نهاية وهم “العولمة السعيدة”
عبد الرحيم ازرويل
منذ قرابة ثلاثين سنة (15/4/1994)، تم عقد مؤتمر دولي في المغرب تحت رعاية الأمم المتحدة، انتهى بـ”إعلان مراكش”، الذي بشّر برفع كل الحواجز المعيقة للتجارة العالمية، حيث خرج المؤتمر باتفاقات تخص التخفيض الجذري للرسوم الجمركية والتجارية وتحرير التجارة والخدمات، وكذا تحصين الملكية الفكرية، ورفع الحواجز التقنية أمام التبادل العالمي. ومن بين البنود الرئيسية لهذه الاتفاقية، تخفيض البنود الجمركية إلى حد 5 في المئة في الدول الصناعية، وإعفاء كل الواردات من الرسوم بنسبة 40 في المئة. ومن الأغراض المعلنة آنذاك، توفير فرص أفضل لزيادة صادرات قطاع النسيج والألبسة، الخاصة بالدول السائرة في طريق النمو. وقد كان الهدف المصرح به من طرف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED هو مساعدة البلدان السائرة في طريق النمو على الاندماج في الاقتصاد العالمي وتيسير اشتراكها الفعلي في هذا الاقتصاد، وخاصة في مجالي التجارة والمالية، وكذا الاستثمار.
وقد استبق مخططو الاكتساح العالمي لنظام السوق الرأسمالي، الاعتراض على مراميهم (حرية التنافس التجاري بين أطراف متفاوتة القوة الإنتاجية، هي في الواقع “حرية الثعلب داخل قفص الدجاج”)، برسمهم آجالا تترك للبلدان السائرة في طريق النمو، حتى تتمكن من تحديث قطاعاتها التصديرية والرفع من مردوديتها الإنتاجية، لكي تستطيع بعد حين تحمل المنافسة مع نظيراتها، بل الاستفادة من سوق عالمية مفتوحة.
هلل الكثيرون لهذا المنحى التوسعي للتجارة العالمية (داخل المغرب وخارجه)؛ فالعولمة بالنسبة للمدافعين عنها، خطوة هائلة إلى الأمام للإنسانية جمعاء، إذ اعتبروها محركاً قوياً لنمو اقتصادي مطرد، ولتبادل كثيف بين دول العالم، بل قدم هؤلاء العولمة وكأنها نهر جارف لا يقوى على مقاومته أي عائق، إلى حد أنها ستغير نظام العالم في كل المجالات (ليس من الفاقد للقيمة الإشارة إلى أن هذا التفاؤل المفرط تواقت مع نهاية تجربة المعسكر الاشتراكي وظهور نظرية “نهاية التاريخ”).
فبالنسبة للمدافعين عن العولمة الليبرالية، تشكل هذه الأخيرة تقدما مبهراً للإنسانية، ومحركا قويا للنمو المطرد والتبادل التجاري الكثيف بين دول العالم. وتُقدمُ العولمة في هذا المضمار وكأنها نهر جارف لا يقوى على مقاومته أي عائق، حيث تشكل قوة تقوم بتغيير نظام العالم في كل المجالات…
تمثل العولمة وفق هذا التصور زخماً غير مسبوق، لا رجعة فيه ومفيد بالضرورة لكل من يستطيع التأقلم معه. (الليبرالي Alain Minc يقترح عبارة “العولمة السعيدة”).
غير أن إقصاء العديد من البلدان من هذه الصيرورة “المحتومة”وتكاثر النزاعات التجارية بين مختلف الأطراف يبين أن هذه الصيرورة ملتبسة إذ إن العولمة لم تكتمل ، بل تعرف كثيرا من العوائق . ليست العولمة إذن صيرورة محتومة وهو ما تبينه عوائق وحدود شتى تواجهها على مختلف الأصعدة .
من بين هذه الحدود الصارخة، كون دول العالم الثالت التي استبشر الخطاب الليبرالي باستفادتها من عولمة التجارة العالمية، كانت أكبر ضحية لما فرضته القسمة الجديدة للشغل على المستوى العالمي. إذ لم تنل هذه الدول إلا منافع جزئية، مشروطة وقابلة للإلغاء. فما أن يتم الخروج عن الإطار الضيق لبعض المنتوجات الاستوائية غير المتوفرة في الدول الصناعية، وبعض المعادن ومصادر الطاقة التي لا تستطيع دول الشمال إنتاجها، يتم الحد من الاستيراد من بلدان الجنوب، حيث لا تستفيد من الوعود “البرّاقة” للعولمة السعيدة. وقد أصبحت العولمة حكرا على فضاءات خاصة، تتكاثف فيها التبادلات، وخاصة الثلاتي المكون من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان؛ والحال أن الهوة الاقتصادية اتسعت حتى داخل هذه الأقطاب الثلاثة، بين مناطق متفاوتة الاندماج بالمنظومة الاقتصادية العالمية، واتسعت الهوة الاجتماعية بين الحواضر الاقتصادية الكبرى، المتمركزة داخل المناطق الساحلية المصدرة والجهات المجالية البعيدة عن مجالات القوى هاته. بالموازاة تُستقطب في بلدان المحيط (العالم الثالت) بعض الفضاءات الساحلية، التي يتم فيها استنبات بعض الأنشطة المنتجة، بمعزل عن الفضاءات الداخلية وضداً على نموها. تتعمق داخل هذه الفضاءات ذاتها التفاوتات الاجتماعية/الطبقية وعدم المساواة بين الجهات .
إن عولمة الأسواق تفتح المجال للشركات المتعددة الجنسية، التي تتحايل على ما تعتبره معوقاً للتبادل، وتتحايل على القواعد الاجتماعية المحلية، والمنظومات الضريبية والايكولوجية الخاصة بمختلف الأوطان. لتصبح هذه الشركات أقوى من بعض أجهزة الدولة، إذ تروج لثقافة استهلاكية مفرطة، تؤدي إلى تنميط الثقافة المحلية ومحو هويتها.
– مجالات القوى التي تؤسسها العولمة تتعالى على الحدود الوطنية، مما يثير ردود فعل قوية مناهضة، إذ يعيش المواطن ويعاني من تجريد القوة العمومية من وسائل التدخل والمراقبة، ويُنظرُ إلى العولمة حينئذ على كونها سلب للسيادة: يتبين ذلك في شعارات أقصى اليمين في فرنسا وأوروبا عموما، وفي النزعة الانعزالية في الولايات المتحدة الامريكية، كما يوجد مثيل لهذه النزعات في اليابان وكوريا.
– تعاني بلدان العالم الثالت مفارقة غريبة؛ ففي الوقت الذي تعاني فيه هذه الأقطار من نوع من البتر لسيادتها، ومن تجريد قوتها بصفتها دولا، تحاول في الآن ذاته، وبشكل حثيت، جذب الشركات متعددة الجنسية، بغية جعل المجال الوطني أكثر قدرة على المنافسة، وتقوم بالموازاة مع ذلك بِحثِّ الشركات الوطنية على الانفتاح على الخارج وتدعيم روابط التبعية.
ونظراً للاعتبارات سالفة الذكر، تناهض قوى اليسار العالمية هذه العولمة، لأنها تتعارض مع مطلب النمو الاقتصادي المنسجم والمتمحور حول الذات، ولأن العولمة بصفاتها هاته لا تعدو أن تكون مطلبا للحرية المطلقة للرأسمال. فكل مؤسسات النظام الرأسمالي العالمي بدءاً بمنظمة التجارة العالمية إلى هيئة الاتحاد الأوروبي، مروراً بمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنميةCUCED .. لا غاية لها سوى رفع كل القيود المعوقة للحركة الحرة للرأسمال وإتاحة استثماره أنّى شاء، والانسحاب وقتما شاء.
إن بعض النجاحات العابرة التي تحتفل بها المؤسسات سالفة الذكر، تخفي العدد الكبير من الأزمات الاقتصادية، التي ضربت منذ أكثر من عقدين بلدانا اعتبرت آنذاك من خيرة تلامذة هذه المنظمات العالمية، مثل المكسيك والأرجنتين، بل وروسيا، وكثير غيرها، من البلدان التي تعاظمت داخلها درجات اللامساواة والتنافس السلبي، وفيما بين بعضها البعض.
تلك هي الحصيلة المباشرة للعولمة الرأسمالية التي تؤجج المنافسة المباشرة بين عمال العالم قاطبة، حيث أن من يستطيع منهم الاندماج داخل القطاعات المعولمة، لا ينجح إلا عند القبول بأجور ذات مستوى متدنٍّ، أما غيرهم فيتم إقصاؤهم كضحايا للتنافسية المفرطة، لكي يسقطوا في جهنم البطالة. هكذا يناهض اليسار العالمي العولمة، لأنها وراء تراجع الحقوق الاجتماعية في جميع البلدان، بما فيها البلدان الصناعية المتقدمة؛ ففي هذه الأخيرة يرفع في وجه الطبقة العاملة ابتزاز نقل المصانع والمؤسسات الإنتاجية خارج البلد الأصلي، بدعوى نقصان كلفة اليد العاملة في بلدان المحيط. هكذا يترتب عن هذه التنافسية المفرطة نكوص في الحقوق الاجتماعية، وتراجع عن المكتسبات، وتردٍّ في شروط العمل، ووضع المأجورين من حيث الحماية الاجتماعية والمعاشات.
وأخيراً، فإن الرأسمال في ظل العولمة لا يقف عند حد المطالبة باكتساح المناطق التي ينوي فيها جني هوامش مالية ضخمة، بل يعمل أيضاً على الاستيلاء على قطاعات كانت قد أفلتت إلى هذا الحد أو ذاك من قبضته، كالقطاع العمومي، وقطاعات الصحة والتربية والنقل والمواصلات، وشبكات التواصل الاجتماعي، وحقول الثقافة. بل مجال العضوية الحية الذي تم تسليعه بدوره، إضافة الى الماء الشروب والفلاحة التقليدية والأدوية، التي باتت تخضع لاستئثار البورصة…
لقد عاش الانسان قبل اكتساح النظام الرأسمالي العالم (وهي صيرورة تنبأ بها كارل ماركس منذ القرن التاسع عشر)، عاش عالماً به بعض القيم التي لا تقبل التسليع، أي أنها لا سعر لها ولا يمكن أن تتحول إلى سلعة، كالصحة والمعرفة والعاطفة والكرامة والا حترام… غير أن منطق الربح الذي يقود الرأسمال يجتاح العالم بأسره (منذ التوسع الاستعماري)، ويجتاح كل القيم الإنسانية التي تشكل ماهية الإنسان.
لذا فإن نضالات الشعوب لم تعد تنحصر داخل رهانات محلية فحسب، بل أصبحت ملزمة بالانخراط في كفاح عالمي، يواجه في جبهات داخلية وخارجية عدواً واحداً، وإن كان متعدد الرؤوس.