أنثروبولوجية يقطين تدوس التاريخ والجغرافيا في جدل الصحراء
إسماعيل طاهري
عندما يكتب الكثير من الكتاب المغاربة عن الشأن المحلي المغربي في منصات إعلامية مشرقية يقلدون الإسهال الإنشائي المشرقي، الذي يقول الشيء ونقيضه، ويصير موقفهم ضبابيا عصيا على الفهم كان المقصود هو اللافهم نفسه.
وهذا ما سقط فيه الدكتور الناقد سعيد يقطين في مقاله حول “التاريخ الثقافي والجغرافيا السياسية”، المنشور يوم الأحد 21 غشت على صفحته على الفيسبوك وفي موقع جريدة “القدس العربي”. والذي توقف فيه عند تداعيات تصريحات أحمد الريسوني رئيس اتحاد علماء المسلمين.
وعوض أن يقول كلمته في السجال حول تاريخية مغربية موىيتانيا والصحراء الشرقية، وهو المنتمي فكريا وسياسيا إلى اليسار (المنظمة “ب” سريا وشرعيا)، حاول مسك العصى من الوسط ليظهر بمظهر الناقد/المحلل السياسي المحايد. الذي لا يود استعداء أحد.
وإن بدأ أنه ناصر الطرح التاريخي الذي تكلم عنه الريسوني، فيقطين أغفل الطرح الشرعي الذي استند عليه الريسوني أيضا والمتمثل في البيعة الثابتة لأعيان وعلماء بلاد شنقيط للعرش الملكي المغربي.
فقفز على هذا المعطى وعومه في مفهوم “التاريخ الثقافي”، ليتوقف عند الجغرافيا السياسة بالمنطقة التي اعترف أنها قفزت على المعطى التاريخي أو الجغرافيا السياسية السابقة الناتجة عن الاستعمار الأجنبي الذي قطع أوصال المغرب الكبير وحوله إلى خمس دول هي بمثابة “جغرافية سياسية جديدة“.
وعوض أن يفكك هذه الجغرافيا السياسية الجديدة ويبين عدم شرعيتها التاريخية والشرعية من جهة، وأنها اليوم تمثل أكبر عائق أمام تقدم المغرب. لكونها “صناعة استعمارية”. حاول تبرير الواقع الحالي وكأنه قدر محتوم يكفي لتجاوزه فتح الحدود. بل وذهب إلى نسف أطروحتَي التاريخ الثقافي والجغرافية السياسية، والقول إنهما ضد الأنثروبولوجيا: الإنسان المغاربي الذي وحده التاريخ الثقافي، وشكل وجوده ووجدانه.
وأخطر ما جاء في عرض يقطين هو التشكيك في تشبث الشعوب المغاربية بتاريخها وانتمائها الوطني للدولة/ الجغرافية السياسية الموروثة عن الاستعمار، وادعى أن ما يهمهم اليوم هو السفر إلى الخارج للبحث عن اليورو، وكان همهم الوحيد هو العيش على النمط الحيواني الغريزي: الأكل والشرب والتوالد، وكل مظاهر الاستهلاك بلا قيم ولا تاريخ ولا جغرافيا.
وهنا يمكن القول إن ملايين المهاجرين المغاربة خارج المغرب (الذي يهمنا هنا والآن) يشكلون أكبر مورد للعملة الصعبة في ميزانية الدولة، وقد تجاوزت سنة 2021 مئة مليار درهم (10 ملايير دولار). وهذا يعني استمرار ارتباطهم العضوي بعائلاتهم الممتدة عبر تراب “الجغرافيا السياسية الحالية” للمغرب.
هل نسي الدكتور يقطين أن المغرب بعد الصين أقدم دولة في العالم، وهو دولة قديمة و ليست صناعة استعمارية، ولا ينطبق عليها ما ينطبق على الجزاير أو موريتانيا مثلا. إلا ما يتعلق باجتزاء أقاليم منها وتكوين كيانين جديدين هما الجزائر وموريتانيا بقوة الحديد والنار الاستعماريين، بتواطؤ مع نخب سياسية في المغرب والجزائر وموريتانيا.
وبالتالي فالتاريخ بالنسبة المغرب هو صانع جغرافيته السياسية، ولا يمكن القفز على هذا المعطى. وإلا فما معنى أن تكون سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وجزر الكناري مغربية وهي المحتلة لمدة خمسة قرون؟
أليس من بؤس الواقعية السياسية والرضوخ لمنطق الجغرافيا السياسية (المفترى عليها) مجرد التفكير في التخلي عن الثغور والجور المحتلة، فما بالك بالتفكير في التخلي عن الصحراء المغربية- “في دائرة حدود المغرب الحقة قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر سنة 1830“-
فالصحراء تمثل العمق الاستراتيجي لدولة المغرب منذ الممالك الأمازيغية، مرورا بالدولة الإدريسية قبل 12 قرنا وإلى يوم الناس هذا. ولا وجود للمغرب بدون عمقه الإستراتيجي هذا، فمعظم الدول/ الأسر التي حكمت المغرب جاءت من الصحراء. تغيرت الأسر الحاكمة وتغيرت العواصم، وذهب الاستعمار المباشر وبقيت توابعه (كصناعة استعمارية لا بد أن تفنى)، ولم تتزحزح جبال الريف والأطلس والسهول والواحات في الصحاري عن مكانها، وظلت تحضن مجتمعا موحدا في تعدده، يجمع الأمازيغ والعرب والمورسكيين والأفارقة واليهود في لحمة استثنائية، جعلت المغرب من البلدان النادرة التي لم تشهد حروبا أهلية مدمرة في مجمل تاريخها الطويل.
وبالتالي فالمغرب في دائرة حدوده الحقة ليس صناعة استعمارية، خلافا للجزائر (بعضمة لساني الرىيسين الفرنسيين دوغول وماكرون)، وكذلك الأمر بالنسبة لموريتانيا ومشاكل الصحراءين المغربيتين الغربية والشرقية، فهي صناعة استعمارية كذلك.
فقضية الصحراء المغربية قضية وجود وليست قضية حدود: فالملك الراحل الحسن الثاني وعى متاخرا أن التفريط في موريتانيا والصحراء هو أكبر مهدد لوجود الدولة والملكية في المغرب. لذلك تحرك سريعا بعد محاولتين انقلابيتين في 1970/71 وأحداث مولاي بوعزة في 1973 وميلاد البوليساريو في 1973، ودعا إلى المسيرة الخضراء التي حسمت الملف سلميا، ولو واجهتها قوات فرانكو بالقوة لاندلعت حرب تحرير شعبية ونظامية.
وانطلاقا من هذا الوعي بوجودية الصحراء بالنسبة المغرب قال الملك محمد السادس في خطاب ثورة الملك والشعب أن:”الصحراء المغربية هي نظارة المغرب على العالم”.