وردة على ضريح طه حسين
إلياس خوري
صار كل شيء مباحاً، فبعد أن استبيح الأحياء صارت استباحة الموتى ممكنة، بل ومطلوبة في زمن الانحطاط العربي.
يجب ألا يكون خبر محاولة هدم ضريح طه حسين مفاجئاً، فالانحطاط ينتقم من النهضويين، والعتمة تنتقم من النور.
والمحزن أن عملية الانتقام هذه تجري ببساطة لا مبالية. الانحطاط ليس معنياً بشن حرب حقيقية على فكر طه حسين تقود في النهاية إلى هدم قبره. هؤلاء ليسوا معنيين بالفكر والثقافة، ولا علاقة لهم بالموضوع. ربما تناهى إلى مسامعهم أن طه حسين كاتب كبير، وأنه كان عميد الأدب العربي، وأنه أدخل التفكير العقلاني إلى متن الثقافة العربية، وأنه أحد صناع النهضة الثقافية الثانية، لكن هذا المسائل لا تعنيهم، ولا مكان لها في قاموسهم. لا يعرفون طه حسين إلا بالاسم، ربما يتذكرون أنه كان ضريراً بسبب قراءتهم مقاطع من كتاب «الأيام» حين كانوا في المدرسة الثانوية، لكن ما عدا ذلك لا شيء.
انحطاط جعل حياة الإنسان في مشرقنا العربي بلا قيمة.
انتشى الانحطاط بالغزو الأمريكي للعراق وبتفتت بلاد الرافدين، وحوّل أجساد المعتقلين إلى معرض للوحشية في سوريا، ويترك علاء الفتاح ورفاقه كي يواجهوا مصيرهم في السجون، ويسمح لجهاز أمن الدولة بتعذيب المعتقل السوري بشار عبد السعود حتى الموت في لبنان، ويتفرج على الفلسطينيات والفلسطينيين وهم يموتون قتلاً واغتيالاً وسجناً وسط الدعارة التطبيعية السائدة.
هذا الانحطاط المتمادي ليست السياسة سوى وجهه الفاقع، أما حقيقته فتمس المبنى الأخلاقي للمجتمع، ويتم تمزيق الثقافة بصفتها خلاصة الاجتماع والعمران وتطلعاً إلى اكتشاف معاني الحياة.
الانحطاط السياسي، الذي صنعه الاستبداد بوجهيه العسكري والأصولي، يصل اليوم إلى حضيضه الثقافي. وزير الثقافة اللبناني يبرر بشكل موارب المحاولة الهمجية لقتل سلمان رشدي، وأمن الدولة في لبنان يبرر التعذيب بضرورة حماية المجتمع، وقبر طه حسين معرض للهدم بسبب ضرورة توسيع الطريق وإنشاء محور مروري.
فوجئت حفيدة طه حسين، عندما زارت ضريح جدها الكائن بقرافة سيدي عبد الله بمنطقة التونسي بالقرب من مسجد ابن عطاء الله السكندري بالقاهرة، بوجود علامة x على مدخل الضريح وكلمة للإزالة، ثم فهم الجميع، بسبب الاتصال بأفراد عائلات تمتلك قبوراً قريبة من المكان وإبلاغها بضرورة نقل رفات الموتى، بأن القبور ستتم إزالتها.
فرنسا أبدت استعدادها لاستقبال رفات العميد وبناء ضريح يليق بأكبر كاتب مصري حديث.
عندما قرأت خبر الاستعداد الفرنسي شعرت بالخجل والعار، وهو خجل يشبه خجلي عندما تم قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان من قبل الأصوليين التكفيريين. ولم يخفف من وطأة هذا الشعور سوى قيام الفنان السوري الكبير عاصم الباشا بإقامة تمثال للمعري، في منفاه الغرناطي، يليق برهين المحبسين. لكن تمثال المعري انضم إلى ملايين اللاجئين السوريين الذين ينتظرون العودة إلى الوطن.
تقول آخر الأخبار إن السلطة تراجعت عن قرار إزالة ضريح طه حسين بسبب ردة الفعل المصرية والعالمية، لكن لا شيء مؤكد، ففي بلاد العرب اليوم علينا دائماً أن نتوقع الأسوأ، لأن خيال الانحطاط قادر على الوصول إلى قعر جديد تحت القعر.
الذي يزيد الأمور بؤساً وحزناً هو أنني أعتقد بأن طه حسين لم يكن مقصوداً بذاته. ولو كان الأمر مختلفاً لكانت المسألة قد اتخذت بعداً آخر وبدأت بمنع كتبه وشن حملة على أفكاره. صحيح أن الحملة على المثقفين كتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وطه حسين مستمرة منذ زمن، لكنها حملة هامشية لم تتخذ بُعداً جعل من أجهزة الدولة تتبناها. نحن لسنا في الزمن الناصري، حين كانت «دولة الضباط الأحرار» تخشى المثقفين والثقافة، فتقوم بترويضهم وسجنهم بهدف استمالتهم إليها. عبد الناصر ومستشاره محمد حسنين هيكل وأجهزة المخابرات كانت تعرف ما للثقافة من أهمية ونفوذ، لذا حرصت على احتلال المستوى الثقافي بشتى الوسائل المتاحة.
أما في زمن الانحطاط الشامل الذي تعيشه العرب، فلا يجري تهميش الثقافة فقط، بل تتم عملية إبادتها، وإخراجها من الحيز العام برمته.
نحن اليوم أمام نمطين:
نمط استبدادي لا تعنيه الثقافة ولا العلم ولا التعليم، إنه زمن مبرقع بالنياشين، متطاوس في الفراغ. زمن يشبه مدينة «نيوم» التي تصحّر الصحراء، وتنتفخ بالمظاهر البراقة.
ونمط أصولي، يجعل من الفقه علامته الثقافية الوحيدة، ومن الإعلام على الطريقة الكورية الشمالية أداته.
وبين هذين النمطين وفي ظل سطوتهما، تتفكك المجتمعات ويتم هدم الحواضر، وسط عمليات نهب لا سابق لها، قد يكون لبنان والعراق نموذجيها الصارخين.
وسط هذه العتمة الحالكة، نرى طه حسين يقف إلى جانب أبي العلاء. كاتبان فقدا البصر فأشعلا ضوء البصيرة، علامتان على مقاومة الانحطاط بالعقل والعقلانية.
كان أبو العلاء قادراً على صد جيش بكلماته، وكان طه حسين قادراً على تأسيس رؤية جديدة لمعنى الثقافة ودور المعرفة وتأسيس الجامعة العلمانية والدفاع عن حريتها واستقلاليتها، وتعميم التعليم ومجانيته، في بناء الحياة الكريمة.
هدم ضريح طه حسين والتراجع الملتبس عن هذا القرار، وقطع رأس المعري ومنفاه الغرناطي، وضريح أحمد فارس الشدياق الذي ينتصب وسط مقبرة المتصرفين العثمانيين في الحازمية قرب بيروت، حيث تحول القبر إلى زاوية مهجورة وسط شركة دليفري لتوزيع المأكولات، كل هذا لا يغير معنى الأشياء. فالمعنى تختزنه الكلمة الحرة التي لا تموت ولا يتسع لها قبر.
الثقافة تقف اليوم كشاهد أخير على أن شعوبنا تستحق الحياة وتستطيع أن تصنعها، أما هذا الانحطاط فمصيره إلى الزوال.
نقف أمام ضريح طه حسين الذي تظلله شجرة ميموزا زرعتها سوزان زوجته ورفيقة بصيرته، وتنحني معنا الورود أمام سحر الأدب وبهاء المعرفة.