نظرة تاريخية على علم الرياضيات في مهاده الأولى
د. إبراهيم حلواني
أقدم في هذه الزاوية لمحاتٍ موجزة عن نشاط العقل البشريِّ قديمًا في ميدان الرياضيات. أهدف إلى تعريف القارئ الكريم على تاريخ هذا العلم والخطوات المهمة التي أوصلت الإنسان إلى ما وصل إليه.
المحركاتُ الأولى للتفكير الرياضي عند الإنسان
وُلدت الرياضيات من رحم الحياة، فالحاجة كما يقال أمُّ الاختراع. احتاج الإنسان إلى الحساب منذ بدأ العراك مع الحياة. إذا عدتَ بالزمن سبعة آلاف سنة، فيمكنك أن تتخيّل حاجة الإنسان إلى الآتي:
• العدّ: أفراد، عمّال، دواجن، ماشية، حصص، أيام، أشهر، محاصيل …
• البناء: معابد، منازل وقصور لأصحاب النفوذ، أكواخ، زرائب، مخازن، مراكب، …
• مراقبة السماء: الشمس والقمر والنجوم وحركاتها.
من تلك الثلاثة بدأ تطور الحساب والقياس والهندسة.
مراقبة السماء كانت مهمّة للأقدمين لارتباطها بالماورائيّات، ولقد تولّد عنها ما نعرفه اليوم في علم الفلك. وعدُّ الأشهر وترقب الفصول كان مصيريًّا لتأمين القوت والمحاصيل.
الترقيم على العظام
يبدأ تاريخ الرياضيات منذ بدأ الإنسان عمليات العدّ البسيطة، ولا سبيل إلى قراءة الفكر الرياضي القديم إلا من خلال الآثار.
عظم لوبومبو Lebombo Bone هو عظم ساق لقرد بابون عاش منذ 35,000 سنة تقريبا، اكتُشف في جبل لوبومبو بين جنوب أفريقيا وسوازيلندا، حوالي سنة 1970. يُعتقد أنه استُعمل لعدّ الأشهر القمريّة أو الدورات الشهريّة لدى النساء، بسبب 29 علامة وُجدت محفورة عليه.
هناك أيضا عظم إيشانغو Ishango bone، وهو عظم ساق لقرد بابون آخر عاش منذ 20,000 سنة تقريبا، اكتُشف بين أوغندا والكونغو، حوالي سنة 1960. وقد وُجدت عليه علامات محفورة تشكل ثلاثة أعمدة امتدت على طوله، يُعتقد أنها لتدوين أعداد.
الرياضيات كانت سببًا دفع الإنسان إلى ابتكار الكتابة
هل عرف الإنسان الحساب قبل بدء الكتابة؟ إجابتي تتلخص في الفكرتين التاليتين:
• الحاجة إلى العدّ والحساب كانت من ضرورات الحياة قبل الكتابة بزمن طويل.
• الحاجة إلى الرسم وتدوين الأعداد دفعت الإنسان إلى الكتابة.
في أبحاث علمية، هناك ما يؤكد وجود ذاكرة عدديّة لدى قردة الشمبانزي. فقد كانت القردة تميّزُ "عددَ" خصومها من القردة المهاجِمة وأماكن توزعها في المجابهات.
كلمة ; إحصاء ; العربية، وكلمة ; Calculus ; الإنكليزية تعودان في أصل كل منهما إلى معنى واحد: العد بواسطة الحصى.
من السهل أن تتخيل تطور عمليات العدّ عند الإنسان القديم:
العدُّ باستعمال الألفاظ (واحد، اثنان، ثلاثة، …)، العدُّ باستعمال الأدوات (أصابع اليد، حصى، قطع خشبية، …)، العدّ باستعمال العلامات.
بداية التدوين
من المؤكد في نظري أن الإنسان عرف عمليات حسابية أولية، بل وخبرات هندسية بدائية، منذ نشأت في مجتمعه لغة يتخاطب بها مع الآخرين. لا بد أن بعض الأعداد الأولى كانت موجودة في جعبة المفردات لدى الإنسان القديم، ولكن كم بلغت حدود معرفته حينها في الحساب؟ سؤال لا يمكن لأحد أن يجيبَ عنه.
أذهبُ إلى أبعد من ذلك، إذ أعتقدُ أنّ التفكير في أمور حسابية، مثل العدّ ومراقبة الوقت والأشهر والسنوات والمحاصيل ودورات الكواكب وغيرها، كانت من الأسباب التي دفعت الإنسان إلى الكتابة والتدوين.
علماء التاريخ يؤكدون أن تدوين الأعداد سبق كتابة اللغة بوقت طويل، حوالي ثلاثين ألف سنة، وربما أكثر.
التجريد في الرياضيات
التجريد سِمَةٌ يتميّز بها العقل البشريّ. بدايةُ علم الرياضيات كانت مع بداية التجريد.
إذا تصورتَ رجلا عاش منذ ثلاثين ألف سنة يحفرُ علاماتٍ على عظم أو صخر ليدوّن أعدادا، فلا تعتقدنّ أنه يعرف الأعداد المجرّدة (واحد، اثنان، ثلاثة، …)، بل هو يدوّن عدد الدجاجات، مثلا، أو الخراف، أو الأشهر. لا يوجد عنده مفهوم "الواحد" المجرد، بل يحدّثك عن دجاجة واحدة، وخروف واحد، ويوم واحد…
الأعداد في الأصل نشأت من خلال الربط والمقارنة بين الأشياء الملموسة، والوصول إلى تجريد العدد عن الشيء تطلب وقتا طويلا.
في البدايات، لم تكن العلوم منفصلة عن جبّة الحياة.
مَنْ قدّرَ وطحن بذور السمسم وزاد عليها من فتات الصعتر وقليلا من لبن الماعز وشيئًا من الرماد، لتركيب مرهم يساعد على شفاء جروح ابنه، لم يكن رجلا يشتغل في الرياضيات أو يطبق مبادئ الكيمياء أو الطب. بل كان بشرًا يُكابد الحياة ويبحث عما يدرء عنه الأخطار.
في صغري، عرفت نجارًا كان يستعمل أحيانا عدسة مكبّرة يضعها فوق مسطرة القياس ليميز أجزاءَ الملّيمتر. هل يقع ذلك في باب الرياضيات أم في باب الفيزياء؟ لو حدثتُ النجار في أي من ذينك العِلْمين لكان طردني من مشغله.
الرياضيات نشأت مع العلوم الأخرى تلبية لحاجة الإنسان، وعُقدت لها الحياة مع تلك العلوم في رحم الحياة نفسه.
لولا آثار موثقة مكتشفة، وجلّها حديث، لكنت ذهبت إلى القول إن الرياضيات البابلية أو الفرعونية لم تكن منفصلة عن العلوم الأخرى، لكنّي وجدتُ ما فاجأني قليلا بعد أن اطلعتُ على التالي الذي أدهشني:
تدريس الرياضيات ليس جديدًا
• جدول ضرب عند السومريين
في دراسات حديثة ظهرت بعد العام 2005، تبين أنّ مجموعة من ألواح الطين السومرية تعود إلى 4,000 سنة خلت، قد خصصت لجداول
الضرب في 10 و 5 و 12 و 1.5. كما وُجدت لوائح بمربعات الأعداد ولوائح بالجذور التربيعية والجذور التكعيبية، وأيضا لوائح بمقلوبات
الأعداد (مقلوب 4 هو ربع، ومقلوب 5 على 17 هو 17 على 5). هذا ناهيك عن تمارين في الحساب والهندسة لا علاقة لها بتطبيقات حياتية.
• وتمارين في الرياضيات عند الفراعنة.
ورد في برديّة أحْمُسْ (1650 ق م تقريبا)، لوائح فيها 52 عملية تتضمن تجزئة كسور إلى مجموع كسور وحدة. ورد فيها أيضا 87 مسألة في الحساب والكسور والجبر والهندسة والمساحة والحجم، كلها على هيئة مسائل تشبه إلى حد كبير المسائل التي يصطنعها المؤلفون والمدرسون كتمارين لتلاميذهم في أيامنا.
إذن، باكرًا تعامل الإنسان مع الرياضيات كـ ; شأنٍ ; قائم بذاته، إلى جانب اعتقادنا أنّ الأمور الحياتية كانت دائما تدفعه إلى تحسين حساباته والبحث عن طرق لحل المشكلات.
بدء التطور الحقيقي لعلم الرياضيات منذ بدأ الإنسان الكتابة
أقدم الآثار المكتوبة التي وصلت إلينا تعود إلى 2500 ق م. كان ذلك على أيدي السومريين والمصريين. يمكن لي أن أذكر التاليات
كمحطات مهمة سُجّلت على شريط تطور العلوم الرياضية:
• الخطوات الأولى جاءت من أرض سومر وأرض مصر، وقد يفاجئك أن تقرأ أن السومريين والمصريين القدماء، إلى جانب تأسيسهم للعمليات الحسابية الأربع، قد اشتغلوا بالكسور، والجذر التربيعي للأعداد، والعدد باي π، والمساحة والحجم للأشكال والأجسام الهندسية، ونظرية فيثاغورس في المثلث القائم قبل ولادة فيثاغورس بزمن طويل.
• صفائح الكتابة الأولى كانت ألواح الطين عند السومريين، وورق البردي عند المصريين، والعظام وقواقع السلاحف والجلود والقصب في الصين وشرق آسيا. أوراق البردي استعملت لفترات طويلة، قبل انتشار الورق، في أماكن كثيرة من مصر وخارجها مثل بلاد الرافدين وسوريا وأطراف الجزيرة العربية والهند واليونان وحوض المتوسط. الجلود وقطع الفخار حملت أيضا بعض الآثار.
• علم الهندسة تطور بشكل جذري وعميق ومتكامل على أيدي الإغريق، منذ 500 ق م. وكتاب أقليدس الجامع لعلوم الهندسة يُعتبر أهم كتاب علميّ تمّ تأليفه حتى الآن.
• إحدى القفزات الهائلة التي تسببت بدفع عجلة التفكير الرياضي كانت بسبب نظام العد العشري الذي ترجع جذوره إلى الهند والذي طوّر فيه العرب ونقلوه إلى أوروبا، منذ قرابة ألف عام.
• حركة الترجمة التي انطلقت في العصر العباسي من بغداد، حوالي 850 م، هي التي سمحت بحفظ التراث اليوناني في الهندسة وعلم الفلك، والمعارف من الهند والصين، ونقلها إلى أوروبا. ناهيك عن مساهمات العرب الفذة في مختلف العلوم.
• لم تبدأ مساهمات أوروبا في الرياضيات والعلوم إلا بعد القرن الحادي عشر الميلادي، بعد ترجمات العرب للعلوم الشرقية والمصرية واليونانية.
• في قارة أميركا، برزت حضارات متعددة، غير أنها لم تترك آثارا ذات أهمية في الرياضيات. الآثار الموجودة تشمل بعض التقاويم
ونظام عدّ عمليّ.