رهينة كتلة الشياطين

رهينة كتلة الشياطين

 ريم ياسين

 برنارد فيلان هو أحد الرهائن السبعة الفرنسيين في إيران، أوقف في شهر أكتوبر 2022 في مدينة مشهد خلال المظاهرات الكبيرة ضد النظام، هنا شهادة حصرية من السجن حتى تحريره في 12 أيار 2023.

بدأ له المشهد في البداية غير حقيقي، كأنه فيلم تدور أحداثه ولا علاقة له بها. اقترب منه رجلان أمام المسجد الكبير للإمام الرضا في مشهد، المدينة المقدسة في شمال شرق إيران.  صادروا هاتفه وقادوه  إلى داخل قاعة صلاة. بدأت أسئلة لا نهاية لها. ماذا يفعل هنا؟ ما هي الصور التي أخذها؟ ثم وضعوا أصفادا في يديه وعصبوا عينيه. فقال برنارد فيلان في نفسه وهو الفرنسي الإيرلندي ذو 64 عاما الإختصاصي في السياحة،  يبدو أن هذا جديا هذه المرة.

عند نقله إلى مركز للاستجواب، سمع سجينا آخر يصرخ  تحت الضربات طوال الليل. وخطوات تتحرك بلا هواده  في الرواق. هل سيأتون لأخذه الآن؟ نحن في 3 أكتوبر 2022. 

برنار فيلان هو الفرنسي السابع من بين 40 رهينة أوروبية معتقلين تعسفيا في إيران، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تعتمد دبلوماسية الرهائن. لكل رهينة قصته الخاصة. ولكن قصة برنارد فيلان الذي حرر في 12 أيار الماضي  فريدة. فقد نقل  إلى سجن فاكيل لاباد  في مشهد. وتوالت الاستجوابات عدة أسابيع، مصورة دائما. الدفعة الأولى من الأسئلة كانت دقيقة ولكن لم يستطع برنار فيلان فك شيفرتها. لماذا يتظاهر الأوروبيون وهم عراة؟ أين أصبحت حركة السترات الصفر؟ ما هو الفيلم المفضل لديك؟ كان يستجوبه عميل استدعي خصيصا من طهران. كان يضع قناعا طبيا وكفوفا مطاطية ويتحدث اللغة الفرنسية بشكل ممتاز وبكل تهذيب. وبنفس الوقت، كان يصحح قواعد اللغة للرهينة، وهي طريقة لإثبات سيطرته، أعطاه فيلان اسم هنري وقال ذلك له.

الدفعة الثانية من الأسئلة كانت مباشرة أكثر تتعلق بالصور التي وجدت في هاتفه وفي حاسوبه وخاصة صورة شرطي على دراجته. فيلان هو راكب دراجة ويهتم بالدراجة كثيرا. جوابه لم يكن مقنعا وقد أحس بذلك.  ذات يوم، أوقف هنري الكاميرا فجأة خلال الاستجواب. هل تريد أن تعمل معنا؟ تلا ذلك شكر ثم رفض.

مرة أخرى، عند أخذ بصماته، وضع فيلان إصبعه المليء بالحبر على أنفه  كأنه مكياج بخط أسود. سأله هنري لماذا تفعل ذلك؟ فأجابه  لما لا؟  في لحظة، وجه هنري الجامد يبدو عليه القلق. وقد فهم أن فيلان مربك وأنه مزيج من البراعة والجرأة. عيون زرقاء وقامة جميلة، كان يفرض وجوده دون أن يبدو ذلك عليه.

أنتم تضيعون وقتكم

 إنه سفره الخامس إلى إيران منذ 2017، وهي الفترة التي انفتح فيها هذا البلد على السياحة وأصبح وجهة سياحية للأوروبيين. تحمس فيلان كثيرا حتى أنه اتبع دورات التعلم للغة الفارسية ونظم جولات سياحية  متخصصة بالتعاون مع وكالة محلية هي مغامرة إيرانية. هذه المرة، اشترى بطاقته في شهرحزيران 2022 للذهاب إلى إيران في 17 سبتمبر.

بمحض الصدفة،  هذا التاريخ هو اليوم الذي تلا وفاة الشابة مهسا أميني عن عمر 22 عاما في السجن من أجل حجاب لم تضعه كما يجب. هزت تحركات معارضة المدن الكبيرة وقد قمعت بعنف. أصيب المقربون من فيلان بالخوف وطلبوا منه العودة ولكنه لم يستجب. فهو لم يكن يدرك مدى الأزمة. لم ير سوى تظاهرة واحدة وهو خارج من بازار تبريز الذي هو برأيه أجمل بازار في العالم. كان برفقة مايك وهو إيراني من الوكالة السياحية وقد أعتقل في مشهد وهو معه ثم حرر بسرعة.

مغامرة إيرانية

خلال الاستجوابات، كان فيلان يقول لهنري أنتم تضيعون وقتكم. لا يوجد شيء، سأله العميل، هل أنت متزوج؟  وما هو اسم زوجتك؟  فكان جوابه أنا متزوج واسم زوجي رولان بوني لو وهو طبيب نفسي وعمره 62 عاما. هذا الجواب هو ضربة زهر فيه كثير من المخاطرة. فهو يعرف أن العلاقة الحميمة بين شخصين من نفس الجنس ممنوعة في إيران وعقوبتها الإعدام. وقد نفذ حكم الإعدام برجلين منذ عدة أشهر. ولكنه لم يتردد. فبالنسبة له، من الأفضل البوح بذلك بنفسه لأنهم حتما سيكتشفونه.

هذه المرة، لم يرف جفن لهنري. على العكس، سأله عن سبب عدم تبنيهم للأطفال وعلق طويلا على اللوبي المثلي الجنسية القوي جدا في أوروبا.  العيش بحرية كان من أسباب مغادرته بلده إيرلندا في أوائل الثمانينات عندما كانت المثلية ما زالت تعتبر جريمة.

في باريس حيث يعيش فيلان منذ ذلك الوقت، يعمل في القطاع السياحي.

اعتقل فيلان في سجن مشهد، في قسم 1-6 المسمى بناء الشياطين أي السجناء السياسيين والأجانب. ومن بينهم شباب إيرانيون لم يبلغوا ال20 عاما أوقفوا خلال المظاهرات الأخيرة وعدد كبير من مهربي المخدرات من جنسيات مختلفة، أفغان وباكستانيين وبحرينيين وأتراك. فهذه هي خصوصية محلية، فالمنطقة الحدودية مع أفغانستان تعتبر حلقة وصل أساسية في تهريب المخدرات بشكل غير شرعي. في الزنزانة التي يشغلها، عدد السجناء 15 ومن بينهم الفرنسي بنجامين بريير وعمره 38 عاما وكان قد اعتقل وصدر حكم بحقه بالسجن لمدة 104 شهر بسبب صور التقطها في حديقة طبيعية بواسطة مسيرة.

في إيران، لكل سجن قواعده الخاصة وظروف الاحتجاز تختلف حتى من فرع إلى آخر داخل السجن. في مبنى الشياطين، يوجد حلاق وكتب  وبقالة صغيرة  وإطار أسهل من سجن أي فين وهو أكبر سجن بالقرب من طهران يندد به بسبب ممارسات التعذيب وسوء المعاملة. أكثرية الرهائن الغربيين موجودين فيه. ولكن مبنى الشياطين هو أيضا المبنى الذي يقاد إليه المحكومون بالإعدام لقضاء آخر ليلة لهم  قبل تنفيذ الحكم الجماعي في الصباح الباكر.

يلمح فيلان ظلهم من زنزانته، يلاحظ الوجبة الأخيرة التي تقدم لهم من خلال الشباك، يسمع بكائهم عند الفجر، كأنما هذا العذاب غايته تحذير الأحياء بأن الموت ليس بعيدا.

 في شهر نوفمبر 2022، أبلغ برنارد فيلان أن له الحق بمخابرة هاتفية أولى منذ احتجازه. فاتصل طبعا برولان بوني لو. عند الاتصال، انفجر الإثنان بالضحك.  ثم إقترح فيلان بحماس فكرة حملة لتحريره وعنوانها الكبير، صاحب بار للمثليين معتقل في إيران. بدأ بينهما نقاش رهيب وهزلي بنفس الوقت، حيث يتحدث الرهينة بدون ضبط نفسه بينما يستعمل الآخر في باريس عبارات مواربة، مثل ليس هذا الطريق الذي نستكشفه. نصحه الدبلوماسيون الفرنسيون بعدم التكلم عن زواجه لأسباب أمنية. اضطر بون لو بعدم كشف ميوله لأول مرة وهو عضو في جمعية للمثليين. قدم نفسه كصديق أمام لجنة الدعم للرهائن في إيران. وكانت كارولين شقيقة برنارد تظهر في المركز الأول. والأصدقاء يساندون بوني لو  الغاضب بسبب عدم قدرته على الظهور علنا.

بدأت محاكمة فيلان بداية سنة ألف 2023 في مشهد بتهمة انتهاك أمن الدولة مع محامي عين من قبل النظام الإيراني. ورفض قبل الجلسة إمضاء وثيقة أخيرة مكتوبة باللغة الفارسية وبدون ترجمة وهمس له القاضي أنت ستموت في السجن.

يتذكر فيلان الآن بصعوبة جلسات المحاكمة التي تعود فيها حكايات الصور بشكل دائم.  ثم يعلن الاتهام ويطلب المدعي ثلاث سنوات ونصف من السجن ويلتزم طلب العفو،  يسود ارتياح عام وقبلات. بعد أيام قليلة، يأتي فيلان إلى المحكمة مقيدا ولكن شديد الثقة. ويعلن الحكم، العفو مرفوض ومدة السجن أصبحت ست سنوات ونصف، الأمل واليأس، يتم التعامل معهما بطريقة مدروسة ودقيقة لجعل المتهم يفقد توازنه.

هل سنخرج يوما ما؟ يسأل فيلان شريكه الفرنسي في الزنزانة.  بنجامين بريير يطمئنه متفائلا. قيل له أن نهاية فترة احتجازه ستنتهي قبل الوقت في شهر شباط. ودع بريير السجناء الأخرين متأثرا ووزع أغراضه كما تجري العادة. تجاوز مراكز الشرطة واحدا تلو الآخر وعندما وصل إلى الباب الأخير الذي يوصله إلى الحرية، أعيد إلى الزنزانة. وهنا تبدأ مطحنة اليأس التي تسحق الأرواح والأجساد، أين الحقيقة وأين المزيف؟

يعد فيلان الساعات و وعندما يشاهد بالصدفة ساعة حائط عند قاضي أو طبيب، يدرك أن حسابات الوقت عنده كلها خاطئة مع أنه يعتمد على أوقات وجبات الطعام والدعوة إلى الصلاة ويتساءل إذا كان من الممكن الغش بهذا لخداع السجناء. في الزنزانة، يكرر التلفاز معلومات حول الغرباء المتهمين بتنظيم المظاهرات. يبدأ فيلان وبرير على التوالي إضرابا عن الطعام.

حالة غير نمطية

 في فرنسا، تسلط حملة الدعم والاتصالات الدبلوماسية المكثفة الضوء على تردي الحالة الصحية للمحتجزين. هذا هو أكبر المخاوف لدى النظام الإيراني، الاحتجاز ممكن أن يكون صعبا بل شديد القساوة ولكن لا يجب أن يموت أي سجين غربي.  تظهر عند فيلان مشاكل صحية. مشاكل في القلب وإرتفاع في الضغط وخطر الإصابة بنوبة قلبية ومرض السيدا.  وفي كل مرة، كانت الإدارة الإيرانية تقوم بما في وسعها لمعالجته في مستشفى أو حتى طبيب خاص.

في 11 أيار،  أعلن عن تحرير السجينين لأسباب إنسانية.  فلم يصدقا.  حتى عند وصولهما إلى العيادة للتحضير للخروج. حتى عند وزير الخارجية الإيراني حيث جاء السفير الفرنسي لأخذهما، حتى وهما في مطار طهران حيث قدم لهما الكافيار في صالة الشخصيات المهمة.  فقط،  عند خروج الطائرة من المجال الجوي الإيراني بعد  28 دقيقة من الطيران، انفجرا بالضحك والبكاء.

يقوم الخبراء في باريس حاليا بتحليل كل مرحلة من قضية فيلان على ضوء لعبة الشطرنج الجهنمية التي تقوم بها إيران ضد الغرب مع استراتيجيتها السرية والمخادعة. الفرضيات كثيرة. 

يقول دافيد ريغو لي روز، الباحث المساعد في المركز الفرنسي التحاليل الاستراتيجية ورئيس تحرير مجلة الشرق الاستراتيجي أنه من غير المستبعد أن تكون طهران تشكل نوعا من  تجمع للرهائن احتياطيا  تستعملهم كقوة ردع إذا اتهم إيرانيون في عمليات في الخارج. ويقول خبراء آخرون أن استجواب فيلان من قبل عملاء الحكومة وليس حراس الثورة جنب الرهينة الأسوأ.

تقول باريس وطهران أن تحرير الرهينتين حصل بدون أي مقابل. وهذه حالة غير نمطية. بشكل عام، إيران تعلن عن مطالبها المالية أو تبادل الرهائن. هذه المرة، ربما إيران تريد تخفيف الضغط الدولي وتلميع صورتها. يجب النظر أيضا بكيفية عمل النظام الإيراني من الداخل  حيث هناك كثير من التنافس. من الممكن أن يكون توقيف أو تحرير فيلان أو الإثنين معا من عمل  قطاع ما لإيذاء قطاع آخر. ما زال في إيران خمسة فرنسيين رهائن دولة.

في شقته الباريسية، جلب فيلان صنادل من البلاستيك كان يرتديها في الزنزانة وترك لصديقه تاج محمد كرما لي السجين السياسي الأكثر ثمنا بالنسبة له،  دفتر وقلم وممحاة.

بتصرف عن لوموند الفرنسية

Visited 15 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة