محمد الماجدولي إعلاميا وإنسانا

محمد الماجدولي إعلاميا وإنسانا

الـمصطفى اجماهري

  1 

ولد سي محمد الماجدولي بمدينة فاس في ثالث نونبر من سنة 1932، اهتم بالصحافة في فترة شبابه واستفاد من تكوينات مهنية في هذا المجال خاصة بالقاهرة، وقد تبوأ مناصب مهمة بالإذاعة والتلفزة المغربية. كما تحمل عدة مسؤوليات على الصعيد الجهوي، حيث شغل منصب مدير محطة إذاعة فاس، فإذاعة وجدة، ثم محطة الدار البيضاء، التي التحق بها سنة 1970 إلى حين تقاعده سنة 1992. 

 كان متزوجا من الإعلامية حبيبة العلوي المعروفة بـ”ماما حبيبة”. 

توفي سي محمد الماجدولي رحمه الله بمدينة الدار البيضاء يوم الثلاثاء رابع يوليوز 2017. بلغني الخبر، أول الأمر، من الصحفي الصديق عبد الرحيم التوراني الذي كان على اتصال دائم به في السنين الأخيرة، وأحسست حينها بشيء يهز خاطري، والحال أن هذا الرجل هو من علمني الصحافة في بداياتي، في السبعينيات، حين اشتغلت تحت إشرافه وأنا بعد في الثانية والعشرين من عمري. 

2  

حتى أضع القارئ في الصورة ينبغي أن أعود قليلا إلى الوراء.

 ففي 1973 كنت أتابع دراستي بالقسم الفرنسي لشعبة العلوم السياسية بملحقة كلية الحقوق بساحة “ميرابو” بالدار البيضاء، قبل أن تحدث بها كلية مستقلة. عرفت تلك السنة الجامعية كثيرا من الاضطرابات، وكنت حينها قد بدأت نشر محاولات أدبية في جريدة “العلم”، وعن طريق هذه الجريدة قرأت إعلان مباراة لتوظيف عشرة محررين صحفيين بالإذاعة والتلفزة المغربية. وعلى إثر نجاحي فيها التحقت بالرباط في يناير 1974، وعينت بقسم التحرير التلفزي تحت إمرة رئيس التحرير أحمد قروق، وسكرتيرة التحرير ليلى أبوزيد. 

في قاعة التحرير، كنت سعيدا بوجودي، أنا الشاب القادم من ضاحية مدينة الجديدة، إلى جانب صحفيين من طراز رفيع من أمثال علي حسن، والطيب الإدريسي، ولطيفة القاضي، وبديعة ريان، وعبد السلام الصفريوي، ومحمد واكريم والطاهر بلعربي. 

وكان معي من المحررين الجدد المرحوم أحمد الزايدي، والمرحوم محمد إسماعيل، المخرج السينمائي، وفاطمة مومن مديرة العلاقات الخارجية فيما بعد.

 وكما يحدث في غالبية المؤسسات العمومية فإن المشكل المهني الذي عشناه في البداية كصحفيين جدد بالمقر المركزي هو “قلة الشغل”، لأن القدماء كانوا يهيمنون، تقريبا، على كل شيء. 

في تلك الأثناء، انتقل إلى مصلحتنا في الرباط الصحفي محمد ذو الرشاد من إذاعة عين الشق، مما أحدث فراغا بالطاقم الصحفي الصغير لمحطة الدار البيضاء. وهو ما جعل سي محمد الماجدولي يطلب تعيين صحفي مكانه. وكان هذا ما شجعني على طلب انتقالي إلى الدار البيضاء، رغم تحذير زميلي في الفوج، عبد الله العمراني، من كون الإذاعات الجهوية قد تكون منفى للصحفي الشاب، إلا أن الأمر، بالنسبة لي لم يكن كذلك. التحقت بمحطة عين الشق ومديرها آنذاك محمد الماجدولي. 

وعلى خلاف ما هو عليه الواقع العمراني اليوم كانت المحطة تبدو، من طريق مديونة، ببنايتها الضخمة شامخة وحدها في الخلاء. 

استقبلني الراحل في مكتبه الواسع، فمر بيننا خيط التفاهم بسرعة. قدرت فيه عطفه على صحفي مبتدئ مثلي. ومن حسن حظي أنه أخذ بيدي وعلمني كثيرا من أسرار المهنة وخاصة العمل الميداني. 

كان الماجدولي الذي خبر العمل الإذاعي طويلا، اسما معروفا في الساحة الإعلامية وصحفيا متمرسا في التحرير والروبورتاج وإعداد البرامج وتقديمها. تحمل المسؤولية على صعيد المقر المركزي وكذا بالمحطات الجهوية، فضلا عن توفره على صوت إذاعي جميل. كل هذه الصفات، فضلا عن كارزمية الرجل، جعلت منه شخصية محترمة ومقدرة في المؤسسة وخارجها.  

 وإذا كان عملي بالتحرير المركزي بالرباط قد انحصر خاصة في ترجمة البرقيات الإخبارية من الفرنسية إلى العربية، فإنني بمحطة عين الشق وجدت ورشا شاسعا. فكنت أشتغل يوميا تقريبا حتى السابعة أو الثامنة مساء في الروبورتاج الخارجي مع الكاميرمان محمد الصادقي مكوار (وهو في الأصل عازف على العود وملحن). 

كما كنت أعد نشرة خاصة بالدار البيضاء تذاع يوميا بعد الظهر من طرف المذيعة آسية فردوس، إلى جانب مساهمتي مع المخرج مصطفى الخياط، وتحت إشراف مباشر لمحمد الماجدولي، في إعداد البرنامج التلفزي “الدار البيضاء في أسبوع”. 

هذا البرنامج كان الماجدولي يختار فقراته بعناية حتى يعطي صورة حية عن ديناميكية العاصمة الاقتصادية للمغرب.

 3  

 كان محمد الماجدولي معروفا بتعامله الإنساني مع جميع عناصر وأطر المحطة من مراسلين، وتقنيين، ومصورين، وإداريين وعمال. وكان يقدر حجم المجهود الذي يبذله العاملون لإنجاز المهام اليومية وكذا خلال المناسبات الوطنية، خاصة وأن النفوذ الترابي لمحطة عين الشق كان شاسعا يمتد، خارج البيضاء، إلى الجديدة وسطات وخريبكة وبني ملال والمحمدية ووادي زم وأبي الجعد. 

كانت المحطة إبان إدارته كخلية نحل. والأجمل في كل ذلك هو جو الحميمية بين مكوناتها. وبالرغم من اتساع المجال فلم يتعد عدد المراسلين ثلاثة، اثنان لهما تجربة طويلة، هما مجد عبد الرحمان (الذي بدأ حياته في التعليم)، والأزدي الميلودي (مسؤول سابق عن البرمجة)، وأنا وقتها حديث العهد بالمهنة. 

كان محمد الماجدولي، مدير المحطة، يحدد توقيت عملنا نحن الثلاثة في جدول يسمى “برنامج العمل للمراسلين الإخباريين”، ما زلت أحتفظ بنسخة منه. يحدد هذا البرنامج ساعات العمل لكل مراسل ويوم عطلته الأسبوعية. وكان الإذاعي أحمد زكي بوخريص (كاتب كلمات أغنية “ماأحلى إفران”) ينوب عن المندوب أثناء غيابه. وكان من بين المتعاونين مع المحطة الصحفي كمال لحلو، والمعلق الرياضي محمد الزوين. 

 وبفضل محمد الماجدولي، تعرفت على عدد من العاملين في الحقل الصحفي البيضاوي آنذاك. أذكر من بينهم مثلا حسن العلوي قاسمي من “لومتان”، وعبد الله العمراني رئيس مكتب “لاماب” آنذاك ومعه عبد العزيز غويبي، زميلي بفرع كلية الحقوق، وأحمد بنسنة من جريدة “العلم”، ومحمد الشوفاني الفاسي، مدير “أصداء إفريقية” الصادرة بالفرنسية، والمرحومة عائشة مكي، صحفية سابقة بالإذاعة، والمشهورة بصفحتها الأسبوعية في “لوبنيون”. 

 في تلك الفترة من منتصف السبعينيات، شرعت وزارة الأنباء في ممارسة الرقابة القبلية على الصحف التي كان بعضها يصدر بالدار البيضاء. كلفت الوزارة، في البداية، محمد الماجدولي بصفته المندوب الجهوي للإذاعة والتلفزة بالدار البيضاء بمهمة الرقابة على “البيان”، و”مغرب أنفورماسيون” و”لاماليف”. كان الماجدولي يطلع بسرعة على محتوى الجريدة التي يحضرها مبعوثها في المساء ثم يعطي هاتفيا “الضوء الأخضر” للمسؤول على التحرير بطبعها. فطيلة مدة اشتغالي مع الراحل، لم يعترض أبدا على محتوى أية جريدة ما دامت هي نفسها كانت تمارس رقابة ذاتية.             

هنا سيطلب مني الماجدولي مساعدته في مراجعة الصحف الصادرة بالفرنسية. شرح لي طريقة القراءة السريعة للصحيفة مع التركيز على الصفحة الأولى. وطلب مني أن أخبره هاتفيا، في منزله داخل محطة الإذاعة، بالعناوين الأساسية التي عالجتها الجريدة، أو تلك التي أقدر أخذ رأيه بشأنها. 

لا أنكر أنني تضايقت من طلب المندوب، خاصة لأن دوامي، في هذه الحالة، قد يستمر إلى العاشرة ليلا. وفي ليالي الشتاء، يكون صعبا علي التنقل بدراجة نارية من طريق مديونة إلى محيط مقطع ولد عايشة في درب غلف.            

 شرعت فعلا في ممارسة العمل الذي كلفني به المندوب، إلا أن مكوثي مساء بمقر الإذاعة بعد مغادرة العاملين أثار انتباه بعض قدماء التقنيين “فنصحوني” بمغادرة المحطة كباقي الموظفين ما دامت الرقابة، كما قالوا، من اختصاص المندوب وحده. تجاهلت “نصيحتهم” في البداية، لكن إلحاحهم علي في التخلي عن المهمة، وقلة تجربتي ورغبتي في الظهور أمامهم بعدم الخنوع، جعلني أنساق لإلحاحهم. 

هكذا، ذات مساء غادرت المحطة حينما كانوا يستقلون حافلة الخدمة. ومن الزجاج لمحت في محياهم ما يشبه ابتسامات غير بريئة. ومع ذلك لم أتراجع، فقد امتطيت دراجتي وابتعدت عن مقر الإذاعة. وفي طريق مديونة أحسست بالمقلب، وفكرت فعلا في العودة لإنجاز العمل المطلوب، لكن المطر كان قد بدأ يهطل، فواصلت السير.             

في الصباح الموالي، وأنا ألج المحطة انتظرت أن يثور محمد الماجدولي في وجهي. لكن حصل العكس تماما. التقيت الراحل في المصعد، وبلا تقريع قال لي بهدوء جملة ما زالت إلى اليوم، وبعد أكثر من أربعين سنة، في ذهني، كما لو أني سمعتها بالأمس القريب: “مصطفى لن أثق فيك بعد اليوم”.            

اعتبرت ما قاله في حقي أقسى من كل تأنيب إداري، خاصة وأن تربيتي وقيمي الاجتماعية كانت على النقيض تماما من أن أكون يوما محل عدم ثقة. وبطبيعة الحال فسرت له أن الأمر حصل بسبب ظروف قاهرة.             

منذ ذلك اليوم سأكتشف في محمد الماجدولي، جانبا مشرقا. فهو لم يكن شخصا “يرضع أصبعه”، كما يقال. بل كان يتوفر على ما يكفي من التجربة الإنسانية والحدس المهني ما جعله يفطن بسهولة للمقلب الذي تعرضت له من بعض قدماء الدار. والحال، كما فهمت فيما بعد، كان هو رغبة بعضهم في افتعال خلاف بيننا لما رأوه يكلفني بمهام كان يستبعدهم منها. كانت تلك سحابة صيف مرت. ثم ما لبثت الوزارة أن أسندت مهمة الرقابة إلى صحفي خارجي كان يشتغل وقتها بجريدة “لوماتان”. 

الدروس التي تعلمتها من محمد الماجدولي جاءت في خضم الممارسة المهنية. وهنا أستحضر واقعة مسلية حصلت في بداية مشواري. فقد كنت، إلى جانب مجد عبد الرحمان، مكلفا بتغطية وصول الوفود الأجنبية إلى مطار محمد الخامس الدولي. وذات مرة غطيت وصول وفد تجاري روسي، وفي طريق العودة من المطار، ونحن في السيارة، انهمكت، ربحا للوقت، في صياغة الخبر. وفور وصولي إلى الإذاعة بادرت إلى نقله إلى قاعة التحرير المركزي بالهاتف الثابت. إذ وقتها لم يكن قد ظهر الحاسوب ولا الهاتف المحمول. وأثناء الإلقاء سألني رئيس التحرير عن اسم رئيس الوفد الروسي، فارتبكت أوراقي ولم أعثر على الاسم بسهولة. ومن حسن الحظ أن محمد الماجدولي كان قريبا مني فأنقذ الموقف. أخذ مني الهاتف، وقال لرئيس التحرير: وما عسى اسمه يكون، فكلهم خروشوف أو سوسلوف أو ياكوف. خذ اسما كيفما كان وزده “أوف” في الأخير. وضحكنا جميعا.         تعلمت حينها من الماجدولي ضرورة الحرص على تسجيل الأسماء بدقة فور وصولي إلى موقع الحدث. وعند الاقتضاء طلب بطائق الزيارة. وكان حرصي على تجميع بطائق الزيارة، لكونها تضم الاسم والصفة والهاتف ومعطيات أخرى، قد أصبح عندي عادة.           

  أما الدرس الآخر الذي تعلمته من محمد الماجدولي، فهو الوصول إلى مكان الحدث قبل الوقت المحدد. وأذكر في هذا المضمار أنه كلفني مرة مع تقني الصوت بأخذ تصريحات رؤساء وفود رياضية حلت بالدار البيضاء. كان الاجتماع مقررا في الحادية عشرة، لكن محمد الماجدولي، نصحني بأن نسارع إليهم في التاسعة صباحا. لم أسأله لماذا نبكر في الذهاب، فالرجل يعرف ما يقول. حللنا بفندق إقامتهم فأخبرتنا موظفة الاستقبال بأنهم يفطرون. ولم تمر ساعة حتى كنا قد انتهينا من أخذ التصريحات وكافة المعطيات والملف الصحفي. بمعنى أوضح كنا نتوفر، قبل موعد الاجتماع، على تسعين في المائة من عناصر التغطية. أشير أيضا بأن محمد الماجدولي كان أول من أدخل أخبار البورصة إلى النشرة الجهوية، قبل أن يحظى الأمر اليوم بأهمية كبيرة في جميع نشرات الأخبار.

 6            

 لأسباب شخصية قدمت استقالتي من الإذاعة والتلفزة المغربية. لم يعترض محمد الماجدولي على طلبي، لكنه قرن الموافقة عليها من طرف المدير العام، الأستاذ عبد اللطيف أحمد خالص، بشرط تعويضي بصحفي آخر. قضيت عطلتي وقتها في صيف 1976 مسافرا بين الدار البيضاء والرباط لمتابعة موضوع الاستقالة. وحين قابلت في شأنها محمد بنددوش مدير الإذاعة، استفسرني عن الدافع، فأخبرته برغبتي في الاقتراب من عائلتي بالجديدة. رد علي بابتسامة قائلا: وهل تتصور بأننا سنبني لك إذاعة بالجديدة لتحقيق أمنيتك؟ وبالرغم من أنني افترقت عن محمد الماجدولي إلا أنني كنت أتابع أخباره، فقد تقاعد سنة 1992، واستقر في شقة بحي المستشفيات بالدار البيضاء. والتقينا معا في أشغال المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال في مارس 1993 بالرباط. كنت وقتها ملحقا صحفيا بمؤسسة عمومية، بينما كان الماجدولي قد أصبح يعمل بشركة توزيع الصحف “ساريس”.  

في 1996 علمت بوفاة زوجته الإعلامية حبيبة العلوي، ثم بالتحاق ابنته زينب الماجدولي أستاذة بإحدى الجامعات الفرنسية. وفي 2012 صدرت سيرتي الذاتية عن دار “لارمتان” في باريس وفيها فصل خاص عن تجربتي العملية والإنسانية بالقرب من الراحل الماجدولي. أرسلت له نسخة من ذلك الكتاب، قرأه باهتمام وبعث لي رسالة شكرني فيها على احتفاظي له بصورة إيجابية. 

ثم في سنة 2015، بمناسبة تنظيم توقيع كتاب لي بالدار البيضاء، أرسلت له دعوة للحضور، إلا أنه كان قد أصبح يعاني من مشاكل في التنفس، فبعث لي بكلمة ما زلت أحتفظ بها يقول فيها: “يغمرني الكثير من الأسى وأنا أعتذر عن عدم تمكني من حضور حفل توقيع إبداعك الجديد نظرا لظروفي الصحية.. تقبل تهانئي أولا متمنيا لك المزيد من التألق والعطاء. مع تحياتي”. 

بعد ذلك سأقترح على زملائي في فرع اتحاد كتاب المغرب بالجديدة استضافة الراحل في لقاء مفتوح لتقديم تجربته الإعلامية، لكن القدر كان له بالمرصاد.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي