سهرات مع منير بشير
جورج الراسي
في عيد الموسيقى لا بد أن اتذكر أصدقائي الموسيقيين، من هم على قيد العطاء، ومن رحلوا، وعلى رأسهم عازف العود العراقي المبدع منير بشير، صداقة قوية ربطتني مع “ابو سعد”.
ففي عام 1972، كان لديه مكتب صغير في طابق سفلي في منطقة الحازمية شمال بيروت. وكان يأتيني من وقت لآخر حاملا عوده إلى حيث كنت اسكن: “روف” صغير في إحدى بنايات شارع بدارو غير البعيد عنه، ولكنه كان “روفا ” محترما بالنسبة لصحافي في مطلع شبابه، يختلف كليا عن غرف “الخادمات ” التي طالما عاقرتها فيما بعد خلال سنوات الهجرة الطويلة: غرفة نوم شرعية، صالون يستحق على الأقل نصف إسمه، شرفة فسيحة ترفع لها القبعات، تطل على نصف بيروت تقريبا، ذلك الذي أجلوا تدميره إلى جولات لاحقة. وحقيقة الأمر أنني كنت آخر من يعلم من يتواجد في ذلك العرزال “الحضاري”، فقد كان مفتوحا للأصدقاء والوافدين ليل نهار.
جرت العادة أن يحط “ابو سعد ” الرحال فيه من وقت لآخر ، بعد أن نكون قد اطلقنا النفير، ودار الخبر دورته المعتادة على الأصدقاء والمواظبين.
سجل حافل
منذ مدة كنت اقوم بإعداد مراجعة للموسيقى العربية، صدرت بعد ذلك في كتاب ضمن سلسلة “ذاكرة بيروت الثقافية” فوقعت على سيرة منير بشير مكتوبة بخط يده، ولا شك انه ارسلها لي في مناسبة ما، وجاء فيها ما يلي :
ـــــ “مواطن شرف في اليابان، اسبانيا، يوغسلافيا…( طبعا لا يمكنك أن تكون مواطن شرف في بلدك – آلا آذا كنت بلا شرف).
ــــ عضو شرف مدى الحياة في اليونيسكو.
ــــ محاضر في الجامعات التالية: كامبردج ــــ طوكيو ــــ السوربون ــــ جنيف ـــ كوبنهاغن ــــ هامبورغ ــــ برلين ـــ الدوحة.
ـــــ عزف في اكثر من 135 مدينة في العالم.
ــــ يحمل وسام بارتوك وفرانس ليست من هنغاريا.
ــــ منح الأوسمة التالية: كومندور ثقافة من فرنسا ـــــ استحقاق من الملك خوان كارلوس ـــ كومندور من الحكومة الإيطالية ــــ وسام الثقافة والفنون من الحكومة البولندية ــــ دبلوم عالي من اكاديمية الموسيقى في بودابست ــــ وشاح جامعة مورسيا/ اسبانيا، إضافة إلى سلسلة من المناصب الرفيعة في العراق، و انتخب أمينا عاما للمجمع الموسيقي العربي.
وريث تراث أصيل
منير هو الإبن الثاني لعائلة القس عزيز بشير ، بعد شقيقه الأكبر جميل، وقبل شقيقه الأصغ فكري، إلى جانب شقيقات ثلاث، ولد في الموصل سنة 1928، في عائلة تعشق الموسيقى وتعيش على إيقاعاتها. كان الوالد عازفا مقتدرا وصانعا لبعض الآلات الوترية، وعلى رأسها بالطبع العود. كما كان يتمتع بصوت رخيم، جعله يؤدي تراتيل كنيسته السريانية بصفته شماسا.
كان من الطبيعي إذن ان تتجه عناية منير صوب الموسيقى، خاصة وأن شقيقه الأكبر جميل اعتاد على العزف على العود والكمان في البيت، قبل انتقاله إلى بغداد للإلتحاق بالمعهد الموسيقي الذي سمي فيما بعد بمعهد الفنون الجميلة.
وما لبث منير أيضا أن التحق بهذا المعهد عام 1939، ليتعلم العزف على العود، إلى جانب عازفين آخرين مميزين مثل سلمان شكر ، وموسيقيين امثال غانم حداد، على يد المعلم الأكبر الشريف محي الدين حيدر بن علي، ذلك الأرستوقراطي التركي الموسوعي المتواضع، الذي نقل إليهم علوم العود وفنونه، وأصول الموسيقى العربية العريقة التي طورها وحفظها ونقلها العلماء والفنانون الأقدمون، من أمثال الفارابي وصفي الدين الأرموي وعبد القادر المراغي وغيرهم، وقد أضاف محي الدين إلى هذا التراثإنجازات الموسيقى التركيةالتي بلغت ذروتهافي تركيا العثمانية وكان الشريف نفسه عازف عود وتشيللو بارعا، ويتكلم لغتي الموسيقى الشرقية والغربية بالطلاقة نفسها. ولا تزال ترجمته لموسيقى عازف الكمان العظيم Paganini على العود من بين اروع المحاولات الموسيقية.
وكان هو الذي أسس قسم الموسيقى في معهد الفنون الجميلة في بغداد حيث درس منير بشير في أوائل الأربعينيات وهو لم يزل فتى.
تخرج منير من المعهد عام 1946 ليبدأ رحلة فنية دامت أكثر من نصف قرن، عازفا ومؤلفا ومدرسا، وسفيرا للفن العربي في العالم.
مارس من ثم العمل الفني في آذاعة بغداد، وفي التلفزيون العراقي بعد تأسيسه عام 1956، عازفا ورئيسا للفرقة الموسيقية، ومخرجا موسيقيا، ومن بعد رئيسا لقسم الموسيقى، كما مارس التدريس في المعهد، واسس فيما بعد معهدا خاصا اسماه “المعهد الأهلي للموسيقى” وانتخب رئيسا لجمعية الموسيقيين العراقيين.
سافر إلى هنغاريا عام 1962، ودرس في بودابست على يد الموسيقار الهنغاري فرنسا فركش، ونهل من خبرة المجر الراقية في ميدان أبحاث الموسيقى الشعبية التي ارسى دعائمها فنانون من وزن بيلا بارتوك وزولتان كوداي وحصل على الدكتوراه في مادة العلوم الموسيقية المقارنة Comparative Musicologiyوتزوج من فتاة هنغارية ليرتبط بهذا البلد ارتباطا وثيقا.
خبصة أمين معلوف
هذا هو منير بشير “ابو سعد” الذي كان “يعبط ” عوده الخاص الذي كان د أضاف له وترا سادسا ويأتي إلى ذلك “الروف ” المتواضع لكي يعزف لنا بعض المقامات.
في تلك الليلة احتضن جمعا ظريفا من الشغوفين بتلك الموسيقى : أمين معلوف وزوجته اندريه، الشاعر العراقي رئيس إتحاد أدباء العراق قبل رحيله الفريد سمعان ، وكان صديقا عزيزا ، بعض الأصدقاء من دول الخليج (قبل أن نمتهن حرفة تهريب الكبتاغون إلى بلدانهم)، وبعض الأصدقاء والأقارب.
بدأت السهرة وفق الأصول الصوفية المعتمدة : إطفاء الأضواء، الإكتفاء بشمعة واحدة حتى لا يغلط أحدنا ويتجاوز سور الشرفة، سكون تام، ولو استطعنا لتنفسنا من “منخر واحد” كما يقول الشاعر عن البخلاء.
احتضن منير عوده، وغاب في عالمه السحري لبضع دقائق، متناسيا وجودنا تماما، و بدأت نقرات العود رحلتها المرتجلة إلى حيث لا ندري ولا هو يدري حتى وقع المحظور وارتكبت جريمة موصوفة بحق العود وبحق الإلهام وبحق الموسيقى طبعا.
ففي تلك الأجواء التي تخاف فيها “برغش”ة من إثبات وجودها، استل أمين فستقة من الصحن المطروح أمامه و”فقسها”، فأحدثت دويا إين منه قنبلة هيروشيما، فإهتزت الحيطان، وتصدع المبنى، وتهاوت الثريات، يا للمصيبة؟!
لم يعد يعرف أمين أين يخبئ وجهه خجلا مما اقترفت أصابعه، فقد فر عفريت الوحي هاربا، وانقطع الوصل ونضب الخيال، فما كان من منير أن وضع العود جانبا، وأومأ بإعادة الأضواء، ونظر إلى الجاني نظرة إزدراء وملامة حتى يدرك فداحة ما فعل، وأظنه حتى اليوم يأكل أصابعه ندما.
والدتي: ايمتى راح يحمى
” خبصة ” أخرى كانت بطلتها هذه المرة والدتي رحمة الله عليها، ففي سبعينيات القرن الماضي جاء ابو سعد إلى باريس بدعوة لإحياء بعض الحفلات في إحدى القاعات العريقة، اظنها كانت صالة Pleye..فأرسل لي بعض البطاقات، قلت اصطحب والدتي، فقد ضاقت ذرعا بباريس، وضجرت من تلك الحياة المحمومة، واشتاقت إلى الحان الوطن.
فرحت بالفكرة وذهبنا بالفعل لحضور الحفل. وكما العادة التي خبرتها مرارا في السابق، تم إطفاء الأضواء لتهيئة أجواء هبوط الوحي واستحضار شياطينه، ولم يترك سوى Spot واحد مصوب على المسرح حيث جلس منير متدثرا بعباءة عراقية مهيبة، حتى يرى الاوتار على الأقل. وبعد لحظات من الصمت المطبق بدأت نقرات العود تضفي على المكان خشوعا غير معهود عند الجمهور الفرنسي.
سارت الأمور على ما يرام، والعازف يلحق المقام بالمقام حتى انتهت الوصلة الأولى بعونه تعالى ودخلنا في استراحة مستحقة قبل الولوج إلى الوصلة الثانية.
نظرت إلى أمي فإذا علامات الوجوم ظاهرة عليها، وبادرت بسؤالي: ايمتى راح يحمى؟!
عود بدون آهات وصيحات وخبط بالأرجل على خشبات المسرح، ومرافقة الطبول والصنوج لا معنى له وبدون ذلك “ما بتزبط “.
عندها أسقط في يدي وشعرت أنني ظلمت أمي وانا احاول ان اخفف من خيببتها “يا امي هذا العازف ما بيحمى…” واردفت مطمئنا: “إنه يعتبر العزف كنوع من الصلاة”، قلت، ربما لو اضفيت على ذلك العزف نوعا من القدسية سوف تعيد آليه الإعتبار. وأتساءل حتى اليوم إذا كنت قد نجحت في مهمتي لكن شكوكي كبيرة.
حضارة المقام
واقع الأمر أن المقامات العربية عامة، والعراقية على وجه الخصوص، تمثل تراثا موسيقيا هائلا لم نكتشف منه حتى الآن سوى النذر اليسير .
فعندما نتحدث عن المقام العراقي لا بد لنا من الرجوع إلى تاريخ الحضارات الموسيقية العريقة التي قطنت في بلاد ما بين النهرين منذ العصر السومري حيث وجدت اول آلة موسيقية في التاريخ ، وهي آلة “السمسمية” ثم آلة “الطنبورة” التي تشبه كثيرا آلة “الهارب” الأشورية وهي آلة تستعمل اليوم في أوروبا والمقام جاء اصلا عبر الصوت البشري، اي انه يغنى .
و “المقام ” يعني “الإجلال ” أي الوقوف بشموخ.. وقد سمي كذلك لأنه قمة الألحان الحضارية. ويصاحب المقام العراقي الفرقة البغدادية أو “تشالغي- بغداد”، وكلمة ” تشالغي” تعني ” فرقة ” باللغة التركية.
المقامات التي تغنى بالشعر العربي الفصيح، تعزف وتغنى في الأقطار العربية ، لكن بشكل مختلف عن العزف والغناء في العراق. ومنها “البيات ” و”الرست” و “السيكا” و”حجاز” و ” نوى” و “حسيني” و”هدى”.
ويرى ابو سعد انه من الضروري تقديم كل الدعم للفنان، ولكنه يتساءل: هل مات بتهوفن غنيا؟ هل مات تشايكوفسكي غنياهل مات فيفالدي غنيا؟ ونحن نضيف : هل رحل منير بشير غنيا؟
ضريح في بودابست
رحل منير بشير خارج بلاده كما يرحل معظم المبدعين العرب، ترك في بودابست أرملة هنغارية وولدان. الكبير سعد خبير في تاريخ الفن والثاني عمر عازف على العود أسوة بأبيه وبعمه وبجده وله قصة شغلت الصحافة في لبنان منذ بعض الوقت.
ففي شهر نيسان/ ابريل من عام 2008 أعلن عن خطوبته على المطربة الجزائرية فلة عبابسة، وهي تكبره بعشر سنوات، كما أنها جدة لطفلة (أصبحت اليوم شابة) آسمها عنود.. و قيل حينها انه الزواج الرابع لفلة التي لا تعترف إلا بزواجها الأول من جزائري هو والد طفلتها ويبدو ان زواجها من عمر دام بضعة أشهر.
وهنالك اليوم فرقة تحمل اسم “فرقة منير بشير للعود” تجوب العالم لتخليد ذكراه.
اما جسده فتحتضنه اليوم تربة هنغاريا بعدما دفن في بودابست في مقبرة “فركشريت”، وسط مراسم مؤثرة في 15 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1997.