غاستون باشلار: مفاهيم ومرتكزات المشروع

غاستون باشلار: مفاهيم ومرتكزات المشروع

ترجمة: سعيد بوخليط  

                           المثالية (الحلقة 5                                                                                                                        

تقديم 

     اقتراح مشروع معجم حول غاستون باشلار، يعني بالتأكيد التحلي بعدم الوفاء نحو إلهامه الفلسفي الخاص. لأننا سنقاربه مثل موضوع يلزمنا بدراسته في حين رفض باشلار باستمرار ذلك، وفضَّل أن يكون شخصا دارسا، وفاعلا بصدد الدراسة.

   أما بخصوص الابستمولوجي، فيعني ذلك تجميده ضمن نطاق الوضعية التي خلفها لنا باشلار، بينما يرتكز تصوره على ضرورة مصاحبة فقط الإنتاج الوحيد الذي يبدو جديرا بالدراسة والاهتمام، ذلك المتعلق بمعرفة لاتتوقف عن الاشتغال.

تكمن الطريقة الوحيدة كي نبقى أوفياء لباشلار (1884- 1962)، في السعي إلى مواصلة صنيعه بالتموضع عند أفق التطورات الأخيرة وكذا آخر تساؤلات المعرفة. حينها يبرز معنى التساؤل عن مضمون قوله عندما يستعمل هذا المفهوم أو ذاك، ثم الانخراط عند الاقتضاء، في سجال، استدعاه  باشلار دوما  شريطة انغماسه بين طيات تربة معرفة بصدد التشكُّل.

   إذن، بناء على العلاقة التي وطدها سجاله مع سياق الوضعية الأخيرة التي بلغها العلم، قد نرتاب بخصوص قدرتنا على توثيق ضمن إطار تاريخي محدد. صدرت أعمال باشلار حول فلسفة العلوم بين سنوات 1928 و1953  يعود أحدثها تقريبا إلى نصف قرن، وطيلة هذه المدة، لم تتوقف فاعلية العلم عن التبلور، بل على العكس.

   كي نسرد الأشياء بسرعة،نقول بأنَّ باشلار شاهد عيان توخى اصطحاب ظهور النسبية الخاصة وكذا النسبية العامة ثم ميكانيكا الكمِّ، لكنه رحل قبل التطورات الحالية. ألن يظهر تحفظا أقل إزاء فكرة الكون، لو أدرك مثلا الأبحاث الجارية على مستوى علم الكون؟

ربما أمكن القارئ الذي يمتلك معرفة بالوضعية الحالية للعلوم، الانخراط في مناقشة بعض نتائج تحليلات باشلار،لكي يضمن له على الأقل ”انفتاحا” جديدا، لكنه ليس بالموقف الذي نتوخى تبنيه هنا: من جهة، يقتضي الأمر كفاءة حقيقية على مستوى المباحث، ومن جهة ثانية نسعى فقط تقديم مساعدة بخصوص قراءة مشروعه، بغاية التمكن تحديدا من إبراز الكيفية التي يواصل بها غاية اليوم إضاءة العلم.

تحضر دواعي أخرى، تثيرنا بخصوص قول الكثير حين تناول قراءته التي بلورها الرافد الثاني من مشروعه المتعلق بالخيال. هنا، اقتحم باشلار مسارات عدّة وأشار غالبا إلى حقول لم يقف عندها قط لكن ينبغي اقتفاء أثره من أجل استلهام خطوات من هذا القبيل، بل وإتمام السعي قصد إنجاز عمله، الذي يستحيل عرضه دون التحسر على غياب إمكانية القدرة على الاشتغال بغية تمديد مرتكزاته.

  الرافد الثاني منفتح كما الشأن بالنسبة لخلاصات مشروعه على مستوى العلم.

  قليلة هي المشاريع المستفِّزة والمحرِّضة، مثلما الأمر مع نتاج باشلار: لانقرأه دون انبعاث رغبة الاستعداد كي نكون عند مستوى أفقه.

   ينتبه فكره إلى المستجدات، سواء استندت على مفاهيم أو صور، فيظهر باستمرار مختل التوازن، يبحث بلا كلل عن توازنه. في خضم ذلك، وضع لبنات معجم يقيس في الوقت نفسه اقتضاءه وكذا إبداعيته.

   لقد أقام باشلار التعابير التي يحتاج إليها سواء بأن يبدع التئاما غير متوقع حول اسم وصفة تضمنتهما اللغة، سواء بتحويل كلمة عن دلالتها المتفق عليها، سواء بخلقه كلمة جديدة حينما يصبح ضروريا. ليس بالإمكان اتباعه هنا من خلال إبداعاته المعجمية المبرَّرة دائما. نتطلع فقط مساعدة القارئ حتى يركِّز انتباهه حول عدد صغير جدا من المصطلحات.

   عموما، اشتغل باشلار على رافدين اثنين، فلسفة العلوم، لاسيما علوم الواقع، ثم فلسفة الصور، أساسا الصور الشعرية. هل يتعلق الأمر بنفس الفلسفة، أو هل ينبغي جعلها متعارضة في إطار فلسفة للنهار وثانية تسكن الليل،واحدة متعلقة بالمفاهيم وأخرى تراهن على الصور؟

   سنلاحظ هنا بأنَّ استعراض قاموس باشلار يقدم حججا كي ننتصر للوحدة، لكنها وحدة نقتفي أثرها وتتشكَّل باستمرار عبر إعادة التصميم التي تفرض نفسها كي تتجلى باعتبارها فلسفة تهتم بصياغة الجديد.

   إذن، سأحاول طيلة ستة عشر حلقة، رصد أهم مرتكزات مفاهيم باشلار ومعجمه على مستوى العلوم أو تصوراته الشعرية، مثلما رتَّبته دراسة الباحث جان كلود باريونت عبر إصدارات سلسلة معجم الفلاسفة التي يشرف عليها جان بيير زرادر (*).    

           باشلار المثالية

  يقصد باشلار بمفهوم المثالية،كل فلسفة تمنح في إطار السعي المعرفي الأولوية إلى ذات مفكِّرة، كيفما تبلورت النماذج الخاصة التي تحدد وفقها كل واحدة من هاته الفلسفات تصورا فعليا بخصوص الأولوية.

   قد يحيل ذلك على ولوج العقل مباشرة وجهة أفكار تتوافق مع الواقع، أو أفكار فطرية تأمل ضمانة إلهية، أو أيضا أشكال وقوالب مندرجة بين طيات ذات متعالية: لكن مايهم باشلار، دون إغفال بهذا الخصوص اعتباره ليون برانشفيك أستاذا له، توخي المثالية فقط العثور لدى الذات المفكِّرة عن المبدأ الأساسي للعلم، بينما يتعبأ فكره نحو وجهة مغايرة لهذا الادعاء. 

   تتجلى أحيانا معارضته للمثالية، في النقد الذي يوجهه إلى بعض نماذجها التاريخية – الديكارتية، أو الكانطية- لكنه يستهدف في أغلب الأحيان مفاهيمها القاعدية، دون الاهتمام كي يعيد وصلها بنموذج تاريخي. في نهاية المطاف، تأتى له  طرح المثالية باعتبارها تقهقرا للعقلانية، مثلما نجد تصور ذلك ضمن أولى صفحات كتابه ”العقلانية التطبيقية” (بين4 و7). بعد التذكير بهذه النتيجة، يمكن توضيح تبعا لكلمات معينة المراحل التي خَبِرَها باشلار كي يبلغ ذلك التأويل.

حسب الخطاطة التي صنف بحسبها باشلار مختلف فلسفات العلم،فقد وضع عند النواة تلك التي يقرُّ بها : يؤسسها (ليس صدفة، بل الوحيدة التي بوسعها ذلك) زوج ثنائي، العقلانية التطبيقية وكذا المادية التقنية. رَتّب أعلى وأسفل هذه الثنائية المركزية، الفلسفات المنافسة لفلسفته : في الأسفل ثلاث فلسفات تقود إلى الواقعية،بينما عند الأعلى ثلاثة أخرى تقود نحو المثالية.

هكذا، تمثل الواقعية والمثالية الصلة المشتركة، كي تشغل المواقع الأكثر بعدا حسب النموذج الذي بدا له أصيلا بالنسبة لفلسفة العلوم.

لنترك حاليا جانبا الواقعية كي نقارب المثالية.

يتعلق الأمر عند باشلار،العمل على تفسير كيفية إدراك فلسفة مثالية تنتبه إلى نموذج معرفي ينهض على عقلانية تطبيقية. تميِّز الأخيرة، ثنائية قطبية، نظرية وتجريبية، الرياضيات والتقنية،علما بأنَّ التأويل المثالي جعل المعرفة العلمية  فقط رهينة ذات مفكِّرة.

لايمكن للحركة التي بواسطتها ننتقل من العقلانية التطبيقية صوب المثالية، سوى أن تعكس ضعفا،بحيث نهمل أثناء ذلك جل المكون التجريبي والتقني قصد تمجيد المكوِّن النظري الوحيد للعلم، ثم في نفس الوقت، خيانته لحظة فصله عن ما يعطيه صلة بالواقع.  

خلال مرحلة أولى،نبتعد عن محتوى المعرفة العقلانية ونؤولها باعتبارها مجرد شكلانية صورية،مما يسمح بإدراجها ضمن تنظيم منطقي صارم قدر ما يمكنه ذلك،وفي أفضل الحالات باعتبارها مسلَّمة. غير أنه امتياز، لايعوض عن خلل المسافة التي نأخذها قياسا إلى التجربة،مادمت معرفة الواقع لن تختزل فقط إلى مجرد لعبة نظرية،بل ولا يمكن تحديد عملها بغير استحضار العوائق التي تطرحها أمامه الحقيقة التي نتوخى معرفتها.

ننتقل بيسر من المرحلة الصورية إلى التوافقية : إذا كانت المعرفة صورية،لايمكن للقواعد التي تنظم صياغاتها الصورية سوى استلهام عقلانيتها من مواضعات اختيرت تقريبا اعتباطيا لأنها لم تختبرها التجربة.بالتالي،يقترب كل شيء حينها من وضع مثالي،لأنَّ الذات المفكِّرة تفرض نفسها باعتبارها المنبر الوحيد القادر على تقويم تلك المواضعات وكذا الاختيار فيما بينها.هكذا، يتصور باشلار، نَسَبَ المثالية.

يمكننا طبيعيا وضع أسماء تحت كل المراحل المنصوص عليها،أسماء مفكرين أو مذاهب فلسفية.لكن الأهم البحث حاليا عن التذكير بالموضوعات الأساسية والتي وفقها تمحور عداؤه للمثالية.

أولا من جانب العلم، تبدو المثالية عاجزة عن إدراك بكيفية ملائمة وتيرة تقدم المعرفة.لقد دافع باشلار عن هذه الفكرة منذ كتابه الأول :”دراسة في المعرفة التقريبية” : لقد أشار منذئذ بأنَّ المعرفة تتجلى دائما بين طيات المثالية في صيغة نسق :”مادامت الحقيقة غير معطاة فعليا سوى في نطاق استساغتها لتصنيفات الذهن المبدئية”.

فيما بعد، يصعب على المثالية تفسير و تيرتها المتواصلة والتدريجية،حتى وإن أمكن باشلار بعد ذلك سحب مفهوم الاستمرارية كي يضع موضعه مفهومي القطيعة والجدة.

تمسك باشلار غاية أبعد حد، بأنَّ المثالية لايمكنها تفسير المعرفة حسب مبدأ اللا- اكتمال. بادر نحو تغيير الصيغ التي وفقها تصور تطور العلم، لكنه مستعيدا ضمنيا في خضم ذلك سعيه بمثابة اعتراض على المثالية.

أيضا، مفهوم الذهن الذي تنصهر معه المثالية، لايمكنه تقديم أساس للمعرفة إلا إذا أبان عن نفسه أحاديا. لكن دراسة نشأة العلم، مثلما فحصها كتاب باشلار:”تشكُّل الفكر العلمي” (1938)، جعلته يقتنع، بانطواء الذهن نفسه فعليا إلى جانب دروس العقل الصارمة، على نزوات أو ”أوهام” حسب تعبير يتواتر باستمرار، مصدرها اللاوعي.

بمعنى ثان، العقل الذي نلتمس منه إعطاء العلم دعامته، يحتاج بدوره إلى التشكُّل وفق صرامة المعرفة، ولن يصير كذلك سوى داخل المعرفة و بفضلها. إذن لا يوجد فكر يقبل الإحالة خارج عمل المعرفة.

العقل التأسيسي ليس شيئا خارج العقل المؤسَّسِ،على غير هدى الأطروحة التي يدافع عنها أندري لالاند.عندما أكد التالي :”لايقوم علم الحساب على العقل.لكن نظرية العقل من ترتكز على علم الحساب الأولي”.

لقد تطلع باشلار صوب توضيح أنَّ الفكر أو العقل بمثابة مفهومين مرنين كليا،أو إذا أردنا،فارغين من المحتوى،طالما لم يصادفا علما بصدد التبلور.

إذا كان تصور كانط للعقل مختلفا عن تصور ديكارت، فلأنَّ كانط حسب باشلار يضعه في إطار منظور ميكانيكا نيوتون، بينما يقترح ديكارت رد الاعتبار إلى حالة معرفية أقل تطورا.

إذن لايمضي عمل المعرفة بمجرد تحليل- ذاتي للذهن.مسار كهذا بلا نتيجة :”مادام الذهن يمتلك بنية متغيرة منذ اللحظة التي تصبح خلالها المعرفة تاريخا”. تتشكَّل هذه البنية خاصة إبان سجالات العلماء التي تمثل إحدى مصادر المعرفة الأكثر فعالية.

هناك مبرر ثان، حسب باشلار، قصد رفض مثالية تصاحبها وحدة أنا أو ذاتوية، تتنافى مع حياة الحاضرة العلمية.هذه الحاضرة وحدها، بوسعها اليوم، تقديم مستقبل إلى العلم.

غير متاح قط زمان،إن وُجِد فعلا، يمكننا في خضمه تخيُّل إعادة بناء العالم علميا، بفضل القوة الوحيدة لفكر منعزل. العزلة التي وفقها تتحقق الاكتشافات الكبيرة،لاتخرق وحدة المشتغلين على البرهان،بل تدفعها كي تتطور ثانية.   

* المرجع:

     جان كلود باريونت : معجم باشلار،2016،منشورات إيليبس. ص: 18-15   

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي