الواقع الفج والأحلام المتكسرة
خالد بريش
عندما يطلق الإنسان العنان لعقله وروحه في الأماني، فمما لا شك فيه أن الأمنية الأهم ستكون بالعودة إلى العيش في الماضي، المتمثل بأيام الطفولة والصِّبا، وهو ما عبر عنه الشاعر يوما بقوله: «ألا ليت الشباب يعود يوما». إنها أمنية كل الذين ساروا في دروب الحياة وقطعوا مرحلةً، وربما مرحلتين أو أكثر… وعلى أنغام سيمفونية الأمنيات الجميلة التي تداعب خيال كل البشر، تُطرِّز الكاتبة المغربية سعيدة لقراري مجموعتها القصصية الأخيرة “وداعا أحلام الغد”، الصادرة في مراكش عن دار طرز.
وما بين «لَوْ»، مخزن الآمال والأماني التي يتمنى الإنسان أن تتحقق يومًا، وغالبًا لا تتحقق، وموسيقى نبض الحياة علوًّا على سلالم مصاعبها، وهُبوطًا وتَدَحْرُجًا بسبب انتكاساتٍ وخَيباتٍ مَليئةٍ بالاستدراكات التي تُرافقنا في مسارات حياتنا، تختصرها في الغالب عبارةٌ من ثلاثة أحرفٍ، تتربع على كثيرٍ من مسارات حياتنا ومحطاتها “لَيْتَ”، التي تزدان بها النقاشات والأحاديث المتبعوعة بآهاتٍ وحَسَراتٍ وتأخُّخاتٍ تحفر في الدواخل بصمتٍ… اختارت الكاتبة سعيدة لقراري أن تجعل من “لَوْ”، و”لَيْتَ”، محطتين لأحداث قصصها، وحملت القارئ على إيقاع تفاصيل هذه المجموعة القصصية المليئة بالآلام والفجاجة والمرارة على أنواعها من فقرٍ، وجَهْلٍ، وذكوريةٍ، واسْتِعْبادٍ، واغْتِصابٍ، وضَياعٍ، وأُمِّيَّةٍ دينيةٍ وثقافيةٍ الخ… الخ…
وبإصْرارٍ، وعدم خَوْفٍ، تقول الكاتبة لقراري كلَّ شيءٍ، وبوضوحٍ تامٍّ، وإنْ كان ذلك مُؤْلمًا كملحٍ على الجِراح… مع أنها أخبرت القارئ في ص 49 “أحيانا يكون الغموض هو الرداء الأنسب للاحتماء من لسعات مجانية”. فكانت في خياراتها على عكس كثيرٍ من الكتاب الذين يُصوِّرون الحياة جناتٍ من لَبنٍ ونخيلٍ وأعنْابٍ وعسلٍ مصفى وأحلامًا ورديةً… فيمرون بجانب أسوار المدينة من دون الوُلوج فيها، أقصد أنهم يمرون على حافَّة أسوار مآسينا وآلامنا وبشاعة تصرُّفاتنا من دون أن يُعيروها اهْتمامًا، لأنهم لا يُريدون رُؤْية أنفسهم في المَرايا، لأن المَرايا تفضحُ بشاعتهم وقُبْحَهم…
أسلوب هادئ وقضايا شائكة
على الرغم من قساوة الصور والمواقف التي تضمنتها هذه المجموعة القصصية، إلا أن الكاتبة سعيدة لقراري احتفظت بأسلوبٍ جميلٍ هادئٍ، لا يعرف الانْفِعاليَّة المًجَّانِية الغاضبة في الكتابة، ولا العبارات المُنمَّقة التي قد تُبْعد القارئ عن مواضيع السَّرْديَّات، ولا الصور الشاعرية التي قد تُضْفي على أحداث أقاصيصها تلطيفًا لأجوائها، وأبْعادًا جماليةً قد يحتاجها القارئ المُنْفعِلة روحه من قساوة ما يقرأ… مستخدمةً للوصول إلى مُبْتغاها من وراء كتابتها لغةً مُتماسكةً سَهْلةً، بعيدةً عن الغريب والمُسْتغرب من الألفاظ والعبارات، سالِكةً دَرْبَ الجُمل الخبرية القصيرة، التي أضفت على الأسلوب نوعًا من إيقاعٍ سريعٍ إلى حدٍّ ما، أسهم في طرق أبواب تفكير القارئ، وهَزْهَزَة تلابيب روحه، مما أحدث تكاملًا مع المواضيع التي تطرقت إليها الكاتبة، وشكلت بالتالي عُنْصر قوة عَضَّد من طبيعة القصص، وأعطاها بُعْدًا، بلْ أبعادًا أخرى…
مضمون أنثوي
تجلت في هذه المجموعة القصصية روحٌ أنثويةٌ بامتيازٍ، إن كان من حيث المواضيع المُزْدحمة بمعاناة النساء في أوطاننا، أو من حيث طبيعة الكتابة نفسها التي من الممكن أن نصفها كما وصفت الكاتبة إحدي شخصيات قصصها (ص 18) بقولها: « عروة أحلامها متينة لا انفصام يشوبها »… وفي الواقع فإنه ليس هناك أفضل من المرأة لكي تكتب عن المرأة ومعاناتها ومشاكلها، لأنه لو قام كل رجال الأرض بالكتابة عن ذلك، فإنه لا يُمْكنهم مُلامسة عُمق مشاكلها وقضاياها، مصداقًا لقول الشاعر « ولا [ يعرف ] الصبابة إلا من يُعانيها »… فبرعت الكاتبة سعيدة لقراري في التقاط المشاهد والصور في اللحظة المناسبة، وكانها لقطات في أفلام السينما الواقعية…
لم تذهب الكاتبة سعيدة لقراري بعيدًا في أعماق التاريخ والماضي، أو تغوص في عوالم الخيال ليصطاد قلمها الصور والقصص، بل تلفتت حولها، وكتبت بصدقٍ وإخلاصٍ ما شاهدته عيناها، وما أحسته بروحها المُرْهفة… فمرَّرَت كثيرًا من الصور السلبية التي لا تُحبها وتُؤرِّقها، بل تُؤرِّق جميع من يملكون حِسًّا وبقايا من ضميرٍ إنساني. مُعْتمدةً على أسلوب الصورة الوَمْضَة، التي تتركها تتسلل عبر حروفها، لتستريح على صدر صفحاتها. وما على القارئ إلا التنبه لها، وأن يكون عنده في نفس الوقت الاستعداد لالتقاطها… فهي ليست مُجرَّد تفاصيل في السرد بل هي المسامير التي تشُدُّ الحُروف إلى بعضها، وأدوات رسم لوْحاتها، والحقائق الفَجَّة في حياتنا، التي كثيرًا ما نُديرُ لها ظهرانينا…
حياة بطعم الجحيم…
تناولت الكاتبة سعيدة لقراري في قصصها التابوهات الأسرية التي تُدمِّرُ الأسرة، ويذهب ضحيتها الأولاد، ويتحاشى معظم الكتاب الحديث عنها، وكذلك تعرضت للمُحَرَّمات في عالمٍ يعتبر نفسه في قِمَّة الأخلاق والتدين دون غيره من بقية البشر، فحملتنا من خلال سُطورها إلى عالمٍ تَلِجُهُ البنات الصغيرات للعمل في بيوت الأغنياء، وهن لا يحملن معهن إلا ثيابًا باليةً، وطيبة قلوبهن، وطُهْر نُفوسِهنَّ، فيُصْبِحْن فجأةً ومن دون مقدمات عبيدًا…! طبعًا، لا يُطْلق عليهن أحدٌ هذه التسمية، التي فيها من المرارة والإهانة ما فيها، وذلك لكي لا ينزعج السادة المسؤولون، ولا أصحاب البيوت التي يُسْتعبدون فيها…!
وتكون المفاجأة عند أوَّل مُنْعَطفٍ، عندما يقوم الأسْيادُ الأغنياءُ بِقَصِّ خُصُلات وجَدائل شُعورهنَّ التي هي قسيمة كينونتهن، وبعض ذكريات طفولتهن، وفيها كثيرٌ من لمسات أمهاتهن اللواتي كن يتفنن في تجديلها وتظفيرها لهُنَّ… ليَبْدَأن طريقا أخرى، تتهاوى فيها أحلامهن، بل تُداسُ بأقدام الأسياد، كما تهاوت ضفائر شعورهن وتساقطت على الأرض بعدما قصته لهُنَّ سيدات البيوت بأيديهن انتقاما من براءتهن التي تفضح عهر أولئك السيدات… إنه طريقٌ تمُرُّ فيه الصغيرات بِوَيْلاتٍ لا تُحْصى ولا تُعَدُّ… ويكون الاغتصاب مُجرَّد تفصيلٍ صغيرٍ في معالم ذلك الطريق المُعبَّد بالذُّلِّ والمَهانة، لينتهي كيانهن الإنساني بعُبوديةٍ مَحْضةٍ مُؤْلمةٍ حد الجحيم… لقد دخلن الحياة بأحلامٍ كبيرة كبقية بني البشر… وها هن يخرجن من أبوابها الخلفية مَنْسياتٍ بصمتٍ بعدما تم تدنيس شرفهن، وانتهكت كرامتهن، وفقدن أعز ما تملكه امرأةٌ إنسانةٌ في هذا الوُجود من بني البشر…!
وختامًا، كلمة شكرٍ كبيرة للكاتبة سعيدة لقراري على هذه الجُرْأة المَحْمودة المُحَبَّبة، لِطرقها الأبواب المُغْلقة، ولاقتحامها أسوارًا نتجنَّبُ جميعًا المرور حتى بقربها، ولصراحتها الفاضحة حَقًّا…