غيفارا وكاسترو ولومومبا ومانديلا في قاعة “التحرير” بالدار البيضاء
عبد السلام البوسرغيني
لقد جعلني نشر مقالي الأخير في موقع “السؤال الآن”، حول نضالات جريدة “التحرير”، أعيش وكأنني في خضم العمل الذي كنت أقوم به، وألتفت لأرى الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وهو يقف إلى جانبي، يستمع معي إلى ما يذاع عن معارك الشعوب من أجل الانعتاق من هيمنة الامبريالية السائدة أنذاك..
وإنني أتخيل، وكأنني أسمع أسماء سلفادور أليندي، وشي غيفارا وفيديل كاسترو، وباتريس لومومبا، ونيلسون مانديلا وقوامي نكروما.. وكل واحد يعمل في محيطه ويواجه ما يحاك ضده.
وكأنني أحرك آلة التسجيل لتدور ولتختزن ما يجب أن يساعدني على إعداد التحليل الذي يتناول الأحداث التي تهز العالم…
يا لها من ذكريات.. تلك التي عاشتها مطبعة “لامبريجيما”، ونحن نشتغل في مكاتب متواضعة، لكن ما كان يصدر منها كان يهز الأركان، أركان قوى الثورة المضادة وقوى الانحراف، بل وقوى الظلم على شراستها.
فهل كنت سعيدا بوجودي في تلك المكاتب المتواضعة؟
نعم، وكيف لا وقد أدركت من بعد، أنني كنت أعمل إلى جانب رجال من الوزن الثقيل سياسيا ونضاليا، وكفاءة علمية ومعرفية واسعة.
نعم، أدركت ذلك، عندما تذكرت ما كان يكتبه المرحوم محمد عابد الجابري، بعد تبادل الآراء مع الأستاذ اليوسفي، وأتمعنه عندما أتذكر حديث اليوسفي إلى زواره من الشخصيات وبحضوري، وكأنه يعلمني كيف أشرح للناس الأوضاع بعد أن تتجمع لدي مختلف معطيات الأحداث التي أعالجها.
لم يكن منزلي بعيدا عن محل سكنى الأستاذ اليوسفي، ولذلك كنت ألتجئ إلى سائق سيارته ليأخذني إليه مع آلة التسجيل، وكانت ترافقني خلال الأحد حتى لا يفوتني تسجيل ما يبث في ذلك اليوم، خصوصا عندما تضغط علينا الأحداث الدولية الهامة التي كانت تتوالى في السنوات الأولى من العقد السادس من القرن الذي مضى، وحتى أبقى على صلة بالأحداث، ولو في العطلة الأسبوعية.
لقد كانت مصر عبد الناصر في صراع مع سوريا حزب البعث، بعد انهيار الوحدة السورية – المصرية، وكانت اليمن تقاوم الوجود المصري الذي هب لإرساء النظام الجمهوري، الذي أطاح بأحد أعرق الملكيات في شبه الجزيرة العربية، وكانت العراق تعيش جمهوريتها الهشة التي تنخرها كثرة الملل والنحل.
أما الأنظمة في أمريكا اللاتينية فكانت تترنح غير قادرة على الصمود أمام إرادة الولايات المتحدة الإمريكية، أو بالأحرى إرادة ذراعها الطويلة المتمثلة في أخطبوط “السي أي إيه”، أي وكالة المخابرات.
كانت جريدة “التحرير” تخوض منذ نشأتها معركتين: معركة الديموقرطية، انطلاقا من شعور قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بأحقيتهم في الإسهام في إرساء قواعد وأسس الحكم، بحكم صفتهم النضالية، خصوصا في جانبه المسلح، وهو ما لم تكن المؤسسة الملكية تقبله، بدليل اعتقال اليوسفي والبصري، لكون جريدتهم تجرأت على القول بأن الهيأة التنفيذية يجب أن تخضع لسلطة الشعب، مثل خضوعها لسلطة القصر.
اعتقال البصري واليوسفي كان من نتائجه توقف جريدة “التحرير”، لكنه لم يوقف صوت الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إذ عمدنا في الجريدة إلى سحب عنوانها لنعوضه بالعنوان الذي تحمله جريدة حزب الشورى والاستقلال ، وهو الحزب الذي انفصل عنه أهم قادته، وفي مقدمتهم المرحوم أحمد بنسودة الذي استمر يتحمل مسؤولية جريدة “الرأي العام”، وقد قضينا معه رحمه الله فترة ممتعة، إذ كان مرحا وكريم المائدة. لكن من كان يشرف على التوجيه السياسي للجريدة كان هو المرحوم عبد الهادي بوطالب، الذي ظل يتردد على مقر الجريدة في مطبعة “أمبريجيما”.
كانت السلطات قد أفرجت عن عبد الرحمان اليوسفي مع الاحتفاظ بالفقيه البصري في السجن، ولا أتذكر كيف انسحب أحمد بنسودة وعبد الهادي بوطالب من تدبير العمل في جريدة “الرأي العام”، ليخلفهما اليوسفي. حدث أن انسحبا من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تمهيدا للانضمام إلى النظام، وقد تعاقبا على كثير من المناصب العليا كوزراء ومستشارين للملك الحسن الثاني.
بعد انسحاب الرجلين بدأ إلحاحهما على سحب لوغو “الرأي العام” من جريدة الاتحاد، فتمت الاستجابة لطلبهما، وعادت الجريدة لتحمل اسم “التحرير”، إلى أن منعت من الصدور، بعد المؤامرة التي تعرض لها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واعتقال قادته وأطره الذين كانوا مجتمعين في مقر الأمانة العامة للاتحاد في شارع علال بنعبد الله بالدار البيضاء.
وأعود إلى الاهتمام الثاني، الذي كانت “التحرير” تركز عليه، والمتمثل في خدمة الكفاح المسلح الجزائري، الذي كان عدد من قادته تربطهم بالأستاذ اليوسفي علاقة وثيقة، لما كان المغرب يتقاسم مع المجاهدين الجزائريين رفقة قيادة الكفاح المسلح، انطلاقا من شمال المغرب الذي كان ما يزال خاضعا للاستعمار الإسباني، ولم تكن سلطاته تحاول التضييق على تحركات المجاهدين المغاربة والجزائريين.
كانت جريدة “التحرير” لا تألو جهدا في الدفاع عن القضية الجزائرية مناصرة للمواقف التي تتخذها، وأتذكر الحملات التي كانت تقوم بها “التحرير” ضد المشروع الاستعماري الفرنسي، الذي كان قد استهدف فصل الصحراء وإقامة كيان مستقل يحفظ له السيطرة على ما تم اكتشافه من آبار بترولية، إضافة إلى الاحتفاظ بقاعدة التجارب النووية.
وكما كتبت في أحد مقالاتي، فقد قلت: “إنه من سخرية القدر أن المغرب الذي وقف ضد مشروع فرنسا فصل الصحراء عن مالكيها في الجزائر، وارتضى في الأخير بالتفاهم مع الجزائر بشأن ما اقتطعه الاستعمار من أراضيه وضمها للجزائر، إنه من سخرية القدر أن الذين دافع المغرب عن وحدة تراب بلادهم، أي الجزائر، هم الذين ساندوا الاستعمار الإسباني، في محاولة خلق كيان في الصحراء المغربية في منتصف السبعينات، وهم الذين ما يزالون حتى الآن، ومنذ ١٩٧٥، ينازعون المغرب في وحدته الترابية، ويعبئون ما تتوفر عليه الجزائر من إمكانيات، لمحاربته على مختلف الواجهات وفي مختلف المحافل، بدعوى مناصرة مبادئ مفترى عليها لإخفاء مطامحهم ومطامعهم في المنطقة المغاربية”.