قراءة في ديوان عريس الدالية للزجال المغربي محمد شحيم
عزالدين الماعزي
1- الشعر والحياة
بين الشعر والحياة أكثر من صلة حبّ وتفان حيث الترابط بينهما يشكل خيوطا وشيجة تصنع كبّة من المحبة والعرفان.
أليس الشعر نشيدا سماويا للحياة في أسمى تجلياتها..؟ بصورة ما؛ صياغة تركيبة مهربة إلى التماهي مع الوجود كواقع أو عن طريق الحلم للتحرر من العبودية، باكتساب كتابةِ لغة متفردة وصوتٍ جدير بالانتباه، ينصت إلى نبض اليومي بسؤال الكينونة الشعرية عبر فعل الدهشة والسخرية.
الشعر يحررُ الانسان من قيودِ الرتابة والتكرار والملل، والشاعر يطارد المعاني بحثا عن القصيدة (الحقيقة) الثاوية..
الشعرُ مليء بقُداس الصلوات، بسمو الروح والتحليق، بلغة اللحظة المنفلتة؛ النشوة، الدهشة، باختصار الكلمات في إيقاع موسيقي، هو فعل مقاومة وركوب للمغامرة..
رݣبتْ من عينْ الفْجر
انوݣد للصْباح نارو/ يمكنْ/ طلْ السّرْوية يبلّل اشفار العْمر/ وعلى مولانا تتفتحْ ازهارو..
(مقطع على ظهر الغلاف الأخير من الديوان).
2- الانتماء
ينتمي الزجال محمد شحيم إلى الجيل الجديد من شعراء الزجل، الجيل الذي يمكن أن نسميه -الجيل الثاني المتأخر- من الشباب المغربي الواعد؛ الحامل لمشعل الكتابة بحساسية وروح رؤيوية ومتنفس جديد أساسه البوح وجرأة السؤال والبحث. ورغم أنه تأخر في النشر إلا أن همومه الغنائية طوّحت به بعيدا وأضاءتْ طريقه، فهو من مؤسسي فرقة موسيقية غنائية محلية متشبهة بظاهرة “ناس الغيوان” بمدينته سيدي بنور أواسط التسعينيات. أصدر بعدها ديوانه الأول: “عريس الدالية” وفيه جمع نُتف قصائده، حوالي 12 نصا زجليا. افتتحه بنص الطائر الحر دليل ذاته ومتقمصا إياه..:
شفت السما/ لابسْها الغمام/ اليوم تمطر/ غدا تزهرْ/ المَزنه اعقيمه/ احكم الله/ اعليها بالعݣرْ. ص 6
واختتمه بنص ريحة لرض..:
ملي لثمَت الغيمة/ اوجه لرض/ بدموع الروح/ فرفرتْ
في الكَاشوش فرحه/ فاحت/ ريحة الورد. ص 100
يأخذ الشاعر شكل طائر النسر بنشر جناحيه في الفضاء العالي، والتحليق بحرية وبُعد نظر ورؤية عالية..
ها كفّي/ ها لمحبة في صدري/ موشومة اوشامْ. ص 9
يصرخ تلك الصرخات الجريحة الموشومة بالحذر، بتوجس السؤال :
غوّتْ غوته/ اتواضعت لحبال/ او ديك الكُدية/ ها امعانْدة الجْبَل/ كيف ما دار تدور معاه/ قيمْتها من قيمتو( امْسلسلة امعاهْ. ص 10
يا صيحه في واد/ ياااا محْلاها/ نسمع صداها/ ص 35
واااامولْ الحق/ فيني يا نا من الحقوق/ وفين سعدي يا نا . ص 40
ناداتْ بلجْهر/ والصوت في الفيا/ ابحاحْ. ص 41
اشكون اعشق هذا الهمْ/ اشكون اطلق هذا السمْ. ص 78
لنعد إلى الصرخة الممزوجة بالسؤال والبحث عن صيغ الاجابة الانطلوجية
فينك يا صلصال/ ايلا امْحيتي / كاع اللواح/ صلصلْ في ليلنا/ المعمية انجومو/ ايكفْ هذْ النواحْ.. ص 79
الانتماء إلى الجسد/ الخلق/ الوجود، مشيرا :
وأنا غادي/ في دروب التّسْوَال/ اعلْ شحال من حالْ/ م بقا يعجبْ/ ساح عقلي/ ذاب موالْ. ص 82
إنها شهادة اعتراف وتعريف وتأثير بالغناء.. بهذه الصرخة المبحوحة يمتزج الغناء بالنضال والنضال اليومي بالغناء، من أجل تبديد الظلمة وانعتاق الروح إلى الحرية بأشكال صرخات احتجاجية.. بجنون وسخرية قاتمة من طبيعة تتوزعها العناصر الاربع : التراب والنار والماء والريح..
وآنا اهبيل اصݣع
والريح اكَناوي
والحال/ املوك امخاوي في شلا صيحاتْ. ص 76
يقول، معترفا بتأثير رقصة الحال/ أحد أنواع الغناء الجسدي :
في ادروب الحال/ انغني حالي/ انغنّي الساكنني/ انغنّي المالكني/ نصدحْ بالموّالْ. ص 85.
إنه يبحث عن صيغ أخرى في اتجاه الصفاء الروحي حيث المحبة مفتاح الخير:
فين حقي في الخاوة/ فين الثمَارة اللي كان ليها بالْ / او كانت ضحْكة الزْمان/ في اوْجه الدنْيا/ ماليها سومة ولا اعْبار في الميزان. ص 85
قبل ذلك، كان الشاعر قد أطلق صرخة أخرى، صيحة اعتراف من الداخل إلى الخارج / الآخر
إلى اضياق ݣلبك/ ها ݣلبي امراح/ اݣلس وارتاح/ يطلع من ليلنا الصباح/ او مولانا يفتحْ. ص 84
المحبة عنده كما أسلفت مفتاح لأبواب أخرى يختمها ب:
لمحبة… ساروت
ولݣلب..حانوت/ وشعيبه مول القصيده.. اعشير اوكان/ عمرو ما خان/ أو لا طاق افراقي/ كانْ/ هاز ليا احماقي/ أوكنتْ/ هازْ ليه لهبال. ص 87
هذا الاعتراف الموشى بالسخرية اللاذعة والنقد الذاتي لا يتجنبه الشاعر ولا يرهبه بل هي صفة يؤكدها مخاطبا إياها :
يا المنطيح / أيا خُربْ ليام / لاش اتشرشم الحلمة ؟ لاشْ ايفيقو بيك لنْيامْ؟. ص 61
يستعيض الحلم كتعويض عن المفتقد
ولأنه حلمه يكبر منه ومعه، فقد :
شاخت حلمة فيّا / وانا انفك او انعݣدْ / من اخيوط الشمس / وانفتلها/ اسبولْ الحال/ أوبالامارة/ كان فمْ الوقت/ محروثْ بالخبزة. ص 55
ويضيف في مقطع آخر :
احلمها/ مجدول احرير/ أو بيه اتحزم/ على بال كونْ/ لا تفزكْ الحلمة/ من ريحة الما/ ويصوط ريح اسخون/ يتغيّر/ لوُنْ الكونْ. ص/64 /63
إنه الحلم : الوطن، الكون، الذي منه نأتي ونكون ونعود، مفجرين الاسئلة، باحثين عن الأجوبة، حلم بحجم الوطن
احلمها ݣد الوطن/ ما فيه سارق وما فيه مسروق/ مافيه ظالمْ ولا مظلومْ. ص 65
إنه الحبّ مرة أخرى، الحب الذي ينبتُ في شباك القصيدة، يحلق في سماء الشعر ويبتغي الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. الحب لديه باخوسي المنكسر بلغة بيسوا بكاء الملائكة والشعراء الذين سرقوا الكلمة وشيّدوا قارورة المعنى التي تنزف دماً..
كبْ إلى باقي/ راه باقي/ ݣرضة/ من الليلْ/ اتساعف العاقل/ أو نساعفْ لهبيلْ. ص 54.
فالمحبة لديه موشومة بأوشام ولأن الوقت اتفلست/أو مات ابنادم في ابنادم/ أو عادت الريح اتزعرط تحت/ طابك ليام..ص 20.
وسير وآجي يا عقل / أو تدْحيك امواج التيه ص 28.
فعريس الدالية خرج من بطن أمه “مجروحا”وكبُر في فخذ أبيه:
غنبرْ لخيال/ وافضح بالجهر اعراه/ عنّك الدالية/ أوݣالْ بلعاني/ ما ملكت إيماني.. ص 44.
ويضيف في المقطع الموالي..:
هذ الفام/ متلاتش مسدودة / هازه المرفودة / لعرس باخوس / وباخوس اعريس الدالية / المزرزرة عنكود. ص 46.
أنه اسمٌ شبيه لاسم على مسمّى، اهبيل، اصݣع، منطيح، خُرْب بلغتنا، باخوسي ملعون بلغتهم،..
كُتبت نصوص الديوان بلغة المعاينة اليومية وبمفارقات مدهشة وصور ساخرة من الذات للآخر ومن الآخر للذات: انا اهبيل اصكع، المنطيح خرب ليام .. تمزج بين السخرية والتأمل والمفارقة والبحث بمقصدية أو عفوية تنطق عن الهوى..
ولأنها زُرعت في حديقته أقصد الدالية، تحت سماء هواه فكل خطواته بحلاوتها لعبت بالراس، وابقا التحت في قاع الكاس..
يستدرك ويقول :
شاختْ حلمه فيا.. وانا انفك او انعكد من خيوط
ياك الله محلل لحلام/ احلمها قد السما/ وافية/ تغطي الراس/ ما تعري رجلين.ص 62
3- على سبيل الختم
يمكن اعتبار ديوان “عريس الدالية” بقصائده المعلنة وبما يخفيه طيّ العبارات والمعاني الملفوفة في دثار الشعرية المتولدة من الدفق العام، تحقيقها يتطلب بذل جهد جهيد، لأنه يخرجها بعصارة الألم لإثارة دهشة القارئ، هي صورة أقرب إلى السحر، سحر الامتاع واللذة بامتلاك قوة لغوية زجلة وصور شعرية جميلة بإيقاع صرخات تروم اللعب بأعواد الثقاب، مستثمرا ذخيرته الثقافية ومرجعيته الفنية الغنائية، باختيار جمالي منفتح بمقاصد دلالية تحتاج إلى أكثر من قراءة.