إلغاء السجون السياسية في سورية بداية العودة للحياة
د. عارف دليلة
كتب المعارض السوري عارف دليلة تعليقا على مقابلة صحفية مطولة أجريت مع الروائي والمفكر السياسي الراحل خيري الذهبي، ونشرها على صفحته الخاصة على الفيسبوك بعيد غياب الذهبي، والمقابلة نشرت على موقع “المرصد السوري لحقوق الانسان” في السابع من أبريل – نيسان 2021، أكد خلالها الذهبي أن “الطغاة المعاصرون حمقى لم يقرأوا التاريخ أبداً.. والمعارضة التقليدية فشلت في تمثيل الشعب السوري”. كما أشار الذهبي إلى أن “المثقف قوة ناعمة لا يمكنه إلا إشعال النور لإنارة الطريق أمام الشعب والثورة”، معتبرا أن “التشابك الدولي هو من يمنع اكتمال دائرة التغيير والتطوير”، وأن “المثقف العربي أصبح رهينة الانكفاء والسلبية من ناحية وإرادة التطويع الرسمية من ناحية أخرى”.
وجاء في تعليق دليلة على المقابلة ما يلي:
“ماقلته في مقابلتك الصحفية، الغنية جدا، لا يعادله شيء إلا أن يتجسد كاملا على أرض الواقع. إنه عصير سياسي مركز لافكارك المبثوثة في رواياتك، بل وتلك المنسوخة في اللوح المحفوظ في المادة الرمادية في دماغك، والتي مازال الكثير والأعمق فيها لم يتحول إلى كتابات بعد، راجيا أن يتاح لك العمر لإفراغه كله على الورق، ليبقى للزمن وللأجيال، التي مازلت تتمنى لو تتاح لك الفرصة لتحقيق رغبتك بتربيتها، رغم أنك، وأمثالك، وللأسف، من أكثر المبعدين عنها، وبأشرس الوسائل، وبتخطيط هادف وواع، بدليل حجم التفاعل العام المحدود جدا مع هذا الكنز الثمين من الأفكار التي تحمل الترياق للشفاء من طاعون كورونا الهمجية السياسية التي ماتزال تداهمنا على مدى عقود سوداء، مسبوقة بقرون طويلة من الوحشية الظلامية التي كانت تطمس الأنوار التي تشع من هنا وهناك. وآخر “انتصارات” هذه الوحشية الظلامية على “الانوار” هي ماعشنا، دولا وشعوبا وبشرا طامحين الى التقدم والنهوض، مأساتها الرهيبة خلال العشرية الاخيرة التي لا يراد لها أن تتوقف وفي أمتنا بقية من روح، ومادامت قوى الأمر الواقع، على اختلافاتها، مستمرة في التسيد على الشعب المقهور بأسلحتها المسمومة الفتاكة الثلاث “الطائفية والعسكرة والتدخل الخارجي”، وهي نفسها التي رفع شعبنا في وجهها لاءاته الثلاث، وهو بالملايين يهدر في كل مدينة وشارع وبلدة “الشعب السوري واحد واحد” و”الشعب السوري مابينذل”، ويطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الانسان وسقوط الاستعباد وربيبه الفساد الأكبر ونواتجهما من القمع والقهر والإذلال والتخلف، المعادين للإنسان، إلى الأبد !
وهذا كله لن يتحقق إلا بتحقق أمنيتك، وأمنياتنا جميعا، بإغلاق السجون السياسية في سورية والوطن العربي كله، وإلغاء مراكز جميع قوى القمع العقلي والجسدي، وتحريم وتجريم إنفاق قرش واحد على كل ما ومن يمنع الرأي الحر الآخر المعبر عنه بشكل علني سلمي حضاري وعبر وسائل الإعلام، بدءا بوسائل الإعلام الحكومية التي، هي وكل شخص فيها وفي السلطة، تمول من قبل المقهورين المجوعين بسببهم ، وهي الشروط الوحيدة التي لا يمكن بدونها للفساد أن ينمحق وللهمجية أن تتوقف وتستسلم وللأمة أن تنهض من تحت أنقاض التخلف الشامل والإرهاب الذي يمارسه عليها أرباب القمع والفساد وراكبوهم الخارجيون، لتخطو خطواتها الواثقة إلى العلا والتقدم المادي والارتقاء المعنوي والسمو الروحي.
إنها مطالب ربيع دمشق الواعد المغدور عام 2000- 2001، والريبع العربي الذي تفجر عام 2010-2011، أيضا الواعد المغدور، والذي لابد أن يستمر بالتفجر، حيث لا ينتظر أو يتوقع أحد، لاستحالة إخماده، باعتباره يمثل حاجة حياتية للشعب والإنسان السوري، ويمثل حركة التاريخ الإنساني، حتى يتحقق ويملأ الأرض العربية تفتحا وازدهارا وتقدما، ولو بعد عقد آخر !
ألم يشيعوا بيننا في ندوات ربيع دمشق (ولو أن أحدا لم يصدقهم، لأن “فاقد الشيء لايعطيه”)، بأن “القرارات قد صدرت بإغلاق سجون المزة وصيدنايا وتدمر، وستتبعها قرارات إغلاق جميع السجون السياسية وتحويلها إلى جامعات، لأن سورية الجديدة، النقيضة لسورية القديمة (كذا !) ، قد بدات مسيرتها الحضارية لتسارع الخطى نحو التقدم والكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ولتحتل مكانها الرفيع بين الأمم، ولهذا فلن تكون بحاجة إلى السجون السياسية بعد اليوم؟
ولكن، بينما كنا مازلنا نقرأ المحاضرات ونعقد المنتديات المفتوحة وسط الجموع المتعطشة إلى الانعتاق والحرية، وكانوا يرمون بكل ثقلهم و”كوادرهم “لحضورها، وليت أن أحدا منهم وعى كلمة واحدة منها، لكنهم كانوا يحضرون لنشر أكاذيبهم، وأحيانا لتحدي المطالبين بالحرية والنزاهة وتطبيق القانون النزول إلى الشارع لـ”المكاونة”، وهو المطلب الذي لم يستفز أحدا من الذي يتحدثون بالكلمة والعقل الناضج، المنشغلين في وضع البصمات الناصعة على وجه سوريتنا المأمولة وقبل أن تصل أكذوبتهم الكبرى إلى الأرض وتفتر، داهم زوار الفجر بيوتنا ليلا واعتقلونا “لكي يربوننا ويربوا الشعب السوري بنا”، كما قالوا لنا في الساعة الأولى، وقبل أن نلحق ونشرب “فنجان القهوة” الغدار في “مضافتهم” السوداء !
ومن لحظتها بدأت حربهم المدمرة للدولة والشعب والماضي والحاضر والمستقبل والإنسان في سورية، تحت شعار الحرب على “الإرهاب” والتي ماتزال “صامدة!” حتى اليوم، بعد تدمير سورية بكل مافيها على مدى عقود، وبعد إزالة شعبها عن مواقعه الأصيلة المستمرة عبر التاريخ، وهي تتصاعد بالتزامن مع تصاعد الفساد الأكبر، مقابل تعمق وتوسع الحرمان والجوع والافتقاد إلى ضرورات الحياة في البلد الفائق الثروات، ومع تزايد وتكريس الخراب والموت سجنا و تجويعا وتشليحا ونهبا وتهريبا، ومع تفريخ العصابات والميليشيات والفصائل الاجرامية والارهابية والاحتلالات الأشر، مادام السوريون لم يستعيدوا وعيهم ولم يحسنوا قراءة واقعهم ومستقبلهم، بعد، لتحديد القرار والسلوك الواجب والأنسب !
ولأن “ناقل الكفر ليس بكافر”، فعندما التقى نخبة من جميع أطراف المعارضة السورية في أول مؤتمر جمعهم، وكان ذلك بدعوة من الحزب الاشتراكي السويدي الحاكم في استكهولم بتاريخ 7/10/2011، ولم تكن قد لعبت في وسطهم ومزقتهم التشكيلات والعصابات والبنادق للإيجار والأموال المفسدة، بعد، بتهافت واستجابة الكثيرين من بينهم لاحقا، اللهم إلا من رحم ربك، للمؤامرات المحلية والإقليمية والعالمية، فقد اقترحت في مداخلة لي هناك، “إحياء” لتلك الأكذوبة التي أطلقوها إبان ربيع دمشق عن صدور قرار بإلغاء السجون السورية الإرهابية وتحويلها إلى جامعات، في محاولة فاشلة منهم للتشويش على محاضرتي “الاقتصاد السوري، مشكلات وحلول” يوم 2/9/2001 (والتي جرى اعتقالي بعدها بأسبوع)، فقد تطورت الفكرة (وإن كانت، في منشئها، أكذوبة عظمى) في ذهني على مدى سنوات سبع من التفريغ الإجباري في الحجر الإنفرادي في إحدى هذه “الجامعات” الموعودة الضخمة، واقترحت على المجتمعين في المؤتمر، الحالمين، مثلي، أن تكون باكورة مسيرة سورية الجديدة نحو العلى هي تحويل سجن صيدنايا الرهيب إلى “صرح الحرية”، استغلالا لموقعه الطبيعي المهيب فوق مرتفع بارز يشرف على طريق صيدنايا السياحي الجميل، وكذلك لشكل مبناه المثلث الأضلاع الذي يبدو أنه كان مصدر إلهام المهندس الذي صمم مبنى أول فندق خمس نجوم أقيم مطلع السبعينات في سورية، وهو فندق الميريديان بدمشق. وقد تم، وبتخطيط محكم، إيقاف تطور هكذا مرابع سياحية، في خضم إيقاف التنمية الاقتصادية الاجتماعية في سورية على مدى نصف قرن (بشهادة أول سفير لكازاخستان المستقة في سورية (بغدادوف) التي قالها عام ٢٠٠٣ وهو يقدم أوراق اعتماده، جوابا على سؤال تقليدي يوجه لأي سفير جديد في هذه اللحظة، وهو: ماهو انطباعك عن سورية؟ أجاب، بأسى شديد: سيء جدا! فسئل باستغراب واستهجان لهذا الخروج عن اللغة الدبلواسية، ولماذا؟ قال: لأني أحب سورية جدا، وقد عشت فيها أجمل سنوات عمري في الثمانينات، وأنا أؤدي الخدمة الإلزامية في الملحقية العسكرية للسفارة السوفييتية بدمشق، ودرست العربية بجامعة دمشق حتى أتقنتها، وتعرفت بعمق وبشوق إلى كل شبر في سورية، والآن عدت إليها، سفيرا لبلدي كازاخستان بعد انفراط الاتحاد السوفييتي، ودهشت لأني لم أجد في دمشق العاصمة بعد غياب عنها لأكثر من عشرين عاما، بناء جديدا واحدا، بينما نحن بنينا مدينة حديثة بالكامل خلال سنوات قليلة في غرب البلاد (استانا) لتكون العاصمة الجديدة لكازاخستان المستقلة، بدلا من (ألماتا) عند حدود الصين شرقا على بعد آلاف الكيلومترات.
أعتذر لهذا الاستطراد، وأنبه السيد السفير إلى خطإ “بسيط!” في جوابه، إذ لم يكن دقيقا تماما، ربما بسبب طبيعة عمله الدبلوماسي، فقد بنيت أبنية جديدة كثيرة في سورية، ولكن لتكون، في معظمها، سجونا ومقرات استقبال لروادها، على مثال سجن “عدرا” الهائل الحجم، الذي “تشرفت!” بالتنسك فيه لسنوات طويلة، انصرافا عن اختصاصي الرسمي الاقتصادسياسي في التدريس الجامعي وفي البحث العلمي في أسباب هذا الاحتباس لسورية بكاملها عن التطور والنمو والازدهار لعقود طويلة !
من هنا، وبعيد خروجي إلى الحياة من جديد، والذي لم يكن، وللأسف الشديد، إلا خروجا من السجن الأصغر، على هول ضخامته، إلى السجن الأكبر، سورية غير المأمولة، كما هو واضح جدا اليوم، لأتأكد أكثر وأكثر من الحاجة الحياتية لسورية الجديدة أن يحل محل أعتى سجونها صرح سوري _ عربي_ عالمي، للحرية والديمقراطية، تنعقد فيه المؤتمرات واللقاءات المحلية والعالمية، وتقوم فيه جامعة لحقوق الإنسان ومراكز بحوث ودراسات حول الاضطهاد والقمع والفساد وحول انتصارات التجارب والنضالات في كل مكان من أجل التحرر منها، وتقدم سورية نفسها، من خلال نشاط هذا الصرح العظيم، للعالم بوجه ناصع بهي يليق بتاريخها، كمنشإ للحضارات، وباعتبارها، ليس فقط مكان ولادة أهم اختراع في التاريخ، وهو تحويل اللغة، بل والموسيقى( !) من أصوات إلى حروف مكتوبة وسلالم مرسومة، كما هو منقوش في لوحي أوغاريت الشهيرين، وإنما أيضا الدولة الأولى في العالم التي قامت على القانون، بدءا من دولة حمورابي مابين النهرين ومدرسة بيروت القديمة للقانون (وليعذرني الإخوة العراقيون واللبنانيون، فنحن نبقى بلدا واحدا رغم تجزئتنا واقعيا الآن)، وكذلك بلد مملكة ايبلا التي كانت أول مملكة دستورية في التاريخ العالمي لايحق لأحد أن يكون ملكا عليها أكثر من سبع سنوات ولمرة واحدة فقط غير قابلة للتجديد أو التمديد، واستمرت ايبلا بالارتقاء في ظل ملوكها الملتزمين بهذا الدستور حتى أصبحت امبراطورية عظيمة، ولم ينقصف عمرها إلا بعد أن ركب أحد ملوكها رأسه من سكرات الطمع بمغريات السلطة الدنيئة ليخرق مبدأ الملكية الدستورية العظيم وينشيء ملكا عضوضا له ولذريته من المهد إلى اللحد، خرقا لدستور وأخلاق وتقاليد الشعب، وليجلب بذلك الدمار والاندثار للامبراطورية. وفي زماننا التعيس كانت هذه السمات الحضارية لسورية، كدولة دستور وقانون، التي بدأت تتبرعم مع الاستقلال عام 1946، الهدف الأول للتدمير الهمجي الممنهج بأيدي تحالف أسود للأعداء المحليين والاقليميين والعالميين، والذي بلغ أوجه في العشرية الاخيرة، أملا من المتحالفين بمنع قيام سورية الجديدة التي يخشون أن تبدد، بوجهها المسالم الحضاري الناصع، ظلام العصر المدلهم بالفساد والإفقار وبالاضطهاد وبالحروب !
سورية المأمولة هذه لايمكن أن تندثر، بل لا يمكن إلا أن تنتصب على قامتها شامخة، فليسمع وليع ذلك العالم كله، وأوله السوريون ولينفك أصحاب العقل والضمير من ببنهم عن الملوثين الدنيئين المركوبين وعن راكبيهم الخارجيين !
أليست هذه الخلاصة هي أيضا فحوى منظومتك الفكرية الذهبية، أخي خيري، وفحوى تفكير وآمال الكتلة الواسعة، وإن كانت المشتتة حاليا، وللأسف، من السوريين الذين يؤمنون، رغم كل شيء، بعقيدة واحدة وهي “سورية كانت وستبقى حية شامخة ومتفتحة”.
وإذا كان هناك من يقول “عالم بدون روسيا، لا لزوم له”، فإننا، بالأحرى، نقول “عالم بدون سورية، لامعنى له والاسمان، “روسيا” و”سوريا “، متطابقان بالحروف، مختلفان بالترتيب!
*للإطلاع على نص مقابلة الذهبي هنا اللينك:
https://m.facebook.com/story.php?100063775567319story_fbid=389242263211623&id=