حديث في المدى

حديث في المدى

      أحمد حبشي

     في استحضار لكل محطات سنوات الجمر والرصاص، وما اتسمت به من عنف جسدي ونفسي، غالبا ما نتجاهل في الحديث عن الوقائع والأحداث، أوضاع المحيط الخاص لضحايا هذه المرحلة، وما عاشته العائلات والأقارب في أوضاعهم المختلفة، من معاناة وما تكبدوه من آثار نفسية قاسية كتداعيات مؤثرة نتيجة غياب أحد أفراد العائلة أو مجموعة أفراد من ذات القرابة، نتيجة اختطاف او اعتقال في شروط بعيدة عن أن تكون قانونية أو تحترم الحق في العدالة والانصاف.

      في الحديث عن هذه الفترة المؤلمة المثقلة بالجراح والمعاناة، كتب العديد من الضحايا عن بعض تفاصيلها، بأساليب مختلفة امتدت من الوصف والتوثيق إلى بسط مدى التفاعل والانفعال في كل مراحل الاعتقال، وما تمت معايشته كأجواء. كانت السخرية منها حاضرة أحيانا في بعض السرديات، لإبراز قوة المواجهة وتحدي قسوة الأوضاع، التي وضع فيه المعتقل للحط من كرامته واجباره على الخضوع والاستسلام.                               

   هي مؤلفات عديدة عكست أحوال مختلف التجارب في مواقعها المتباينة وظروف الإقامة بها، وكذا قسوة المعاملة ومستوى الترهيب للإرغام على الإقرار بما يعتبر تهمة تستلزم العقاب وتبرر التعذيب والإهانة بكل أنواعها.

    إذا كانت الأحاديث الهامشية حول تجربة الاعتقال تثير بكيفية أو أخرى، في مجملها تداعيات الاعتقال في مختلف مظاهرها، سواء العاطفية أو المادية، فإن غياب التوثيق والمواكبة عن طريق الكتابة، يبخس من الوعي أو إدراك حجم تأثيرها على المحيط القريب أو البعيد من المعتقل، إن ضحايا التجربة بالانتساب كثيرون، ومشاكلهم أحيانا أكثر قسوة وأشد تأثيرا على مسار الأشخاص. 

    في استقراء لما كتبه توفيق الوديع في مؤلفه الأخير” ذاكرة المدني في أنفا بارك ” يبرز حجم المعاناة وقسوة ما عاشه طفل في سن العاشرة، نتيجة ما تعرض له محيطه الأسري من اعتقالات وما خضع له من استفزاز في فترات متقاربة، لم يسطع الطفل الذي كان، أن يستوعب دواعيها ويتحمل كل تبعاتها. هكذا يستعيد كل لحظات القهر وما كان يستجمعه من قوة نفسية للمواجهة والوقوف إلى جانب والدته في التصدي لكل الهزات التي عاشتها الاسرة في بداية السبعينات من القرن الماضي، فما إن غادر الأب المعتقل السري الرهيب “الكوربيس” الذي خصص للمشتبه بمشاركتهم في ما عرف بأحداث مولاي بوعزة في مارس 1973، حتى اختطف ثلاثة إخوته من بينهم أخته وزوجها، بدعوة انتمائهم لتنظيم سري يدعو إلى الثورة وتغيير النظام.                                                            

   يستعيد المدني في حكيه الشجي ما كان يعتمر في نفسه، وهو يغالب الظروف القاسية التي أصبحت الوالدة تعيشها، وما تحملته من مسؤوليات في غياب رب الأسرة، وكل ما عانته في البحث عن مكان اعتقاله ومعرفة دواعي الاعتقال. أيام استطالت معاناتها وتضاعف وقع تأثيرها عليها بعد اختطاف الأبناء الذين لم تكن أعمارهم بالكاد تتجاوز العشرين سنة. لقد عاش المدني كل أنواع الاضطراب في محاولة لاستيعاب ما يدور في محيطه وما يفاجئه من حين لآخر. يعرض حالته في بعض تفاصيلها، يذكر حين استيقظ على وقع خطو غرباء يقتحمون البيت ويرغمون الوالد على مرافقتهم إلى وجهة مجهولة.

     “استيقظ ذاك الأربعاء، مفزوعا على صوت جلبة غير معتادة… والدته تهم بالخروج متأبطة بعض الملابس، وباقي الإخوة يتحركون في حديقة المنزل بصفة غير اعتيادية …”.

   “لم يكن خائفا فحسب .. كان مفزوعا…حتى انه لم ينتبه لتدفق بوله في غفلة منه… متانته عبرت عن كل الأحاسيس التي انتابته، وسمحت لنفسها بأن تتحرر من ضغطها، فانفجرت سيلا دافقا ظهرت مخلفاته حيث كان واقفا…”.

  كان كل ما عاينه أقوى من أن يتماسك ويتحمل تبعات ما رصدته عيناه، على الرغم من أن الوالد كان ينتظر الأسوأ في ظل الصراع السياسي الذي عرف أوجه منذ منتصف الستينات، وكان دوما يعد أبناءه لظروف قد تكون أكثر من قاسية، نظرا لانخراطه المباشر في معركة بناء الدولة على أسس تضمن الاستقلال الحقيقي عن التدخلات الأجنبية، وتشكيل المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية تعود فيها الكلمة للشعب وممثليه الحقيقيين.

  “فهم الصبي (الذي كان) أن والده ربما لن يعود أبدا… خصوصا وأنه كان يردد دائما (وجب توطين النفس على احتمال عدم عودتي إن أخذوني في المرة القادمة) كأنه بذلك يضع الكل أمام مسؤولياته فيتخلص مما يمكن ان يشكل له ضغطا مضاعفا في المجهول الذي سيأخذ له…”                                                                                        

    لحظتها سكنه هلع من عدم عودة الوالد، وهو ما يجعله يتحمل مسؤولية أكبر من سنه وقدرته على استيعاب ما يجب القيام به، أو كيف يتدبر أمره في غياب من كان عماده في كل شيء.

  حالة الصبي المدني عاشها جيل بكامله من أبناء المناضلين، الذين كانوا مستهدفين بالاعتقال والاختطاف، كلما تصاعدت وثيرة الصراع السياسي وتباينت وجهات النظر بين الفرقاء. حتى وإن كانت حالتهم النفسية والاضطرابات التي خضعوا لها، دافعا محفزا نحو تقوية صلابتهم في الحفاظ على وجودهم وتجديد إرادتهم في التحصيل المعرفي والسعي لفرد الذات.

  في كتب ومحكيات من طينة ما يقدمه اليوم توفيق الوديع، بمكن الوقوف على حقيقة عوالم الصمود والمواجهة وسط أفراد عائلة المختطف، والسجين المعتقل في قضايا سياسية، ومستوى المعنويات ودرجات التآزر التي شكلت سلاحا قويا في دعم الصمود ورفع سقف التحدي وسط المعتقلين ومن يساند شموخ كفاحهم في التصدي ومواجهة كل المخططات. فتحية اجلال واكبار لعائلات المعتقلين، لما قدموه من دعم مادي ومعنوي لصمود أفراد أسرهم سواء في المعتقل أو في السجون. وإن كان المجال لا يتسع لعرض الكثير من الحكايات والوقائع التي تكشف عن مدى التعاضد وتقوية شروط الصمود. فإن جاء في الرواية يقربنا من حجم المعاناة التي كانت أشد قسوة على العائلات وخصوصا الأمهات.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد حبشي

فاعل جمعوي وناشط سياسي