شريط “تحدي الحشومة” أو جدلية المرئي واللامرئي
محمد امباركي
بداية لا بد أن نشير إلى أن هذه القراءة في الشريط القصير “تحدي الحشومة ” لمخرجه الفنان المسرحي والسينمائي عبد الرزاق بنعيسى، اعتمدت كثيرا على كتاب الباحث في علم الاجتماع الدكتور فريد بوجيدة، والذي يحمل عنوان “الصورة والمجتمع، من المحاكاة إلى السينما”. 1
إن أية محاولة للاقتراب من المنتوج السينمائي في تعدد تعبيراته ومضامينه، من زاوية سوسيولوجية، يستوجب الوقوف بالضرورة عند علاقة السينما والسوسيولوجيا وتقديم بعض الأفكار بهذا الشأن . فماهي طبيعة هذه العلاقة؟ وكيف تجد بعض تجلياتها على مستوى شريط “تحدي لحشومة” لمخرجه عبد الرزاق بنعيسى؟
1) ما معنى سوسيولوجيا السينما؟
إذا كانت السوسويولوجيا هي العلم الذي يختص بدراسة المجتمع من حيث ظواهره، بنياته، العلاقات بين الأفراد، بين المجموعات الاجتماعية، التفاعلات الاجتماعية..، فإن السينما بما هي فن سابع يساهم بشكل كبير في تسليط الضوء على ظواهر المجتمع وبنياته الخفية والمعلنة، وبالتالي هي الشاشة الكبرى التي تنكشف فيها كثير من القضايا المراد لها أن تبقى على الهامش، أو في طي الكتمان. كما يقول رولان بارث ” المرئي أضحى أكثر صدقا في التعبير”. 1
إن السينما هي في حد ذاتها سلطة رمزية لها مفعولها القوي في الوعي الاجتماعي، فبفضل “تأثيرها على المجتمع، تعد السينما أكثر الوسائل استقطابا وجاذبية، إنها أكثر من فن، وأكبر من وسيلة إمتاع، وأسمى من طريقة فقط لمراكمة الرأسمال، إنها كل هذا، بالإضافة الى كونها وثيقة تقدم معطيات أساسية لعمل الباحث السوسيولوجي. من منا يمكن له الآن أن يتجاهل ما قدمته السينما الأمريكية عن المجتمع الأمريكي، والسينما الإيطالية عن المجتمع الإيطالي والألمانية والمصرية ؟”. 1
كيف يمكن أن ننظر إلى الفيلم حينما نشاهده بعين سوسيولوجية؟
بما أن الأفلام تقول شيئا ما، فإن السوسيولوجي يتساءل الى أي حد “هذا الشيء ” يتحدث عن المجتمع. فالفيلم يتحدد إذن باعتباره وثيقة ثقافية أو منبعا للمعلومات خاصة بالمجتمع الذي ينتجه”[1].
سوسيولوجيا السينما تعني أن السينما “وسيلة للتعبير من ناحية، ومن ناحية أخرى هي طريقة لتجميع المعطيات المرئية القابلة للاستنطاق والتأويل، ومن جهة أخرى مرآة لإبراز الواقع والتمثلات الاجتماعية والرؤى المرتبطين بالفاعلين في هذا المجال”[2].
يقول إدغار موران”، أن السينما ” مرآة للمجتمع وفيه يقبل السينمائي أو يرفض القيم، ولكنه في كل الأحوال يكون شاهدا عليها بشكل من الأشكال “[3].
إنه بالقدر الذي تشكل فيه السينما مرآة للمجتمع، فهي لا تستنسخه، بل تعمل على إعادة بنائه وترجمة المعاني والدلالات التي تحيط بالممارسات الاجتماعية والثقافية، القيم، الرموز، المؤسسات، ومختلف التفاعلات السوسيوثقافية في بعديها الأساسيين، البعد الماكروسوسيولوجي باعتباره قراءة وتحليلا للبينات والأنساق والمؤسسات الاجتماعية، والبعد الميكروسوسيولوجي باعتباره يشمل المجموعات الاجتماعية الصغيرة على مستوى البنيات، العلاقات والتنظيمات.
2) “تحدي لحشومة ” كاشف اجتماعي Scanner social
على ضوء التأطير النظري أعلاه، وفي علاقة بالشريط القصير “تحدي الحشومة” أو “تحدي العار” Le défi de la honte، والذي يعالج ظاهرة الاعتداء الجنسي ضد الأطفال باعتبارها ظاهرة مركبة على مستوى أبعادها النفسية والسوسيوثقافية، يبدو الشريط عبارة عن صور مرئية تسلط الضوء على غير المرئي، على المسكوت عنه، الطابو، الذي يراد له أن يظل في طي الكتمان، وذلك باسم ذهنية جماعية تحكمها تقاليد وطقوس” الحشمة ” والإخفاء ودرء الفضيحة والوصم، وبالتالي نحن أمام سوسيولوجيا للمرئي…هذه السوسيولوجيا التي تحاول الكشف عن ثنايا اللامرئي في كل ما يقدم كمجال مرئي، وفي هذا الكشف يتجلى ذلك التفاعل بين الفرد والجماعة التي يمثلها، كما تزول تلك البراءة التي كانت تلف العالم المرئي، وهذا ما عبر عنه السوسويولوجي الفرنسي بيير بورديو بالقول “إن الآراء الجمالية ليست عشوائية، ولكنها مثل الممارسة تخضع للنماذج الثقافية[4]. وهكذا ينضاف “تحدي الحشومة” إلى الفيلموغرافية المغربية حول الطفولة، والتي رغم التراكم السينمائي الحاصل في هذا المجال، فإن وتيرة هذا التراكم تظل بطيئة ومحدودة أمام الغنى السوسيولوجي لواقع الطفولة ببلادنا والخصائص المركبة التي تميز هذا الواقع سواء من جهة تواتر الانتهاكات التي تطال حقوق الطفولة كفئة هشة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها بنفسها، أو من جهة عجز السياسات العمومية في حقل الطفولة عن الحماية والنهوض بأوضاعها أمام تشتت تشريعي غير معقول ومسطرة قضائية يطبعا البطء وعدم النجاعة، كل هذا في ظل فضاء سوسيوثقافي يفتقد الى الكثير من مقومات الاعتراف والتثمين إزاء الأطفال.
في الواقع، إن هذا الشريط يبلغ رسائل غنية بأدوات بسيطة، من خلال لغته الصامتة التي تتكلم بصوت مسموع عن طريق أولا صفارة الإنذار لدق ناقوس الخطر إزاء الظاهرة وإزاء لغة “الصمت” والتواطئ، وثانيا عبر الصورة والموسيقى، الفضاء والشخوص، الانتقال على مستوى الألوان من الأبيض والأسود أثناء تسجيل حالة المطاردة واستعداد القناص للانقضاض على فريسته، الى البث الملون لمجريات الانفلات من قبضة “البيدوفيلي” والاستحمام من آثار الاعتداء وجراحاته الرمزية، ثم تأمل حركة القطار من الأعلى وهو تأمل قد يفسر بالرغبة في التحليق عاليا نحو أفق أرحب خاصة في ظل مواقف داعمة قد تبدو رمزية لكنها قوية المعنى والتأثير…الشريط يدخل في خانة مقاومة استراتيجية ” الإخفاء ” ويتحول بالضرورة الى ” كاشف اجتماعي “[5] يرى فيه المجتمع اختلالاته، علله وأمراضه. هكذا نحن أمام صورة توثق لتحولات المجتمع في اتجاه أن تصبح ظاهرة الاعتداء الجنسي على الأطفال في عداد الظواهر المرئية والحاضرة بقوة في النقاش العمومي، سواء على مستوى المساهمة في تغيير التمثلات السائدة إزاء الطفل ومكانته داخل المجتمع (بز، برهوش،..) وبالتالي الاعتراف بشخصيته وحقوقه داخل الأسرة وخارجها، أو على مستوى استفزاز كل مكونات المجتمع كي تبحث عن المداخل الاجتماعية، الثقافية ، النفسية، التربوية والقانونية والمؤسساتية لمحاربة هذه الظاهرة.
إن الحاجة الى الترويج والإشعاع لشريط “تحدي الحشومة”، لا تستجيب لمنطق تجاري يهدف الى مكاسب مادية معينة، رغم أن شروط إنتاج وتسويق الشريط، هي شروط بسيطة وصعبة في ذات الوقت، حكمها منطق التطوع والإرادة، بل من منطلق أن السينما لا بد لها من الخروج الى الشارع…تصوير النضالات في جميع الأماكن وتوثيق الحياة اليومية، والشعار الأساسي حسب ميشال كاري هو “إعطاء الكلمة لأولئك الذين حرموا منها”[6].
باختصار، أقول عن مخرج هذا الشريط القصير عبد الرزاق بنعيسى والطاقم ككل، ما قاله السينمائي الفرنسي جان ميشال كاري: “أنا أناضل من خلال الفيلم للقول بأننا يمكن دائما أن نغير الأشياء، نحن نقاوم ونتقدم لأن المعركة لم تحسم بعد”[7]، وهذا ينطبق على شريط “تحدي الحشومة” رغم افتقاده الى بنية ملائمة للإنتاج من حيث الإمكانات المالية والتقنية والبشرية، ولكن هذا لا يقلل من الرسائل القوية التي حملها فنيا ومضمونا إزاء ظاهرة تؤرق المجتمع والدولة، وتتعلق بمستقبل البلد أي طفولته، بمعنى آخر أن معركة حماية طفولتنا التي تنتظر منا الكثير هي معركة مفتوحة، معركة الجميع…وهذا ما يستوجب أن يحظى الشريط بالدعم الضروري والاحتضان الاجتماعي الواسع، وأن يدخل الى جميع مؤسسات المجتمع خاصة الأسر، الإعلام والمؤسسات التعليمية والنسيج الجمعوي والمدني.
_____________________
[1] – نفس المرجع. ص: 181
[1] – نفس المرجع. ص : 123
[1] – نفس المرجع. ص : 129
[1] – نفس المرجع. ص : 118-119
[2] نفس المرجع. ص : 123
[3] نفس المرجع. ص : 129
[4] نفس المرجع. ص : 118-119
[5] نفس المرجع. ص : 139
[6] نفس المرجع. ص : 157
<
p style=”text-align: justify;”>[7] نفس المرجع. ص : 187