ذكرى غياب الطاهر الجميعي.. الإنسان.. المناضل والفنان
عبد الرحيم التوراني
حلت يوم أمس الأحد 20 مارس 2022 الذكرى الثانية لرحيل الطاهر الجميعي. كثيرون في المغرب لا يعرفون هذا الاسم، وربما يطالعونه لأول مرة، بينما كان واحدا من أبرز المناضلين المنفيين في سبعينيات القرن الماضي.
الطاهر الجميعي من مواليد الرباط عام 1939، تابع دراسة الهندسة الميكانيكية بألمانيا الشرقية، وفي الثمانينيات احترف فن التصوير، وأقام وشارك في العديد من المعارض الفنية بعدد من البلدان العربية والأوربية.
عاش الراحل فترة طويلة من عمره بالمنفى الاضطراري، ما بين الجزائر وليبيا وسوريا وفرنسا وألمانيا، إذ كان ملاحقا من أجهزة القمع في سنوات الرصاص، بسبب معارضته للنظام الملكي، فقد كان اتحاديا ثوريا وجمهوريا، من قيادة تنظيم “الاختيار الثوري”، المنبثق عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالخارج. وخلال سنوات المنفى كان الجميعي من المقربين لمحمد الفقيه البصري ولعبد الرحمان اليوسفي.
في الثمانينيات صدر العفو الملكي الذي استفادت منه أعداد من المعتقلين السياسيين والمنفيين، وبينهم الطاهر الجميعي، إلا أنه بقي متمسكا بإقامته خارج المغرب، ولم يتخل عن قراره ويعود إلى الدار البيضاء، إلا بعدما تواصله مع عبد الرحمان اليوسفي، الذي طلب منه بإلحاح وضع حد لوضع المنفى والاغتراب الذي طال. وهناك رسائل متبادلة بينه واليوسفي بخط اليد، في إحداها يخبره فيها الأخير بـ”الاستعداد لما هو قادم”، والقادم كان هو تولي اليوسفي لمنصب الوزير الأول في الحكومة المغربية التي عينها الملك الحسن الثاني في أبريل 1998، وهي الحكومة التي ستعرف باسم “حكومة التناوب التوافقي”. ومضمون تلك الرسائل يلقي بعض ملامح مضمون النقاش الذي فتحه اليوسفي مع رفيقه الفقيه البصري ليقنعه هو الآخر بالعودة إلى المغرب، بعد قرابة ثلاثة عقود في المنفى.
إثر عودة الفقيه البصري في 10 يونيو 1995، تبعه الجميعي بعد أشهر قليلة، في 1996، ليجري إلحاقه فورا بقسم التصوير في يومية “الاتحاد الاشتراكي” التي كان يديرها عبد الرحمان اليوسفي، وذلك من أجل ضمان تفرغه لتسيير الحكومة وشؤون الحزب. ونجح اليوسفي أيضا في استقدام المناضل والصحفي الكبير محمد الباهي من باريس ليشرف مكانه على صحيفة “الاتحاد الاشتراكي”.
إلا أن عودة هؤلاء الثلاثة لم تكن كما انتظروا وتصوروا ربما، فسرعان ما نشب الخلاف بين اليوسفي والفقيه البصري، وإن بقي خلافا صامتا، تكشف عنه رسالة حررها الفقيه ووجهها لرفيقه الوزير الأول حينذاك.
لقد رفض الفقيه البصري الانتساب لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، رغم أن عبد الرحمان اليوسفي هو الكاتب الأول للحزب، بل رفض إلحاقه بعضوية المكتب السياسي عندما اقترح عليه الموضوع علانية في لقاء حزبي نظمه اليوسفي بمناسبة تخليد ذكرى توقيع وثيقة الاستقلال بمدينة أغادير.
وعودة الباهي للاستقرار بالدار البيضاء للإشراف على تحرير الجريدة، انطوت على حتفه ونهايته، وتتحدث بعض الروايات عن “إلقاء” اليوسفي بمحمد الباهي في “عش العقارب”، حسب وصف الصحفي الاتحادي السابق حميد برادة في مقال له بمجلة “جون أفريك”. كما يتحمل معنويا مسؤولية نهاية الباهي المفجعة، كل من الفقيه محمد البصري والدكتور محمد عابد الجابري، وتلك قصة أخرى، سنعود إليها لما تحين المناسبة.
أما الطاهر الجميعي فقد قضى سنواته الأخيرة بالمغرب في حالات قلق، لم يكن يفصح عنها إلا عندما يجالس الخلص من أصدقاءه الحميميين. حيث كان يتحرر من حذره ويشرع في انتقاد الحكم، بل يغالي في انتقاد أداء الرفيق عبد الرحمان اليوسفي ومخاطر تفويت الاتحاد الاشتراكي للنظام بـ”الجملة والمفرق”.
وأعتز بالمناسبة باللقاءات التي جمعتني بالطاهر الجميعي، ومنها سهرات في بيته الذي أقام به في عمارة “سيدي بليوط”، خلف فندق “رويال منصور”، غير بعيد عن محطة القطار “كازا بور”، وهي العمارة ذاتها التي أقام في شقة بإحدى طوابقها رفيقه في “الاختيار الثوري” امحمد التوزاني.
قبل مغادرته الاضطرارية للمغرب كان الطاهر الجميعي عضوا بشبيبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومن نشطاء جمعية “حركة الطفولة الشعبية” التي أسسها الشهيد المهدي بن بركة. ولدى إقامته بالخارج. استفاد نشاط المعارضة بالمنفى من قدراته التواصلية ومن دبلوماسيته، حيث تمكن من نسج علاقات واسعة مع أحزاب وهيئات اشتراكية وثورية، ومع قيادات العمل السياسي والثقافي على الصعيدين العربي والدولي. وقد قام “الرفيق صالح”، الاسم الحركي للطاهر الجميعي، في هذا الصدد، كما يشهد أحد رفاقه، بـ”دور أساسي في مواجهة الحكم المطلق والاستبداد. وسخر كل جهده بالتنسيق مع المقاومة الفلسطينية التي كانت تعتبره واحدا من أطرها الأساسية”.
ما زلت أذكر لقائي في موسم “أصيلة” قبل أعوام، بالمعارض السوري المفكر الراحل ميشيل كيلو، الذي كان مقيما بباريس، وكان وصل إلى “أصيلة” في بدايات الثورة السورية، برفقة مواطنه الإعلامي محيي الدين اللاذقاني، محملا بخطاب لمساندة ما يسمى بـ”الجيش الحر”، لما وجد ميشيل كيلو أن ذلك الخطاب غير مسموع في المغرب، هرب في جلسة خاصة إلى الحديث عن علاقاته المغربية، وكان كيلو صديقا للراحلين الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد الباهي، فطلب مني هاتف صديقه المناضل والفنان الفوتوغرافي الطاهر الجميعي الذي أقام فترة طويلة بدمشق.
***
هكذا تحدث عنه رفيقه في “الاختيار الثوري” ابراهيم أوشلح، فقال: “تعرفت على الطاهر في غشت 1971 في طرابلس. وكان قادمًا من دمشق مع الفقيه البصري. وتردد مرارا بعد ذلك على طرابلس، والهدف هو أن “يعطي يد الله” في إذاعة “صوت التحرير.. صوت الجماهير”، التي كانت ناطقة باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تحت إشراف المجاهد عبد الرحمان اليوسفي”.
وللإشارة فإن عبد الرحمان اليوسفي هو من كان يحرر الافتتاحيات الثورية النارية التي كانت تذاع من راديو ليبيا ضد نظام الحسن الثاني.
يضيف ابراهيم أوشلح: “كان معنا أيضًا في إذاعة ليبيا البطلين (الشهيد) محمود بنونة و(المختطف) الحسين المانوزي… وقد عملنا جميعا في إطار حزبنا العتيد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية علىً مواجهة الاستبداد والحكم الفردي، مساندين للعمل الحزبي في الداخل و نضال الجماهير الشعبية”.
كان الجميعي يتمتع بذاكرة قوية، تختزن الكثير من الأحداث والوقائع والشخصيات والمخطوطات مع جملة من الحكايات والطرائف، وقد حرص على تدوينها بمساعدة من الدكتور الموساوي العجلاوي، معززة بأرشيف مميز من الصور والوثائق، إلا أنه لا يعرف لحد الآن أسباب عدم نشر مذكرات الطاهر الجميعي وإتاحتها أمام القراء.
بعيدا عن العمل السياسي والنضالي، كان الطاهر الجميعي إنسانا رهيفا ومثقفا موسوعيا وفنانا رقيقا، استهوته لغة الكاميرا فأبدع فيها، وقام بتصوير مئات الأعمال الفنية التشكيلية السورية، كما رصد بعدسته الموهوبة، مشاهد مختلفة من الحياة السورية الأثرية والطبيعية والإنسانية، يشهد بذلك الناقد السوري محمود شاهين، حيث كتب عن فن الطاهر الجميعي أن أعماله “أخذت طريقها إلى أكثر من معرض فردي وجماعي… أعمال مكرسة في غالبيتها، للحياة الشعبية المغربية وناسها، خاصة العجائز والمسنين، بلباسهم الشعبي الزاهي الألوان، وحياتهم البسيطة الرافلة بالسحر والجمال والنداوة الإنسانية. لقد تمكن الطاهر الجميعي من التغلغل في نبض البيئة المغربية الشعبية، بكل تلاوينها ودلالاتها المعبرة، ونقل هذا النبض إلى صور ضوئية ملونة عالية التقانة، مدروسة القطع، نظيفة الرؤية، عميقة الرؤى، متكاملة الشكل والمضمون، مما يجعلها وثيقة مهمة لشريحة اجتماعية شعبية أصيلة، تعيش على هامش العصر”.
***
كلمة أخيرة بلا تعليق:
عندما شرع العمل في تعويض ضحايا سنوات الرصاص، وتلقى العديدون ما اعتبر “جبرا للضرر”، كان الطاهر الجميعي ضمن جماعة قليلة ممن رفضوا التوجه إلى لجن هيأة الإنصاف والمصالحة.