لماذا لا تكون عند المغاربيين ذاكرتهم المشتركة؟
عبد السلام بنعيسي
في الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر تمَّ الإعلان عن تشكيل لجنة مختلطة فرنسية/جزائرية تضُمُّ مؤرخين من الجهتين، وأوكلت إلى هذه اللجنة مهمة معالجة ملف الأرشيف والذاكرة، الملف المرتبط بالماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر. وكما هو معلوم فإن الذاكرة ليست جثمانا مُحنَّطا، يمكن لنا استخراجه من الأرض، لنقوم بتشريحه في المختبر، وتحديد الأسباب التي أدت إلى وفاة صاحبه، ونستخلص، بشكل علمي وموضوعي، العبر من دواعي وأسباب الوفاة، ونتجنب وقوع مثلها في المستقبل.
الذاكرة شعورٌ حيُّ ومقيم ومتحرِّكٌ فينا، وبقدر ما تمثل الذاكرة الماضي، فإنها تُجسّدُ الحاضر وحتى المستقبل أيضا، ولا يمكن للاقتراب من الذاكرة وتناولها أن يكون مجردا وخاليا من الأغراض، وأن يكون الهدف من ذلك هو الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي يطمئنُّ إليها الفرنسيون والجزائريون بشكل متساوٍ وعادل بالنسبة لكل طرفٍ على حدة.
يصعب تشكيل لجنة مشتركة لقراءة ملف الذاكرة قراءة صحيحة بين الضحية والجلاد، بين المستعمر والذي كان خاضعا لاستعماره، لكل واحد منهما ذاكرته المرتبطة بتلك الحقبة من التاريخ، ولكل طرف روايته الخاصة به، لأحداثها ووقائعها، وحين يجتمع المؤرخون من الجهتين المتقابلتين، فإن كل جهة ستسعى لجعل روايتها هي السائدة والمهيمنة، فمن المستحيل أن تكون هناك وسطية ونقطة التقاء في هذا الشأن، فإما أن تسود الرواية الجزائرية كما عاشها الجزائريون وذاقوا مراراتها وعذاباتها وويلاتها، وإما أن تسود الرواية الفرنسية كما يراها الفرنسيون ويعتقدون بصحتها، أو يدفعون للاعتقاد بصدقيتها.
هذا ملف يتعذر التوافق في شأنه، من يبحث عن التوافق بين جهتين على طرفي نقيض في موضوع الذاكرة، فإنه كمن يريد أن يجعل النهار ليلا أو الليل نهارا. التوافق مستحيل في هذا الملف، ما عدا إذا تمَّ قبول التلفيق، وتسميته توافقا، وبطبيعة الحال لن يفلح التلفيق في إقناع الجانب الجزائري بمضمونه، وسيجده لا يلبي حاجته في معرفة الحقيقة التاريخية، كما عاشها أبناء الجزائر، وكما هي ماثلة لهم في أرضهم التي تضمُّ رفات الأجداد الذين سقطوا ضحايا الرصاص والقنابل والمتفجرات، وعانوا من السجون والتعذيب في الزنازين الباردة، وتعرضوا للاختطافات، وصاروا من وقتها إلى اليوم مجهولي المصير على أيدي الفرنسيين.
قراءة الأرشيف لإغناء الذاكرة الجزائرية الجمعية عما جرى في حقبة الاستعمار ليست الغاية من وراء ذلك، القراءة من أجل القراءة، الهدف النهائي من الاطلاع على الأرشيف كما يُعبِّرُ عن ذلك الشعب الجزائري، هو الحصول على اعتذار رسمي من فرنسا بخصوص المجازر والمذابح التي اقترفتها ضد الجزائريين في حقبة الاستعمار، فهل فرنسا التي ترفض لحد الساعة الاعتراف بأن استعمار الجزائر كان عدوانا سافرا على الشعب الجزائري، يمكنها أن تقبل بالاعتذار عن استعمارها للجزائر، مع ما يستتبع الاعتذار من مطالبات من جانب ذوي الضحايا بتعويضات عما لحق أهلهم من ظلم فرنسي؟
إيمانويل ماكرون رفض الاعتذار بشكلٍ شخصي عن مجرد تصريح أنكر فيه وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي، فكيف يجرؤ، هو، أو أي رئيس فرنسي آخر، على قبول الاعتذار وتبنيه والدفاع عنه أمام الفرنسيين، وتجرُّع ما قد يستولد اعتذارُه للجزائريين من دعوات من دول أخرى كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي حيث ستطالب هي كذلك باعتذار لها على غرار الاعتذار للجزائريين، وبحقوق للمتضررين من حقبة الاستعمار الفرنسي على شاكلة ما قد يحصل عليه الجزائريون…
يبدو أن المسؤولين الجزائريين والفرنسيين يدركون أن تشكيل هذه اللجنة المشتركة لمعالجة ملفات وقضايا التاريخ العالقة بين الجانبين، لن يفضي إلى أي نتيجة، وستصل اللجنة المحدثة حاليا إلى نفس الطريق المسدود الذي وصلته أعمال اللجنة السابقة التي كانت تضم المؤرخ بن يامين ستورا عن الجانب الفرنسي ومدير الأرشيف الجزائري عبد المجيد شيخي، حيث فشل التعاون بين الطرفين، بسبب رفض الجزائر المقاربة الفرنسية حول آليات وخطوات معالجة ملفات ذاكرة الحقبة الاستعمارية الفرنسية.
ولذلك، قد تكون الغاية من تشكيل هذه اللجنة الراهنة هي ترحيل هذه المشكلة العويصة بين الجهتين، ترحيلها إلى وقتٍ لاحق، بدل الإقرار الصريح بالفشل في الوصول إلى أي نتيجة في هذا الباب. فالعديد من القضايا التي يراد ركنها في الزاوية، يتم الترويج بين الرأي العام أن لجنة قد أحدثت لمعالجتها…
ماكرون قال في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، كلاما يصب في هذا الاتجاه، وذلك حين أعلن: “قررنا مع بعضنا أن نطلب من وزرائنا تعيين لجنة مشتركة من المؤرخين لفتح الأرشيف، بمسؤولية ودون عقدة”، مضيفاً أن “ما نريد القيام به هو المضي إلى المستقبل، الماضي لم نختره ولكن لدينا مسؤولية اتجاه بناء مستقبل أفضل للأجيال الصاعدة”، مؤكدا على أن “لدينا ماض مشترك مؤلم ومعقد، منعنا في السابق من النظر إلى المستقبل، لا نريد أن نتخلص من الماضي ولكن لا يجب أن يمنعنا من المضي إلى الأمام”، وقال: “الحوارات بيننا تؤكد أننا نعيش في لحظة فريدة من نوعها تمكننا من العمل معاً وننظر إلى الماضي بتواضع”. الرئيس الفرنسي يقول بطريقة دبلوماسية في تصريحه هذا، لا تنتظروا الشيء الكثير من هذه اللجنة حول الماضي الاستعماري الفرنسي.
لكن لماذا لا تكون لنا نحن أبناء المغرب العربي ذاكرتنا المشتركة الخاصة بنا عن الحقبة الاستعمارية الفرنسية؟
لماذا لا ننشئ لجنة من مؤرخين مغاربيين تعدُّ لنا تقريرا موحدا عن فترة الاستعمار الفرنسي لمنطقتنا، وكيف قاومه أجدادنا وآباؤنا، وكيف نسقوا وتعاونوا بينهم، وما هي المعارك التي خاضوها مجتمعين ضده لطرده من ديارنا؟
ولماذا لا يتمُّ إدراج فقرات من مثل هذا التقرير المفترض ضمن المقررات الدراسية لتتبين الأجيال الحالية من الماضي الاستعماري الفرنسي وأشكال التضامن والتعاون التي كانت قائمة بين أبناء المغرب العربي التي أدت إلى هزمه في منطقتنا؟؟؟
لماذا لا نحيي ذاكرتنا النضالية المشتركة في عهد الاستعمار لكي تشكل إطارا للحفاظ على الروابط التي تجمعنا، وقاعدة للبناء عليها في المستقبل عندما يتمُّ التغلب على الخلافات السياسية التي تعصف بالمنطقة؟؟؟