الصعود إلى الجبل.. قصة للكاتب المغربي محمد الهرَّادي
محمد الهرَّادي
حين فتح عينيه رأى جدته. وسط العتمة رآها خلف الباب ترتب أعوادا وتضعها بجانب كومة حطب في الباحة. وحين أغلقهما لم يعد يراها. ثم فتح عينيه ورآها تقترب، وأغلقهما ولم يعد يراها. وهي تمسك ساطورها الصغي، وتنظر إليه من فجوة ثقب في الجدار. قالت : النهار طلع، قم من النوم. أغمض عينيه ورآها هذه المرة. عيناها تحملقان فيه بتحذير، لكن قسماتها المجعدة القاسية لم تكن واضحة. تظهر فقط عيناها. تغشاهما حمرة خفيفة. وحين فتح عينيه مرة أخرى رآها بشكل مختلف، خيال يتحرك في الظلام، تلف نصفها النحيل بحبل نيلوني، وتضع طرف الحبل على كتفها، وفي كيس بلاستيكي تدس أشياء لم يرها بوضوح. وهو ينظر بنصف عين نائمة، أزاح الغطاء عن ساقيه المتجمدتين، ثم نهض. جدّته تسمع أنينه المجروح. وهو لا يدرك أن تلك كانت عادته حين يستيقظ، يسير بخطوات مترنحة على الحصير. يصدر أنينا له شبه بصوت ذئب رضيع. وتذكر إيقاع تلك الأغنية التي سمعها ليلة أمس، قبل النوم، وأراد أن يبكي لأنه لم يتذكر كلماتها، ولا من غناها. وسالت قطرات مخاط من أنفه الرطب، ومسح أنفه بكم قميصه.
كان الفجر قد نهض بدوره هو الآخر، وأرسل نورا هزيلا تسلل بين سحب رمادية في حد الأفق. يكشف ضوء الفجر تفاصيل غرفة عارية من الأثاث، ترتدي لون الصباح الباكر. لون أزرق فضي يغطي السطوح. أخذ الطفل قطعة قماش رطبة وجدها قرب سطل ماء موضوع أمام الباب. تسربت برودة إلى مفاصله. مسح وجهه الصغير بقطعة القماش. قالت الجدة وهي تطوي فراشه المشمع: لا تنس أنفك. فتح الطفل فتحة سرواله الأمامية وتبول في قلب العتمة على بعد خطوات. مسح أنفه الرطب بكم قميصه. نهنه مثل جرو معلول. على بعد خطوات من جذوع نبات الصبار النابت جنب الباب، أفرغ فتات الخبز من جيبه. احتفظ لنفسه بقطعة صغيرة. كان لشرشرة البول صوت صفير أجش وهو يحتك بنبات الصبار الجاف. ظن في البداية أنه يتبول في الفراغ، لكن سائله الدافئ الذي يبعث حياة في الأشياء الهامدة من حوله، كان يوقظ النمل الذي بنى مستعمرته هناك.
حين دفعته أمامها وهي غاضبة، انزلقت قطرات بول إلى فخذه. ولكنها تجاوزته. رآها تستدير خلف صخرة تسد الطريق. قريبا من بقايا جذر شجرة يغلق الممر المؤدي إلى فسحة تطل على الجرف. تحركت بخطوات سريعة خلف حقل الذرة القديم ثم التفت حول سور طيني متهدم واختفت في عتمة ضبابية. لاحقها الظلام واتسقت خطواتها القصيرة مع موجته الغازية. بحث الطفل عن صندلة الجلد التي رماها في زاوية الكوخ. تلمس الأرضية الترابية بقدميه في الركن المظلم وأدخل قدميه المجمدتين في فجوة النعل المتيبس. تأكد من قطعة الخبز في جيبه الصغير. حمل قطعة المشمع التي تركتها جدته مطوية فوق كومة الحطب ونشرها على ظهره. وتصور النمل يخرج من مخبئه. يحمل معه فتات الخبز الذي تركه قرب نبات الصبار، وهو يحملها على ظهره. يختفي بين الشقوق لتناول الفطور.
في الطريق إلى أعلى الجبل رآها. مشى حوالي ساعة حين رآها. تجلس خلف صخرة صماء لتقي نفسها من البرد. حين اقترب رفعت رأسها. ورأى الطفل وشمها الذي يزين وجهها المجعد. أخرجت يدها من بين تلافيف ثيابها الرطبة وأمسكت بيده. أجلسته بجانبها بعد أن فردت غطاء المشمع وسوّتها لتغطيهما معا. لم يقل كلمة. شعرت بارتعاشاته المتوالية في حضنها وقالت تواسيه: سيتوقف الرذاذ حين تطلع الشمس بعد قليل. صمتت. لكن الهواء البارد المصحوب برذاذ ثلجي لم يصمت. خيل إليه أن صوت جدته يشبه صوتها حين كانت تغطيه قبل النوم. ليس صوت الريح، وإنما صوتها هي. وهي تغني. لا تغني له. تغني لنفسها. تفرك يديها المتورمتين عند المفاصل. تنظر من ثقب الكوخ الشبيه بعش يدخل ويخرج منه الهواء. وتلمح السماء. سماء زرقاء تطل من جانب السفح. وربما لم تكن زرقاء. لكنه لون يبدو كالأزرق ينتشر خلف شجرة الأرز الخضراء في الجوار. وهو يشعر بها. وبأنه ينام في النهار بعد وجبة حساء الشعير لأنه مريض. وبأن النمل وحده يلعب في الباحة. النمل لا يمرض. يطلع ويهبط على جدار الطين ولا ينزلق ولا يسقط. بلا صوت. لكن صوتها هذه المرة لا غناء فيه. وبنظرة جانبية رآها. ورأى ملامحها المريضة ولاحظ أنها هزلت. تغمض عينيها. وعمش خفيف يظهر في الزاوية. والوشم الأخضر على ذقنها لا يظهر منه إلا عرق صغير يشبه دودة ميتة. تحرك شفتيها كما لو كانت تكلمه. لكنها لا تكلمه. وربما يكون الثلج الذي أخذ ينزل ندفا ويغطي جزءا من ساقيها وجبهتها هو الذي يجعل شفتيها تتحرك. ونظر إلى السماء الرمادية المنقطة بالأبيض . ثلج يبتلع الثلج . وريح تترنم بأغنية من صقيع .
في أسفل سفح الوادي ، وهما يتسلقان الجبل عبر الممر، زرعت أحجار مسننة كي تحجز الثلوج القادمة . لكن رعاة الماعز ما عادوا يمرون من هنا. تركوا السفح الغربي بثلوجه ونزلوا إلى الخيام المحمية من الرياح في الجهة الأخرى. رأتهم العجوز يجرون بغالهم في أوائل الخريف ورأتهم هذا الصباح قبل وصول الطفل. وهم يتركون خلفهم ضجيج الماعز المتقافز بين الصخور والشجيرات اليابسة وينزلون السفح مسرعين. أما الآن، فقد بقيت وحدها. تشعر بالجبل خلف طهرها وتفكر أن الثلوج المتراكمة الآن فوق قمته هشة لينة. تغوص فيها الأقدام كما تغوص في الوحل. وعند ذلك وهي تغوص في الثلج تسمع خرير الماء القادم من بعيد. لا تعرف مصدره، ولكنها تتصور أنه قادم من مساقط مياه تختفي خلف الصخور. وأنها لا يمكن أن تصل إليها لأن خلف تلك الصخور صخور أخرى. تعكس جوانبها المواجهة لقلب الجبل ذلك الضوء الذي ترسله كتل ومكعبات الثلج المنكسرة، وعلى الجهة الأخرى تتعرى الصخور. تبدو كالحة غاضبة. ينزلق على حوافيها الماء الذي عاد إلى أصله. يسري بين عروقها كالدماء. يشكل بركا صغيرة بحجم الكف على الجوانب المحدبة، وينزل من الحوافي سريعا على شكل قطرات متعاقبة في اتجاه الشقوق والمنحنيات، ولا يتوقف الماء أبدا لأنه يسترسل في جريانه حتى يلتقي بمياه أخرى قادمة من صخور أخرى، ويتجمع في النهاية حين يستقر في القناة التي حفرت لها طريقا بين صخور أخرى تختفي تحت الطين وعلى جوانب ما تبقى من تراب أحمر، وهو يتجه بلا استئذان نحو المنعطفات الخفية في اتجاه المجاري الغامضة، قبل أن يتسرب هادئا نحو الأرض المستوية . يسير الهوينا فوق الأراضي الجرداء ليصل في النهاية إلى مبتغاه ويلبي نداء أشواقه. الواحات البعيدة على امتداد البصر وهو يشم رائحتها، حيث كثبان الرمال التي تحاصر غابات النخيل. وهي تفكر في ذلك، تتخيل النساء اللواتي يحفرن في الطين. وهي لن تصل أبدا إلى هناك. تعرف ذلك. وحضنت الطفل ضاغطة بذراعها على جسده الهش. وفكرت في الماء الذي يترنم بغناء تعرفه. وتحرك الطفل الذي نوّمته رتابة الريح ورائحة جدته. وعوض أن تفتح كيس البلاستيك وتعطيه ما يأكل، أمرته بالوقوف ومتابعة السير.
كانت الشمس المختفية خلف كتل الغمام تفر بسرعة. ظهر شعاعها قبل العاصفة ولم يعد لها أثر الآن. تلكأ الطفل قليلا وسط الممر الضيق ثم ركض في اتجاه جدته وتجاوزها. توقف وهو ينفث بخار جسده على أصابعه. تلمس أنفه الرطب واكتشف أنه لم يعد يشعر بأصابعه. وجد برودة أصابعه الميتة على وجهه مثيرة للضحك. ورأته العجوز يضحك ولم تستجب له. قالت له: ابق بجانبي. لكنه لم يأبه لها. وهو يقفز من صخرة لأخرى ويضحك ويتطلع إلى أصابعه وإلى كل شيء. ولو سمعه طائر الشعير لظن أنه أحمق. لا. طائر صغير يقفز في الجهة المواجهة للعاصفة. لا . لا ولا . وبدا الطفل أشبه بطائر قندس له رطانة. طائر مهذار. لا يبالي بأصابعه ولا بالعاصفة.
في النهاية آلمته حافة النعل حين قفز مرارا فوق الصخور المدببة. اكتشف ذلك حين توقف ينصت لصوت دوي قادم من سفح الجبل المقابل المغطى بلباس العاصفة. فكر في الصخور التي تهوي من القمة في الجانب الآخر للجبل. لكن صوت الدوي حين تصادى بين المرتفعات تحول إلى صوت رعد متناوب. تطلع إلى قدمه العارية وكشف عن جرح صغير يغطيه دم متجمد. انتظر جدته ونظر إليها وإلى جرحه الصغير ولزم الصمت. وفيما دوي الانهيار الصخري يتلاشى بعيدا عنه، شعر بمخاطه اللزج ينزلق من غدد أنفه الدافئة ويأبى الخروج من فتحتي منخاره لأنها تجمدت من شدة البرد. وجعله ذلك يشعر باختناق وهو يتنفس من فمه. تتصاعد بين لهاثه أنفاس بخارية سرعان ما تختفي. ولحسن الحظ تجاوزته العجوز دون أن تقرصه جاذبة أذنه إلى الأعلى لترفعه عن الأرض مثل أرنب. فكر أنها مرهقة وجائعة ولذلك لا تراه. الجوع والإرهاق يحولانها إلى امرأة عمياء. يعرف ذلك. قالت : الشمس لن تطلع اليوم، والطريق غير ملائمة للسير. وأضافت: اتبعني. أطل الصغير على المنخفض العميق الذي يسير على حافته ولم ير غير كتل من ضباب ثقيل. بين تلك الكتل رأى شجيرات معلقة في الفضاء وهي تسبح مع الريح. ربما هي سحابات مسافرة مثقلة بالمياه وبالأشجار التي تحملها في بطنها. لم يكن متأكدا من شيء، ولا شيء يقلقه تلك اللحظة غير الطعام الذي يناديه، ويؤلم معدته الخاوية.
قفز في اتجاه العجوز التي واصلت السير بمحاذاة ظهر الجبل. كانت تنقر على جدار الصخر بعصاها الصغيرة طيلة صعودها المرتفع. في أول الأمر حسب أن تلك النقرات هي علامة التوقف لتناول الطعام. لكنه كان على خطأ . فقد انتظرت المرأة الصوت المناسب وتوقفت عن السير. جلست ومدت ساقيها وظهر التعب والمرض بوضوح على وجهها. وضعت الساطور الصغير المعد لتقطيع الحطب بجانبها. لم تستعمله للحفر في التراب الصلب من قبل، ولم تنته المرتفعات بعد، قالت، وحين مدت ساقيها شعرت بأن الحذاء المطاطي بدأ يؤلمها أكثر من ذي قبل. يضغط على كاحلها بقسوة. وأحست أنه يسلخ جلدها. حلت عقدة الحبل الملتف حول نصفها وكتفيها. أخذت طرف الحبل وربطته بإحكام على رأس صخرة لوحية مركونة في انعطافة الممر الجبلي. وحين جذبتها بما تبقى من قوتها تساقط اللوح الصخري قرب ساقيها محدثا ضجة. وظهر في الشق ما يشبه مخبأ صغيرا يقي من الريح والبرد، مخبأ بحجم قبر واطئ العلو. وجد هناك منذ قرون، واللحد الذي يغطيه كان هو الباب الذي فتحته. لكنه لم يكن يتسع لكليهما.
حين رأى الطفل ذلك أراد البكاء. تغيرت قسماته واقترب من جدته واحتضن ساقيها. وشعر بهدوء حين شم رائحة عرقها الذي جمدته الريح. وضعت يدها على رأسه ولم تقل كلمة. تطلعت إلى السماء ودارت في رأسها فكرة أنها ستمرض. ربطت بإحكام قطعة المشمع حول جسد الطفل ثم مدت له لفافة مغطاة بورق بلاستيك. قالت: اجلس وكل. لم يشعر وقتها بالجوع، بل برغبة في البكاء. التصق الطفل بساق العجوز النحيلة ولم يقدر على مفارقتها. قالت له: لا تخف. واصل الطريق. أنا مريضة.
***
لم يحدث له ذلك من قبل. وضع الحبل على كتفه ودس ذراع الساطور تحت حزامه ثم غطى نفسه بالمشمع رغم أن الثلج توقف. زخات رذاذ بارد كانت تصفع وجهه حين تركها خلفه. فكر في النمل الذي حمل فتات الخبز إلى مخبئه دون أن يأكل، وكان في انتظاره، وفي البغال التي مرت وتركت خلفها كويرات روث صلب، ورجال يتبعونها وهو يمسكون بذيولها كي لا تفلت منهم، وفي الماعز الذي اختفى بين الصخور وتسلق قمم الشجيرات في انتظار نهاية العاصفة، وفي كومة الحطب العارية في الباحة مقابل الكوخ وهي تنتظره، وسمع أصواتا غريبة، ربما كانت أصوات نباح، لا يدري، أو أصوات الصدى الذي يحدثه الرعد. لكنه واصل السير في الممر الضيق المؤدي إلى الأعلى .
لم يحدث له ذلك من قبل. ومنذ ترك جدته في المخبأ، داخل الحفرة التي لها مدخل مفتوح بين كتلتين من الصخور، وهي تتأوه من الألم وتنادي الموت بأية وسيلة، صارت أحلامه ملونة وغنية بالمشاهد : جواهر حمراء وخضراء على حافة الطريق. لا تصلح للاستعمال. وهو يركلها بقدميه كما لو كانت مجرد حصى، بدا من شدة سواده فجا تحت مياه المطر . نحل له طنين خافت . خميلة تنفجر بالألوان. زهر منقط بالذهب. ربما هو نحل أصفر يطارد الرحيق. زهور حمراء ترفرف أمام عينيه كالرايات الصينية. تفاح ناضج يتدلى من قمم الغيم. قناديل مشتعلة لها شكل فاكهة كانت تأتي بها جدته يوم السوق. نساء راقدات تحت ظلال العشب يلوحن للعابرين المحمولين على عربات الكارو. والكارو يجره حصان له أجنحة. أشجار أكثر علوا من السماء. يعرف أنها ستنتظره. طريق الدغل خلف الأجمات تتجه إلى الأعلى بين كتل الثلج والصخور. إلى اليمين يرى بريق الترحيب في أسفل الهاوية. رمل رطب أنعم من السحاب الطافي على صفحة الماء. تحت الأغصان اليابسة يسمع صوت القبلات التي كانت تهديها له جدته حين يصحو من النوم. في ثنايا كل قبلة يرقد الضحك، وتنتشر رائحة خبز سميد ساخن. إني أبحث عنك، قال لنفسه. في جوف كل قبلة يسمعها في طريقه إلى الأعلى يوجد رنين. عضات النمل الجائع حين يتسلق ساقيه العاريتين. أسنان بيض تعض تلك الحمرة المتفجرة في حبة طماطم وجدها قرب باب الكوخ. ضحك دامي. أحمر. إني أبحث عنك. قال. ها أنا أرى عصاك الصغيرة متجهة صوب تلك الضحكة الحمراء. لا تذهب. أحمق.
سار الطفل عبر الممر نحو الأعلى وازداد الجو بردا ووصل أخيرا إلى فسحة في المرتفعات. تراءى له من شدة الدوار الذي ألم به أنه يرى بناية جميلة معلقة بين القمم المتاخمة للغمام. اضطرب قلبه حين رآها. استدارات نونية. حواشي معرّقة. حيطان محشوة بغناء خافت. زخارف رقيقة ربيعية. أبواب بلا أقمصة نوم. شرفات تتنهد. أحجار مطرزة بقوافي وحروف كسولة. خطوط ومنحنيات نائمة. قباب دوارة مثل رؤوس معمّمة. نوافذ تغمض عينيها. حديقة تتناسخ أرواحها الملونة. غارقة في رخاوة صمت. ضوء لا يأتي من القمر ولا من الشمس المحتجبة. أعمدة نحيفة طويلة تتصاعد في مجرى الهواء. ما معنى ذلك ؟ من الذي قطّر هذا الصمت والهدوء؟ تفضل. وخطا الطفل خطوة إلى الأمام، وهو يرى جدته التي تركها خلفه، تقف أمامه.
إلى أين يسير ؟
__________________________
* خاص بـ”السؤال الآن”- من مجموعة قصصية لمحمد الهرادي قيد النشر بعنوان: “نفس حزينة حتى الموت”.