اتفاق بكين تكتيك مؤقت أم مرحلة جديدة
هاني المصري
بادئ ذي بدء، لا بد من التوقف أمام الاتفاق الثلاثي (السعودي الإيراني الصيني)، الذي يعدّ تطورًا نوعيًا، يمكن أن يشكل – إذا تم تطبيقه وتجاوز مرحلة الخطوبة التي حددت بشهرين وتم عقد الزواج – بداية مرحلة جديدة، وهذا السيناريو الأكثر احتمالًا بسبب الضمانة الصينية للاتفاق، أو مجرد تكتيك مؤقت يقود إلى هدنة مؤقتة، وسرعان ما تعود ريما إلى عادتها القديمة.
ويتوقف الأمر على كيفية تعامل الأطراف مع الاتفاق، وهل سينجح المتضررون منه في تخريبه، وخصوصًا حكام واشنطن وتل أبيب، أم سيتم تطبيقه، بما يتجاوز إعادة العلاقات الديبلوماسية خلال شهرين، إلى الاتفاق على نهج جديد وسياسات جديدة، من خلال التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب اليمنية، وهذا هو الاختبار الأول والأهم، ويمكن أن يساعد في التوصل إلى اتفاق “طائف جديد” يتم فيه حل مسألة انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، وفي عودة العلاقات السعودية السورية، بما قد يفتح الطريق لقيام تكتل عربي يسعى إلى أخذ مكانه في العالم الجديد الذي يتشكل، ويفتح الاتفاق الباب لوقوف سوريا على قدميها، وأخذ مقعدها في الجامعة العربية، بما يمكنها من حضور القمة العربية القادمة في السعودية؟
إذا طبّق هذا الاتفاق، فهذا يعني تغييرًا جوهريًا في السياسات والأساليب، لا في الأهداف، فكل طرف سيستمر في السعي إلى تحقيق أهدافه، ولكن بأشكال ناعمة وليس مرة واحدة.
كما يوقف اتفاق بكين المحاولات لإقامة حلف أميركي عربي إسرائيلي، سياسي وعسكري، ضد إيران، وهذا سيقلل من احتمالات اندلاع حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران، خصوصًا أنه ترافق مع تحرك نحو استئناف المفاوضات حول الملف النووي، على خلفية قرب تمكن إيران، إن أرادت، من إنتاج قنبلتها النووية الأولى.
وسيوقف الاتفاق – إذا طبق – قطار التطبيع الذي في الحد الأدنى ستنتفي احتمالات انضمام السعودية إلى الاتفاقات الإبراهيمية، خصوصًا إذا استمرت الحكومة الإسرائيلية الكهانية، وسيحدث على الأغلب تجميد أو تبريد للعلاقات بين دول الاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل، وسيكون لهذا الاتفاق تأثير في الحرب الأوكرانية، وهو من تداعياتها، وعلى تشكل نظام عالمي جديد، لأن أطرافه الثلاثة أصدقاء بدرجات متفاوتة مع روسيا، واثنان منهما عضوان في منظمة أوبك بلس، ذات التأثير على إنتاج الطاقة وأسعارها.
هناك ما يشير إلى أن فرص تطبيق الاتفاق جيدة؛ لأنه جاء بعد تراجع (وليس نهاية) الدور الأميركي في المنطقة، بعد توفر إمكانية لواشنطن للاستغناء عن النفط والغاز العربي، والحاجة إلى تركيز الجهود في آسيا لوقف تقدم العملاق الصيني الزاحف، وهذا فتح الباب مؤقتًا لزيادة الدور الإسرائيلي للتعويض عن الدور الأميركي، وبعد أن لمست دول الخليج، وخاصة السعودية أن عمق العلاقات الأميركية الخليجية والمزايا الضخمة للغرب وأميركا لم تشفع لها، للحصول على موافقة أميركية لإنشاء مفاعل نووي سلمي متقدم، وتقديم أسلحة متقدمة، وتوفير شبكة حماية أمنية تشبه تلك المتوفرة لأعضاء حلف الناتو، بل عندما تعرضت السعودية للقصف الصاروخي أكثر من مرة، وفي منطقة حساسة (أرامكو)، لم تهب الإدارة الأميركية في عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب لنجدتها، بل بدلًا من ذلك طالبها ترامب بالمزيد من الأموال والمشاريع والاستثمارات.
ومن الأسباب التي تزيد من فرص نجاح الاتفاق حاجة الأطراف الثلاثة الموقعة عليه إليه، في ظل تخييم شبح الحرب العالمية في أجواء الحرب الأوكرانية، على الرغم من كل عوامل الصراع والتنافس وعدم الثقة، التي لن تزول بسرعة، فإيران تمر بأزمة حادة جراء العقوبات والحصار والاحتجاجات الداخلية، وهي بحاجة إلى تحسين علاقاتها مع جيرانها العرب وإبعادهم عن حكومة الاحتلال، والصين تريد أن تضطلع بدور سياسي وعسكري وأمني يتناسب مع تزايد دورها الاقتصادي والتجاري الكبير، ويلبي متطلبات تطبيق مشروع “الحزام والطريق”، الذي يحتاج إلى التهدئة. أما السعودية فهي في أزمة عميقة نتيجة استمرار الحرب اليمنية، وتخشى من أن تكون ميدانًا للحرب الإقليمية إذا اندلعت بين إيران وإسرائيل، أو ميدانًا للحرب الباردة المندلعة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، كما أنها بحاجة إلى التهدئة لتمرير مشاريعها للقيام بدور مهم يتناسب مع “السعودية الجديدة “التي ولدت بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد.
ومن الملاحظ أن الدول الخليجية، وخصوصًا السعودية، والدول العربية المحسوبة على المعسكر الأميركي والغربي، عانت من الإدارات الأميركية الديمقراطية التي رفعت مسألة حقوق الإنسان في وجهها لأغراض سياسية، كما عانت من الدور الأميركي الذي شجع اندلاع “الربيع العربي” بذريعة تغيير الأنظمة الديكتاتورية العسكرية، وتلك الحاضنة للإسلام المتطرف، الذي أدى إلى عدم الاستقرار في المنطقة، واستبدالها بأنظمة يحميها الإسلام المعتدل، ووجدت أن هناك إمكانية لتنويع علاقاتها مع انهيار النظام العالمي القديم، وتزايد دور الصين، مع حرصها على الحفاظ على مسافة متساوية بين واشنطن وبكين.
شهدت علاقات الدول العربية، خصوصًا الخليجية، تنوعًا خلال السنوات الأخيرة في علاقاتها مع دول العالم، إذ أخذت منذ فترة بتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، حيث توسعت العلاقات بينها وبين الصين وروسيا، والاتفاق الأخير الذي وقع في بكين يعمق هذا الاتجاه، من دون أن يعني ذلك انتقالها، كما ذهب البعض، من معسكر إلى معسكر، فحجم الارتباط والتعاون والتبادل بين هذه الدول وبين أميركا ودول المعسكر الغربي عميقة وكبيرة جدًا، وإلى حد لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بسهولة وسرعة حتى لو أرادت، لذلك أعلن بعد الاتفاق عن صفقة بوينغ بعشرات المليارات، وتحذو بذلك حذو تركيا والصين والكثير من البلدان التي تقيم علاقات متنوعة مع أطراف عديدة تحارب أو تنافس بعضها، حيث يتم تغليب المصالح على الاعتبارات الأيديولوجية والقيمية والسياسية.
نرى حدوث تغييرات كبيرة في العلاقات في العالم بين دول المنطقة، وأكبر مثال تركيا، التي قطعت شوطًا كبيرًا في تصفير مشاكلها مع مختلف بلدان العالم، خصوصًا مع الدول العربية، حيث من الملاحظ أن هناك ظاهرة عالمية نجد فيها أن الدول المتخاصمة والمتعادية والمتنافسة تتعاون فيما بينها؛ إذ نراها تتعاون في ملف أو ملفات، وتتنافس وأحيان تتصارع في ملفات أخرى، وقليلة هي البلدان التي لا تقوم بذلك نتيجة محاربتها ومقاطعتها من أميركا والمعسكر الغربي، مثل إيران، التي يمارسون عليها الحصار، ويفرضون العقوبات.
ويمكن أن يؤدي دورًا في مدى قرب أو بعد السعودية عن الصين وروسيا وإيران، ومدى إمكانية تطبيق اتفاق بكين، ردة الفعل الغربية على سياستها الجديدة، وخصوصًا ردة الفعل الأميركية، لا سيما إذا تصرفت إدارة بايدن على طريقة إما معي أو ضدي، وحاولت تخريب الاتفاق من خلال اللعب حتى في الأوضاع الداخلية السعودية، مثلما حاولت الإدارة الأميركية في الخمسينيات مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي حاول أن يحصل على السلاح من أميركا، فرفضت، ما اضطره إلى عقد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا، التي كانت عضوًا في الحلف الذي يقوده الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في المنطقة والعالم انتهت بتشكيل ما عرف بمجموعة دول عدم الانحياز، الذي دفع الصلف الأميركي العديد من الدول المنتمية إليها إلى الانحياز للمعسكر الشرقي أو الاقتراب منه.