاحتفالي في كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي)، وبعد أن جاء هذا هذا اليوم الجديد، من غير أن يحمل معه أي جديد، يقول:

(ولأن هذه الاحتفالية تؤمن بالزمن، فلم يخذلها الزمن، ورغم كل ما تعرضت له من حروب ومن معارك، فإنها لم تزدد مع الأيام إلا قوة وصلابة، وكل ذلك لأنها راهنت على الأساسي في الوجود والحباة، وأنها راهنت على ثقافة العصر، وأنها قرأت كتابات هذا العصر، وتفاعلات مع إبداعه، وحاورت نظرياته، وكل ذلك انطلاقا من الإحساس بالندية وبالأهلية، واقتناعا منها بأنه لا وجود للممنوعات والمحرمات في الحقل العلمي والفكري والجمالي).

وفي بيان القنيطرة الاحتفالية المتجددة يقول نفس هذا الاحتفالي ما يلي:

(وهذه هي الاحتفالية دائما، هي الأيام التي تأتي، لتمضي نحو المستقبل، والاحتفالية تأتي من المستقبل الأقرب، لتجه نحو المستقبل الأبعد، ولو أن هذه الاحتفالية جاءت من الماضي، لكانت اليوم من الماضي الذي يمضي، ولأصبحت نسيا منسيا، ومجرد وشم في ذاكرة الزمن.

هو بيان احتفالي جديد إذن، مهمته الأساسية هو أن يبين هذه الاحتفالية، وهي في درجتها الجديدة، وهي تعيش فعل التحدي، وذلك في عالم لا يتوقف لحظة واحدة عن التحول والتغير والتطور والتجدد).

وما أقوله عن الهيىة العربية المسرح ينطبق على وزارة الثقافة المغربية، وعلى الصبيان الذين اختطفوا مهرجانها، والذي حولوه إلى مهرجان للموظفين والإداريين ولكل من والاهم بالسوء إلى يوم الدين.

وللحديث بقية

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!