40 عاما على رحيل أمل دنقل.. شاعر الحرية الذي لم يهادن أبدا
فاطمة حوحو
“فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبة شديدة، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، وكتوم لا تدرك ما في داخله أبدا. يملأ الأماكن ضجيجا وصخبا وسخرية وضحكا ومزاحا، صامت إلى حد الشرود، يفكر مرتين وثلاثا في ردود أفعاله وأفعال الآخرين، حزين حزنا لا ينتهي. استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت للأنظار، بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره، وربما يحتد على مديحك خوفا من اكتشاف منطقة الخجل فيه، صخري، شديد الصلابة لا يخشى شيئا ولا يعرف الخوف أبدا لكن من السهل إيلام قلبه. صعيدي محافظ، عنيد لا يتزحزح عما في رأسه، وقضيته دائما هي الحرية”.
هكذا وصفت الصحافية المصرية عبلة الرويني زوجها الشاعر المصري أمل دنقل، الذي لم يصالح وصرخ بأعلى صوته للمواطن العربي “لا تصالح”، ردا على سياسة التطبيع مع إسرائيل في عهد الرئيس أنور السادات، بعد توقيع اتفاقية كمب ديفيد للسلام. كانت صرخة مصرية باسم الشعب المصري، لكن دويها تردد من المحيط إلى الخليج، صرخة تقول بالفم الملآن “لا تصالح على الدم… حتى بدم”، هو الذي اعتبر أن كل أمه كل بلاد تثور، وأن عمره أقل من طموحه.
في 21 ماي عام 1983 غادر أمل دنقل هذه الدنيا، وهو لم يتجاوز الثالثة والأربعين من عمره، بعد معاناة مع المرض الخبيث، غاب ولم تغب قصائده عن الساحة الثقافية والأدبية، فكانت موضوعاتها محط دراسات واهتمامات في الأدب والشعر، وأبيات قصائده كانت تنبض في ميدان الثورة التي انطلقت في 25 يناير 2011 في مصر.
ولد أمل دنقل عام 1940 في أسرة صعيدية، والده من علماء الأزهر وقد أثر في شخصيته وقصائده بشكل واضح، الذي أطلق عليه اسم “أمل” لأنه ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على إجازة العالمية.
ورث أمل عن والده موهبة الشعر، الذي كان يكتب الشعر العمودي وكان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي، مما أثر كثيراً في أمل وساهم في تكوين اللبنة الأولى لهذا الشاعر، وقد فقد أمل والده وهو في العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيراً واكسبه مسحة من الحزن ظهرت في قصائده لاحقا.
يحكي أمل في فيلم “ذكريات الغرفة 8” للمخرجة الراحلة عطيات الأبنودي، أن والده عزله ومنعه من اللعب مع أقرانه لأنه كان الابن الأكبر، وأن ذلك كان سببًا في اتجاهه إلى القراءة، ويوضح: “رؤيتي للعالم تشكلت من خلال الكتب، أمي كانت تعاملني كطفل، ووالدي كان يعاملني كرجل حين كان عمري 10 سنوات”.
وأكدت ذلك زوجته عبلة الرويني بقولها: “علمه اليتم الألم والمرار، والظلم أن يصبح رجلا صغيرا منذ طفولته، لم يعرف كيف كان يلعب الأطفال في شوارع القرية، ظل أعواما طويلة يرفض أكل الحلوى لأنها في نظره لا ترتبط بالرجولة، اشتهر بين رفاق الصبا بأنه الشخص الذي لا يعرف الابتسامة”.
انتقل أمل إلى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا، حيث التحق بكلية الآداب، ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل، إذ عمل موظفاً بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، ثم موظفاً في منظمة التضامن الأفروآسيوي، كان غالباً ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر، حيث خالف معظم المدارس الشعرية في الخمسينيات، فاستوحى قصائده من رموز التراث العربي، في وقت ساد فيه تأثر الشعراء العرب بالميثولوجيا الغربية.
عاصر الشاعر أحلام العروبة والثورة المصرية مع عبد الناصر، مما ساهم في تشكيل نفسيته، وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في عام 1967، وعبر عن صدمته في رائعته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” ومجموعته “تعليق على ما حدث “، كما شهد على انتصار حرب أكتوبر 1973 لكنه شاهد ضياعه في اتفاق سلام غير عادل، فأطلق صراخه في رائعته “لا تصالح” والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، وهو تناول لاحقا تأثير الاتفاق وانتفاضة الجوع في يناير عام 1977 في مجموعته “العهد الآتي”.
وكان موقف دنقل من عملية السلام سبباً في اصطدامه في الكثير من المرات بالسلطات المصرية لا سيما وأن قصائده تحولت إلى هتافات في المظاهرات.
تعرف الشاعر على عبلة الرويني أثناء حوار أجرته معه لصحيفة “لأخبار” فتزوجا، لكنه اكتشف بعد الزواج بـ 9 أشهر إصابته بالسرطان، وظل يعاني لفترة طويلة وسط تجاهل من الدولة، ولم يكن يملك المال الكافي للعلاج. وقد تسببت قصيدته “أغنية الكعكة الحجرية” في منع مجلة “سنابل”، التي نشرتها، كذلك فُصِل رئيس تحريرها، وهي القصيدة التي كتبها أمل دنقل عام1972، وتنبأ فيها بالثورة في ميدان التحرير، وخروج مظاهرات حاشدة.
وتقول الرويني إنه عندما تعرفت عليه “كان مغرقًا في وحدته في تلك الأيام، لدرجة أنه صرح فيما بعد بأنه كان يقضي في قاعات السينما بالقاهرة ساعات طويلة متتالية أثناء النهار، ليس حبًا في الأفلام ولكن لأنه كان يجد في ظلام السينما راحةً ومهربًا”.
وحسب الأصدقاء فإن أمل دنقل عرف السعادة بوجود عبلة بجواره. صارت القاهرة تعرفهما دائما متلازمين، في المقهى، في الشارع، في الأتيليه، في الندوات، وسط الأصدقاء، في المسارح، في دور السينما. ظهرا كصديقين أكثر من زوجين، بل خرجا على أشكال الزواج التقليدي حين صار الشارع بيتهم يقضيان فيه أكثر مما يقضيان داخل المنزل.
عاشا سويا بين منزل وآخر، يتنقلان بمجرد عجزهما عن دفع الإيجار، تنتهي مدخراتهما فيخرج أمل لاقتراض بعض الجنيهات من أحد أصدقائه، ليشتري به ما يسد جوعهما، ولا ينسى رغم ذلك أن يحضر لها قالبا من الشكولاتة. لم يقبل أبدًا أن يلمس الفقر روحيهما ولم يقبلا أبدًا أن يفقدا السعادة بعد أن وجداها.
تعددت صداقاته مع الشعراء، صداقات صاخبة ومليئة بالشجار، كما تصفها زوجته، مثل الشاعر نجيب سرور، وعبد الرحمن الأبنودي، ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمود درويش.
وعانى دنقل من السرطان مدة تقرب من ثلاث سنوات، وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته “أوراق الغرفة 8” وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام، الذي قضى فيه ما يقارب الأربع سنوات، وقد عبرت قصيدته “السرير” عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضاً قصيدته “ضد من” التي تتناول هذا الجانب، والجدير بالذكر أن آخر قصيدة كتبها دنقل هي “الجنوبي”.
خلال صراعه مع المرض لم يتوقف عن كتابة الشعر، حتى قال عنه أحمد عبد المعطي حجازي: “إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر”.
ولم يتورع عن الكتابة النقدية إذ كانت آراؤه تلقي بحجر في بحيرة الثقافة والفن الراكدة، وكان لا يتورع عن إطلاق قذائفه النقدية ضد الفنانين وغيرهم. وفي أحد حواراته عبر عن رأيه بالنظام الأمثل قائلا: “هو الذي يحل المعادلة الصعبة بين حرية الفرد وحرية المجتمع، ويكون فيه نوع من إعادة توزيع الثروة بشكل عادل وحقيقي”.
لقب بأمير “شعراء الرفض”، فهو واجه السلطة بشجاعة نادرة، ورفض الصلح مع إسرائيل، مثلما رفض الظلم الاجتماعي، وقاوم بشعره معبرا عن واقع مجتمعه وتطلعاته وآماله، رفض الدفاع عن السلطة، وقف دائمًا على يسار الأنظمة، وهو الأمر الذي برره بقوله: “الشاعر يبحث دائمًا عن الأفضل، ودائمًا هناك الأفضل”.
آخر لحظات حياته قضاها برفقة الدكتور جابر عصفور والأبنودي صديق عمره، مستمعاً إلى إحدى الأغاني الصعيدية القديمة.
قالت الرويني واصفة لحظة الغياب: “كان وجهه هادئًا وهم يغمضون عينيه، وكان هدوئي مستحيلا وأنا أفتح عيني”.