ابراهيم أوشلح في شهادة موثقة ومرجعية حول سنوات الرصاص
عبد الرحيم التوراني
♦
احتفاءً بوصول شهادة إبراهيم أوشلح الموثقة، “المغرب: التزام جيل وذاكرة النضال (1964-1994) من أجل سيادة أمة”، إلى القارئ العربي عبر ترجمة متقنة قام بها كل من نور الدين السعودي وعبد القادر الشاوي، صدرت عن “دار توبقال للنشر” بالدار البيضاء، نستعرض في هذا المقام مداخلة عبد الرحيم التوراني ضمن فعاليات مناقشة سابقة للكتاب، عُقدت بمناسبة صدور طبعته الفرنسية الثانية (ضمن منشورات مركز بنسعيد آيت يدر للأبحاث والدراسات)، وفي رحاب المقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية في الرباط، بتاريخ الأربعاء 18 يونيو 2025… شارك في اللقاء محمد خليل الصحفي بجريدة “البيان” بالفرنسية، وسير الجلسة الإعلامي الصافي الناصري، وتميز النقاش بمداخلات مميزة لكل من أحمد المرزوقي، وعبد اللطيف الزموري، (الذي رحل عنا قبل أيام)، وهما معا من الضحايا الناجين من جحيم المعتقل السري الرهيب تازمامارت. والحقوقي عبد الحفيظ ولعلو من الوجوه البارزة في حزب التقدم والاشتراكية.
♦
نص المداخلة:
[مساء الذاكرة والالتزام…
مساء الخير أيها الجمع الكريم، أيها السادة والسيدات الحضور الأفاضل،
اسمحوا لي بدايةً أن أعبر عن سعادتي الغامرة بالتواجد بين كوكبة من المناضلين والمثقفين والفاعلين للمشاركة في هذا اللقاء الثقافي والسياسي المتميز.
تحية واجبة للمنظمين الأوفياء للذاكرة الوطنية: مؤسسة علي يعتة، ومركز عزيز بلال للدراسات والأبحاث.. وجزيل الشكر لمستضيفينا الكرماء في هذا الصرح النضالي المبهج، المقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية.
كما أتقدم بتحية خاصة، مفعمة بالتقدير والاحترام، إلى الأخ والصديق والرفيق إبراهيم أوشلح، الذي نجتمع اليوم لنتدارس ونحتفي بمؤلفه الجديد، الذي هو بمثابة شهادة حية لذاكرته كثوري مغربي من زمن يُوصف أحياناً بـ “الثورة الموؤودة”.
واجب الحفاظ على الذاكرة
لا يسعني إلا أن أُثَمِّن عالياً الجهود الحثيثة والمضنية التي يبذلها إبراهيم أوشلح في هذا المسار النبيل الذي اختاره، مسار صيانة الذاكرة الوطنية. إنها ذاكرة مرحلة وتجربة ثورية، بما لها وما عليها من تقاطعات وإخفاقات…
إنها ذاكرة شهداء أبرار وهبوا أعز ما يملكون، فاسترخصوا أرواحهم على مذبح الحرية، وذاكرة أجيال من المناضلين دفعوا من حريتهم سنوات عجافًا، واقتيدوا إلى غياهب السجون ومراكز التعذيب السرية.. ومن نجا من أسرهم، عانى ويلات التشرد والمنافي.
منذ ما يناهز ثلاثة عقود، وأنا أتابع بإكبار هذا الالتزام الثابت لإبراهيم أوشلح في سبيل حفظ تاريخ منسي، تاريخ تعمل “جهات غير خفية” وبشدة، على تحريفه أو حتى طمسه وإلغائه، وكأنه لم يكن ولم يحدث أبدًا، وكأن أصحابه لم يوجدوا، ولم تكن لتداعياته ضحايا أو نتائج ومكتسبات لا يُمكن الاستهانة بها.
الحضور الفاعل والشاهد الخبير..
إبراهيم أوشلح، لم يتوان يومًا عن الالتزام بـ “واجب الحضور” حيثما يدرك مغزاه ودلالته. فنجده يسعى بنفس العنفوان والحماسة، وبقوة الإصرار والعناد، سواء من خلال مداخلاته الفكرية في الندوات والملتقيات المتاحة، أو عبر إسهامه بسخاء في إعطاء تصريحات وحوارات نوعية لمنابر إعلامية وطنية وأجنبية. واليوم، يتوج هذا المسار بـ إصدار هذا المؤلف الهام الذي يُعد وثيقة تاريخية مرجعية.
كنت شخصياً من الذين تشرفوا بمحاورة إبراهيم أوشلح، ولازلت أستفيد من آرائه الوازنة، ومن ملاحظاته الحساسة والبالغة الدقة، التي لا يبخل بها كلما تعلق الأمر بتاريخ الحركة الاتحادية خاصة. هو الخبير الميداني، والناشط السياسي، والشاهد من قلب الأحداث العاصفة والوقائع الحامية.
لا غرابة في هذا “الحضور الذاكري” الذي هو امتداد لحضوره النضالي والتاريخي، انطلاقًا من إيمانه الراسخ بأن الذاكرة هي المفتاح لفهم ما حدث وما جرى، وضرورية لبناء مغرب ديمقراطي حداثي تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة وحقوق الإنسان، مجتمع يضمن تكافؤ الفرص والإنصاف لجميع أفراده.
“المغرب: التزام جيل…”: وثيقة متعددة الأبعاد
إن كتاب “المغرب: التزام جيل وذاكرة النضال…” لإبراهيم أوشلح، هو مؤلف لا غنى عنه لمن يرغب في اكتشاف جوانب غير مُضاءة من تاريخ المغرب الحديث. إنه يقدم إضاءات حول حقائق مفصلة عن الاحتقان السياسي والاضطرابات الاجتماعية التي شهدها المغرب، خاصة في فترة السبعينيات الحاسمة، وهي تطورات وصلت حد تجريب العنف المسلح والانخراط في محاولات لقلب النظام الملكي. أحداث استثنائية كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من محركيها الرئيسيين، وكان الأخ إبراهيم أوشلح أحد الفاعلين الأساسيين ضمن هذه الحركة الثورية.
هذا الكتاب يصنف ببراعة ضمن كتب التاريخ الموثقة، والمذكرات السياسية، والسير الذاتية النقدية، والتأمل السياسي العميق. جميع هذه التصنيفات تنساب وتتقاطع دون تناقض، خصوصًا وأنها ترتبط بخيوط الذاكرة الفردية والجماعية، حيث نجد هنا الذاكرة العاطفية أو النفسية، التي تدمج تسلسلات الزمن بين الماضي والحاضر، وفق جدلية التذكر والنسيان.
فما هي فائدة قراءة كتاب يتناول التاريخ من هذا النوع؟
لا شك أن الإجابة تكمن في محاولة اكتشاف هويتنا وتعزيزها. لقد تطلب الأمر من المؤلف تجميع خيوط الأحداث وتفاعلاتها التاريخية، وقراءتها على ضوء السياق والظروف التي أحاطت بتلك الفترة.
إن معرفة حقيقة ما جرى وراء كواليس الأحداث تبقى مسألة ضرورية لإشباع فضولنا وعطشنا لمعرفة الحقيقة أو الحقائق، حتى ندرك بوضوح التحولات العميقة التي أنتجت واقعنا الراهن. ولذلك، فقراءة هذا الكتاب تساعدنا على فهم الحاضر بشكل أفضل.
إبراهيم أوشلح يستجيب لهذه الرغبة الإنسانية الفطرية في الاستكشاف، مُسافرًا بنا كقراء عبر الزمن، عبر الكتابة التاريخية كخيار متاح لاستكشاف الماضي.
سد الفجوات في التأريخ الوطني
إنها لغرابة أن نلاحظ تبعثر الإشارات التاريخية في الأحاديث المشتركة. فعندما نتحدث عن اليسار المغربي، نعود إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي، وما تفرع عنهما من تنظيمات (مثل “23 مارس” و”إلى الأمام”)، وعندما نتحدث عن سنوات الرصاص، نتذكر قوافل الشهداء (المهدي بنبركة وعمر بنجلون وسعيدة المنبهي) وجحيم تزمامارت، ونتذكر الأسماء الموازية (الحسن الثاني، وجهاز “الكاب وان”، ودرب مولاي الشريف برئاسة قدور اليوسفي).
لكن، الكثير من الفراغات والفجوات تبقى قائمة.

وعندما تثار أحداث مثل انتفاضة 23 مارس 1965، أو انتفاضة 20 يونيو 1981، نتذكر سطوة الوزير القوي إدريس البصري، لكننا نفتقد الخيط الرابط لتفاصيل الأحداث السرية (مولاي بوعزة أو قنبلة مسرح محمد الخامس)، وتكثر الروايات حول الواقعة الواحدة.
هنا يكمن دور أوشلح، فالغموض يسود ويهيمن عندما لا يعرف شاب ناشئ ماذا تعنيه تحديدًا عبارة “شهيد كوميرا” (إشارة لشهداء انتفاضة 1981). ولأن من يحوز الحقيقة الكاملة في قضايا كبرى، مثل تورط النظام في اغتيال الزعيم المهدي بنبركة، قد فضّل الصمت لسبب أو لآخ، تلح الحاجة إلى كسر هذا الصمت.
درس في الأخلاق السياسية
إن تقديم شهادات متنوعة للفاعلين، مع وصف وتقييم للأحداث التاريخية، يتيح إمكانية النقد والسجال والتدقيق، لا مجرد قبول مرويات قد تكون أحياناً كربونية مستنسخة وأحادية الجانب.
سأنهي هذه المداخلة باقتباس بليغ يقول: “مذكرات إبراهيم أوشلح… درس في الديمقراطية وفي الأخلاق السياسية”.
أعلم أن هذه العبارة، التي كتبها صديقي الكاتب والإعلامي المعطي قبال، قد ساورت الأخ إبراهيم بإحساس الخجل والتواضع الذي هو من شيم الكبار.
ولكن اسمح لي، يا صديقي أوشلح، أن أُضيف إن كتاب “المغرب: التزام جيل…” هو أيضاً درس في كيفية تقديم التاريخ من بين ثنايا وصلب التجربة المعاشة.
ودرس في الالتزام بالسعي نحو قول الحقيقة لفهمها في نطاق التجربة الإنسانية، دون لوم أو أدنى تخوف.
درس في صيانة الذاكرة، والحرص على ملء الفجوات في التأريخ للأحداث، وتصحيح هشاشة بعض المرويات بتنقيتها وتشذيبها من الزوائد الطفيلية.
أجدد الشكر لك، السي إبراهيم، على هذا الإنجاز القيمي والتاريخي الهام].
