يقول الاحتفالي ما بعد الصيف.. يأتي الخريف

يقول الاحتفالي ما بعد الصيف.. يأتي الخريف

د. عبدالكريم برشيد

فاتحة الكلام

     الاحتفالي المتمرد والمتجدد، جناح التامي، والذي عودنا ان يكتب بجسده، وأن ينطق في صمته، وأن يرحل في إقامته، نجده هذه المرة يقول بلغة الكلام والمتكلمين ما يلي:

(حين تكون السلاسل الجبلية قد فرضت أسماءها، وتكون جبال الأطلس منبع الاحتفالية، فالجبال تبدو بشموخها صامدة مهما تطورت حياة الإنسان تبقى  الجبال واقفة. كما جاءت كلمات جيل جيلالة:

“من يوم ظهرت الجبال واقفه

تخالف الليل و النهار

ليام تنادي ب لجهار

مرة ياتيك صهد النار وتدفا

مرة تهيج لرياح

و لا لقيتك يوم مرتاح

وهكذا هي الحياة بين اختلاف الليل والنهار, وبين تعاقب الفصول، وتعاقب الدهور، وبين ماض مضى وآت سوف يأتي، وبين من يحضر من أجل أن يغيب، وبين من يغيب هنا معنا، ليحضر هناك مع الأخرين، في الأمكنة وفي الأزمنة الأخرى، ولكن الجبال وحدها تظل في مكانها تتحدى الزمان، وتتحدى الرياح، وتتحدى كل عوامل الطبيعة، وتظل هذه الأنهار وحدها، وفية لمجراها الثابت، تتجدد فيها المياه الجارية باتجاه البحر، ولكنها أبدا لا يمكن أن تخطئ طريقها، أو تخون خط سيرها، وبالنسبة للاحتفالي، في رهانه الوجودي على الثوابت الأبدية والسرمدية، فإن ما يتبدل وما يتحول لا يمكن أن نعول عليه، وهو في نهر الاحتفالية ثابت على الثوابت، ولكنه مغير ومتغير مع المتغيرات اليومية والتاريخية.

 وأسوا شيء هو أن يضيع منك شيء له قيمته، وأن لا تعرف كيف تبحث عنه، وتجد نفسك تبحث عنه في الزمان وفي اللامكان، مع أنه قد ضاع منك في مكان محدد، وفي لحظة زمانية محددة، وهذا ما يفسر حضور الاثنين الاحتفالية الأساسية و المحورية، والتي هي نحن والآن والهنا، وفي نفس هذا المعنى تقريبا يقول مولانا جلال الدين الرومي:

(لربما أنت باحث في الأغصان

عما لا يظهر إلا في الجذور)

وحتى الحقيقية مثل الأشجار لها جذور ايضا، ومن أراد أن يصل إليها فليمارس فعل الحفر في أعماق هذه الأرض، وفي أحشاء تربتها، وأن لا يكتفي بتأمل الصور وتأمل الأوراق والكتابات  عن بعد.

واليوم فقط، أمكننا وحق لنا أن نقول ما يلي، لقد مضى هذا الصيف أو يكاد، وحق للأيام أن تعود لدروتها، وحق لهذا الكاتب أن يستعيد علاقته المقدسة بالكتابة، وأن يواصل الحفر في ألواح الاحتفالية وفي نقشوها وفي لغتها الفردوسية وفي كتابتها الحيوية وفي مشروعها التاريخي.

ولولا هذا الصيف ما جاء الخريف، ولولا ذاك الخريف ما جاء الشتاء، ولولا ذاك الشتاء ما جاء الربيع، ولولا هذا الغياب العابر ما كان لهذا الحضور أي معنى، ولولا وجود شيء من الفوضى في الحياة ما كان لنظام الوجود والموجودات أي معنى.

لن أقول لكم بأنني في هذا الصيف قد كنت غائبا ثم حضرت، ولن أقول لكم بأنني لم أكن أمارس في سري كتابة أخرى سرية.. كتابة روحية ووجدانية بلا حروف وبلا كلمات وبلا عبارات وبلا أبجديات.

لقد مضى الصيف إذن، ومولانا الخريف اليوم يطرق كل الأبواب، وهذا الصيف قد نزع عن الأجساد أثوابها، أما الخريف فسوف يجرد الأشجار من أوراقها الصفراء الميتة.. هي دورة الحياة، أجساد وأرواح تأتي، وأجساد وأرواح أخرى تمضي..

    وهذا الصيف ـ سامحه الله – أخذ منا اسمين كبيرين في مجال الإبداع الصادق، الأول في التشكيل، وهو أمير القصبات ومبدع الإحساسية ذ. عفيف بناني. والثاني في السينما وتاريخ السينما، وهو الفنان والمؤرخ والشاهد الصادق على حياة الناس في حياة السينما، ذ. على حسن، رحمهما الله برحمته الواسعة، لقد ساعدا هذه الحياة من أجل أن تكون أكثر حيوية، وساعدا الجمال في النفوس وفي العلاقات وفي الطبيعة من أجل أن يكون أكثر جمالا، وساعدا التاريخ الثقافي الإنساني من أن أجل أن يكون أكثر إنسانية وأكثر مدنية، وأن يكتب اليوم وغدا  بشكل أصدق وأعمق.

ولكل عصر رموزه وأساطيره بكل تأكيد، واليوم نعيش أساطيرنا الجديدة المعاصرة، كما كتب الكبير د. محمد الكغاط في مسرحينه التي أعطاها نفس الاسم، وبخلاف ما قد يظن البعض، فإن الأسطورة ليست هي الخرافة، وقد لا تكون هذه الخرافة خرافة أيضا، وقد يكون فيها جزء غير ظاهر من الحقيقة، ولست أدري من قال:

ن الأساطير هي التعبير الرمزي لحقائق مؤكدة).

وهذا التعبير الرمزي في الأسطورة، هو الذي شغل كتاب وشعراء المسرح على امتداد التاربخ، وهو الذي جعل علماء علماء النفس يعيدون قراءة كثير من الأساطير الإغريقية القديمة كما وردت في مسرحيات كثيرة.

                      الكتابة الاحتفالية في درجة الاستمرار

     وما أقوم به اليوم ليس عودة لفعل الكتابة، لأن كل ما في هذه الحياة كتابة، ولأن الوجود كتابة، ولأن التاريخ كتابة، ولأن العمر كتابة، ولأن القدر كتابة ومكتوب، وما أكشف عنه اليوم بالحروف وبالكلمات وبالعبارات وبالإشارات والعلامات وبالصور، قد فكرت فيه بالأمس، ولقد كان معي أو كنت معه، واليوم أفرج عن الجني الذي في مصباح علاء الدين السحري، ليكمل لكم الحكواتي الاحتفالية حكاية الاحتفالية في التاريخ الاحتفالي.

 وعن هذه الكتابة المتواصلة والمتسلسلة والمتجددة أقول اليوم نفس ما قلته بالأمس، وذلك في مقدمة كتاب ( التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) لقد قلت:

(هذا كتاب آخر، له ما قبله بكل تأكيد، وسيكون له ما بعده بالضرورة، وأصدق كل الأفكار هي التي لها ما قبل، ولها ما بعد، ولها شجرة أنساب تنتسب لها، ولهذا الكتاب رؤية مسرحية مركبة، وله أرضية فكرية يقف عليها، وله فضاء يتسع فيه، وله مناخ يحيا فيه وبه، وله مسيرة طويلة ومتواصلة جدا وبشكل محكم، وله مسار فكري وعلمي وجمالي وأخلاقي محدد، وله محرك داخلي يجنبه السكون والثبات والجمود على الموجود، وله طاقة حيوية محركة، وله بدء معلوم في زمن معلوم، أو ما قد يشبه البدء، وله امتداد أيضا، والذي هو كتب أخرى قادمة في الطريق، وهو بهذا مجرد جزء صغير جدا، وذلك في مسار فكري و جمالي و إبداعي كبير جدا).

وكل كتابة في الديوان الاحتفالي هي كتابة أخرى، لها عمر اخر، ولها حياة أخرى.

وفي كتاب (كتابات على هامش البيانات) وتعقيبا على صدور (البيان السابع لجماعة المسرح الاحتفالي) يقول الكاتب الاحتفالي:

(إننا الآن في مقام آخر، وفي المقامات الأخرى ـ دائما ـ يكمن و يختبئ الكلام الآخر والكتابة الأخرى والتفكير الآخر.. التفكير المختلف والمغاير، والذي يمكن أن يؤسس الفكر الآخر.

إن الاحتفالية قديمة ـ نسبيا ـ ولكن كلماتها وحالاتها ودرجات وعيها وطبيعة هزاتها مختلفة ومتجددة باستمرار، فهي واحدة ومتعددة، وفي ذاتها ـ أو ذواتنا ـ أصول وفروع، وحقائق وأوهام، وفيها أضواء و ظلال، وفيها المعقول والمنقول والمحسوس والمتخيل، وفيها أشياء آنية وظرفية، وأخرى أبدية وسرمدية، وهي عندما تريد أن تخالف، فإنها تخالف نفسها أولا) وهي تردد دائما المقولة التالية:

(خالف تعرف) بفتح التاء وكسر الراء.

وأهل المعرفة دائما مختلفون ومخالفون، وهم أول من اكتشف ـ أو اخترع- الاختلاف، وأوجد الحوار سبيلا لممارسته (بالتي هي أحسن).

ويقول الاحتفالي، إن الساعات العادية هي وحدها التي نعيشها ونحياها ونكتبها بإحساس عادي جدا، ولكن الحالات الإستثنائية هي التي ينبغي أن نعيشها بإحساس استثنائي صادق، والتي ينبغي أن (نخلدها) من خلال وجود الشاهد المصور، سواء أكان شاعرا أو كان رساما أو كان  موسيقيا، أو كان مغنيا أو كان حكواتيا شعبيا، أو كان مؤرخا..

وفي البدء كانت الموسيقى، في شعرية الكون أولا، قبل شعرية الشعراء وقبل شعرية الموسيقيين وقبل شعرية العاشقين والصوفيبن، وبخصوص معنى الموسيقى في الفكر الاحتفالي، فقد ورد في كتاب الأستاذ عبد الرزاق الربيعي (الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) السؤال التالي:

(الاحتفال طرب وموسيقى، وفي الاحتفالية موسيقى تعبيرية ظاهرة. في الكتابة المسرحية إيقاع موسيقي أيضا، وأسألك، ماذا تعني الموسيقي في الرؤية الاحتفالية ؟) وفي الجواب يقول الاحتفالي ما يلي:

(هي صوت يكلم صوتا في دنيا الأصوات)، وهي بهذا شيء آخر  أكبر وأخطر من الأصوات التي تنتجها آلات العزف، وقبل أن تكون صوت آلة من الآلات الموسيقية، فهي (صوت الروح.. وروح الكون)، ففي الكلمة الشعرية موسيقى بغير آلة موسيقية، وفي الرقص إيقاع موسيقي بغير آلة موسيقية، وفي الطقس المسرحي أيضا موسيقى، وقد يكون في الصمت موسيقى أيضا.

ولعل أجمل وأنبل ما في هذه الموسيقى الكونية هو حوار الأصوات فيها، وهو تناغمها، وهو تكاملها، وهو أنها تتكلم لغة واحدة، نسميها لغة فردوسية، والتي هي أساسا لغة الطبيعة الحية، وهي بهذا لغة الحياة الطبيعية، ولا شيء أبغض إلى الاحتفالي أكثر من (النشاز، ومن فوضى الأصوات) و(الموسيقى يا صاحبي هي روح الوجود، وهي روح كل الموجودات، وروح كل المخلوقات والمصنوعات، وهي لغتها الأولى بالتأكيد، والتي هي أفصح وأصدق كل اللغات، وهي أبلغ كل اللغات الحية في هذا الكون، ومن بدري، فقد يكون في شخيري شيء من الموسيقى أيضا).

وتحتفي الاحتفالية كثيرا بالموسيقى في الشعر والتشكيل وفي الرقص التعبيري والسينما، لأنها تعني النظام،  وتعني الأصوات والحالات المنظمة، وتعني الأفكار المنظمة، وتعني الأفعال المنظمة، وتعني الكتابة الحيوية المنظمة).

وفي هذه الاحتفالية جانبان اثنان متكاملان، الأول معطى وجودي والثاني مكتسب، وفيها جانب ورثناه من الثقافة المغربية العربية الأفريقية الموريسكية والأمازيغية، وفيها جانب آخر اكتسبناه بالتجربة وبالتجريب وبالبحث والاجتهاد، ومن قراءة ومحاورة الثقافة الإنسانية والكونية، في كليتها وشموليتها، ولا يصح أبدا أن نفرط في أي جانب من جوانب هذه الثقافة الإنسانية الشاملة والمتكاملة.

                 الحركة الاحتفالية والمحرك الاحتفالي

     وهذه الاحتفالية، بكل أبعادها ومستوياتها وتجلياتها ودرجاتها وظلالها، ماذا يمكن أن تكون اليوم وغدا وفي كل يوم، سوى أنها حركة فكرية قبل كل شيء؟ هي حركة في تاريخ الفكر الحديث والمعاصر بكل تأكيد، وإن من يعتبرها مجرد جماعة مختلفة ومخالفة وعاشقة الاختلاف من أجل الاختلاف فهو واهم بكل تأكيد.

ولهذه الحركة محرك وجداني وعقلي، ولها طاقة حية متجددة تحركها، ولها عقل يوجهها، وقد يكون فيها شيء من الفوضى، ولكنها فوضى منظمة، وقد تكون في بداياتها الأولى ناقصة، ولكنها تعشق الكمال و الاكتمال وتسعى إليهما.

وهذه الاحتفالية، ولو أنها حلم حالمين،  فإن ما يحكمها هو الرؤية الواقعية، وهي نترجم الوقائع اليومية العادية إلى صور شعرية فوق عادية وفوق طبيعية وفوق طبيعية.

وهي حين تحلم، سواء في مسرح الوجود أو في المسرح المسرحي، فإنها تحلم عادة بشكل فني وجمالي، والعين في هذا الحلم الاحتفالي مفتوحة بشكل كامل، ولأنها عين عاشقة، فهي لا تخاصم هذا الواقع الا بحثا عن واقع آخر، واقع شعري و سحري، يكون أصدق من الواقع الواقعي، ويكون أجمل منه، ويكون أكثر إنسانية وأكثر مدنية منه.

ويؤمن هذا الاحتفالي، في واقعيته الشعرية السحرية، بأن ما ضاع منه هنا، ينبغي أن يبحث عنه هنا، وليس هناك، أي في (الآن) الزمنية  وفي (الهنا) المكانية، وإنه في هذا البحث عن الذات، لا ينبغي ان نفوض غيرنا ليبحث لنا عنا، و ليؤسس لنا فننا ويؤسس لنا فكرنا، وپؤيس لنا صناعاتنا الإبداعية المختلفة، وذلك في غيابها وبغير مشاركتنا.

وهذه الدرجة، هي الدرجة الأولى والأساسية والحيوية في سلم الواقعية الاحتفالية الشعرية،  ونحن في هذه الاحتفالية نؤمن بأن الواقع ليس كارت بوسطال جامدة، أي مجرد صورة ثابتة يبعد واحد أوحد، ولكنه أساسا وقائع اجتماعية وسياسية تاريخية، وقائع حية متحركة في واقع اجتماعي وتاريخي حي، وعليه، فإن ما نبحث عنه اليوم هنا، هو أساسا فعل و فاعلية وهو تفاعل حيوي مع الأحداث الحبة، وهو شيء يتغير، ويغير، ويتحول، وبتجدد بشكل دائم، وهو يتغير لحظة بعد لحظة ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام إلى ما لا نهاية.

وفي كتاب (كتابات على هامش البيانات) وتعقيبا على صدور (البيان السابع لجماعة المسرح الاحتفال) بمدينة سلا، يقول الكاتب الاحتفالي:

(إننا الآن في مقام اخر، وفي المقامات الأخرى ـ دائما ـ يكمن ويختبئ الكلام الآخر والكتابة الأخرى والتفكير الآخر .. التفكير المختلف والمغاير، والذي يمكن أن يؤسس الفكر الآخر.

إن الاحتفالية قديمة ـ نسبيا ـ ولكن كلماتها وحالاتها ودرجات وعيها وطبيعة هزاتها مختلفة ومتجددة باستمرار، فهي واحدة ومتعددة، وهي في ذاتها ـ أو ذواتنا ـ أصول وفروع، وحقائق وأوهام، وفيها أضواء وظلال، وفيها المعقول والمنقول والمحسوس والمتخيل، وفيها أشياء آنية وظرفية، وأخرى أبدية وسرمدية، وهي عندما تريد أن تخالف، فإنها تخالف نفسها أولا) وهي تردد دائما المقولة التالية:

(خالف تعرف) بفتح التاء وكسر الراء.

وأهل المعرفة دائما مختلفون ومخالفون، وهم أول من اكتشف ـ أو اخترع- الاختلاف، وأوجد الحوار سبيلا لممارسته (بالتي هي أحسن).

                        جماعة احتفالية في مجتمع احتفالي

     ونعرف أن هذه هذه الاحتفالية قد انتظمت في منظومة أفكار، وأنها قد تجسدت في أجساد حية، وأنها قد تشكلت في إطار جماعة مسرحية احتفالية، ولم تكن هذه الجماعة في يوم من الأيام تنظيما سياسيا أو نقابيا، ولم تكن هي الاحتفالية، كل الاحتفالية ولا هي كل الاحتفاليين في العالم، ولكنها كانت مجرد خلية إنسانية واحدة صغيرة.. خلية تتقدمها جماعة تشكلت بالصدفة الموضوعية في المجتمع الإنساني والكوني الكبير، والأصل في هذه الجماعة هو أنها أرواح إنسانية التقت وتعارفت وتكاملت واتفقت واختلفت، وهي مجموعة أفراد تقتسم فيما بينها عشق المسرح أولا، وتقتسم طريق المسرح ثانيا، وتقتسم فلسفة المسرح ثالثا، ولقد جاء كل واحد من  هذه الجماعة من مكان مختلف، ومن جهة مختلفة، وكان كل واحد يحمل إضافة فكرية وجمالية، وكان الشيء الأساس الذي جمعهم ويوحدهم هو أنهم كلهم كانوا يحلمون نفس الحلم، وكانوا (يقترفون) نفس التفكير الحر، وأنهم كانوا يكتبون بنفس اللغة وبنفس المعجم وبنفس الأبجدية المسرحية الاحتفالية الصادقة.

وهذه الجماعة الاحتفالية لم تكن ذات شكل هرمي، شكل له قاعدة في الأسفل، وله رأس في الأعلى، بل كانت أخوة فكرية، وكانت أخوة وجدانية، وكانت أخوة روحية، وهذا ما لم يفهمه النقد المسرحي الأيديولوجي في العالم العربي، والذي تصور أن تكون هذه الجماعة خلية حزبية، وأن تكون بياناتها الفكرية بلاغات عسكرية انقلاببة.

ومنذ البيان الأول، أكد الاحتفاليون على ان بنية هذه الجماعة بعيدة جدا عن بنية الحزب التي فيها زعيم و هتافون، وبعيدة جدا عن بنية المشيحة الصوفية، والتي فيها شيخ ومريدون، وبعيدة جدا عن بنية المدرسة، والتي فيها معلم وتلاميذ، وبعيدة جدا عن بنية شركة فيها صاحب رأس المال وفيها الأجراء.

وما يميز هذه الجماعة هو أنها كانت أكبر وأخطر من مجرد فرقة مسرحية، وكان هدفها أوسع وأرحب من مجرد كتابة وإخراج نصوص مسرحية بشكل مختلف، لقد كان هدفها هو تأسيس مسرح آخر، بوعي فكري آخر، وبجماليات فنية أخرى، وبتقنيات مسرحية أخرى.

لقد جاءت هذه الجماعة  إلى الوجود وهي تحمل مشروعا فكريا شاملا ومتكاملا، وفي هذا المشروع يتقاطع الفلسفي مع الجمالي، ويتحاور الواقعي مع التاريخي، ويتكامل فيها المسرح الكائن مع المسرح الممكن.

 ولقد آمن الاحتفالي دائما،  وابتداء من أول حرف ومن أول كلمة ومن أول فكرة، بأن تقديم هذا المشروع الثوري لن يكون سهلا، وأنه لا يمكن أن يمر بسلام، وأنه سپلقى المقاومة من أنصار السكون والركود ومن أنصار الكسل الفكري ومن سدنة المعابد المسرحية البائدة، ولهذا فقد لجات الجماعة إلى البيان، من أجل أن تبين ما يحتاج إلى تبيين، ومن أجل أن تكشف الستار عن المستور، ومن أجل ان تقدم نفسها للحقيقة والتاريخ، وأن يتم كل ذلك في النور وليس في الظلام.

وفي كتاب (كتابات على هامش البيانات) يمكن أن نقرأ ما يلي (ولأن الاحتفالية قائمة على أساس المكاشفة، وعلى التلاقي والمشاركة، وعلى الحوار والشفافية، فإنني أدعوكم إلى مائدة الاحتفالية الفكرية، وإلى حفلها وعيدها، وإني شخصيا ـ ومعي كل الاحتفاليين ـ نريد أن يكون هذا العيد عيدا لممارسة التفكير الحر والحيوية والمسؤولية، وأن تكون هذه الوقفة مناسبة لإنتاج التفكير الجديد والمتجدد.

إن هذه الاحتفالية لا تنشد شيئا ( آخر) إلا المعرفة، وهي تؤمن بان المعرفة معاناة و رحيل و احتراق، وهي دخول وخروج و اختراق لحدود الأشياء والمفاهبم والرموز والعلامات المختلفة، وهي محاولات لرفع الحجاب و إلغاء الكواليس والكفر بما  وراء المسرح. وحتى نتبين الحقائق فإنه لابد من البيان، ولابد من التبيين)

وكل ما خلف المسرح مسرح، وكل ما بعد المسرح مسرح، ولهذا فإن المسرح الذي عاشته الاحتفالية، والذي بشرت به، هو .. المسرح المسرحي.

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!