ابن الرومي في مدن الصفيح.. حكاية شخصية احتفالية
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
توصلت برسالة قصيرة من صديقي المخرج السوداني ماهر حسن سيد، يخبرني فيها بانه بصدد إعادة إخراج مسرحية(اسمع يا عبد السميع) وفي هذه الرسالة يقول:
(السلام عليكم استاذي الفاضل، رغم أنف هذه الحرب اللعينة علينا أن نكون.. وأن نصنع فرحاً لا يشبه صوت المدافع وأزيز الطائرات.. رائعتك الاحتفالية اسمع يا عبد السميع، يسعدني وَيشرفني أن أعرضها للمرة الثانية، ولكن هذه المرة في أقصى شرق السودان على ضفاف البحر الأحمر، حيث أكون الآن بعد أن هربنا حفايا من حرب لا ناقة لنا بها ولا جمل..
صديقك المخرج المسرحي ماهر حسن سيد.. دمت بخير سيدي..).
يا سبحان الله، هذا العبد السميع، العاشق للحياة والحضور مازال يطارده الغياب، ومازال يحاصره الموت من كل الجهات، وبالتأكيد، فإن عبد السميع هذا، الباحث عن الفرح وعن العيد، لا تليق به الأحزان، ولا تليق به المأتم والحروب، يا الله، لقد شخت أنا ومازال عبد السميع طفلا كما كان، وشاخ هذا العالم القديم، ومازال لم يتجدد ولم يتغير، ولم يدرك سن الرشد بعد، مازال ذلك الطفل يبحث عن بقعة ضوء، مجرد بقعة ضوء ثغيرة في ظلام هذا العالم، ومازال غائبا في حضوره، ومازال حاضرا في غيابه، مما يدل على أن الزمن الحقيقي للاحتفالية مازال بعيدا جدا، هو بعيدا نعم، ولكن وجوده ليس مستحيلا، لأن المستحيل ليس احتفاليات، وأبدأ بهذا المدخل لأحكي لكم حكاية شخصية احتفالية أخرى، شخصية في الماضي، وتعيش في الحاضر، ومن المحتمل جدا أن نجدها في المستقبل أيضا.. لقد كان من المقرر أن أنهي هذه الكتابة عند حد النفس الخمسين، وذلك حتى أتفرغ لمشاريع أخرى، ولكن ابن الرومي لابد أن يكون له ما بعده.
ابن الرومي احتفالي في زمن غير احتفالي
يقول الاحتفالي، بأن اسوا كل شيء، هو أن تكون جميلا في غير زمن الجمال، وأن تكون عاقلا وحدك بين الحمقى، وأن تكون فارسا خارج زمن الفروسية، وأن تكون نبيا في زمن الدجالين والمشعوذين وفي زمن المهرجين، وأن تكون صادقا في زمن ضيع الصدق والمصداقية، وهذا هو حال شاعر من الناس اسمه ابن الرومي، والذي ظلمته كل الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، وانصفه المسرح وحده، لأنه، وفي حقيقته وجوهره، شخصية مسرحية احتفالية بامتياز.
وصديقي ابن الرومي هذا، ذلك الشاعر البائس، تعرفونه بلا شك، وتعرفون علاقتي القديمة والجديدة والمتجددة به؟
إنه شاعر برتبة إنسان، وهو مبدع بدرجة فنان، وهو إنسان ضاحك بدرجة ساخر، وهو مصور برتبة مؤرخ، وهو أيضا ـ ولضآلة حجمه المادي ـ لا يثقل أرضا، ولا يسد فضاء،
هذا الشاعر الإنسان علمته الأيام المرة أن يكون مرا في رؤيته وفي تشاؤمه وفي خوفه من ذلك العالم المخيف والمرعب، والذي يوجد خلف باب بيته، ولقد علمته الخوف من الآتي غدا أو بعد غد او في اي يوم من الأيام، وتلك الحياة المرة، هي التي علمت هذا الشاعر الإنسان أن يكون مرا في حياته المرة، وأن يكون في نفس الوقت حلوا في حياة شعره الحلو والجميل الممتع والمقنع، خصوصا في صوره الساخرة والكاريكاتورية والضحكة ضحكا كالبكاء، والتي تعكس حقيقة الناس، وتعكس حقيقة جوهر الناس في مسيرة التاريخ الماكرة،
ولقد علمته الأقدار، المجنونة والعابثة والحمقاء، ألا يكون جادا أكثر مما يلزم، أو أقل مما يجب، لقد عاش هذا الشاعر وضعا اجتماعيا ونفسيا قلقا ومضطربا، ومتى كان ذلك؟
كان في عصر السلطة والسلطان، وكان في زمن ضيع العدل والأمان، وبذلك فلقد وجد نفسه، وهو العاشق للجمال والحياة يحيا الحياة على هامش الحياة، ووجد نفسه في مدينة بغداد المترفة يعيش على هامش المدينة، ووجد نفسه، رغما عنه، يقف على هامش المال وعلى هامش أصحاب المال والأعمال، ووجد جسده بين الأجساد في غير مكانه ولا مكانته، يتموقع بشكل ظالم على هامش الحسن والنظام والعدل والحق والجمال، وكتب عليه، وهو العاشق للحياة والحيوية، أن يكون في مسار التاريخ خارج التاريخ، ولقد كان ضروريا أن يكون هذا الشاعر الساهر شخصية غير جادة في زمن غير جاد، وأن يكون عنوانا لصورة سوريالية وعبثية وفوصوبة، وأن يظل معلك وفيا لفلسفته الاحتفالية، والتي هي نفس احتفاليتي، ونفس احتفاليتنا الجديدة والمتجددة،
وإنني أتساءل، ابن الرومي هذا، كما عرفناه وقرأناه وأحببناه، في تلك الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسم (ابن الرومي في مدن الصفيح) هل هو نفس ابن الرومي في التاريخ؟
وجوابا على هذا السؤال تجيبنا شخصية من داخل المسرحية، ونجد المخايل ابن دانيال، ويحدثنا عن عالمه ذلك المتخيل، والذي يتقاطع مع التاريخ، عند أكثر من نقطة واحدة ولكنه لا بد أن يكرره، بكل جزئياته والدقيقة، وفي هذا المعنى يقول ابن دنيال جمهوره المتحلق حول عربته:
(ساحكي عن شاعر فقير مثلكم في أكواخ الخشب والقصدير، سأحكي عن ابن الرومي الجديد.. سادتي امنحونا أحداقا واسعة وسمعا مرهفا، فأنا لست مؤرخا لا، ولست معلم صبيان، وعليه، فإن كل مشابهة مع التاريخ، إن هي إلا اتفاق ومحض مصادفة)
والمسرح عالم مركب، فهو عالم داخل عالم داخل عالم.. إلى ما لا نهاية، وعالم ابن الرومي في هذا العالم المتخيل هي عوالم كثيرة جدا، بعضها أكبر من بعض وأرحب من بعض وأصدق من بعض، ويقتنع بأن أعلى درجة في هذا الوجود هي درجة العشق الصادق، وهي التعدد بالآخر وفي الآخر ومع الآخر.
وابن الرومي هذا، ومن حيث لا يدري، يجد نفسه يحب جاريته عريب، والتي اشتراها في اسواق بغداد، تلك المدينة التي تباع فيها كل الأشياء، ويباع فيها الإنسان أيضا، ولكن الحب الصادق، هل يمكن أن يباع، وأن يشتري، تماما كما تباع كل الأشياء، وكما تباع الضائع والسلع، وهل الحب شيء من الأشياء أو سلعة من السلع ، أم أنه لقاء أرواح حرة شفافة؟ وهل يمكن أن يكون الحب فعلا مقتسما بين مالك وما ملكت يداه؟ أي بين السيد والعبد، وبين المولى والجارية؟
ولأن الحب أساسا حياة وحيوية وحرية وتحىر، فقد أنعم ابن الرومي على جاريته بالحرية، ولأنها، حتى يمكن أن يصبح حبهما ممكن معقولا، وأن يكون بين جسدين وروحين حرين، وبعد أن أعطاها حريتها واصبح من حقها أن تختار، فقد اختارته هو، كما اختارها هي، ولقد عادت إليه وهي حرة، لتحرره من أوهامه ومن مرض روحه نفسه ومن أعطال عقله في بغداد المريضة، وعندما يلتقي عريب في الحلم، وتسأله، في أي زي وفي لون تريد أن تراني أيها العاشق ، يقول لها:
(عشقتك قبل أن تكون الألوان والرداء، لو أحببتك أنت والرداء لجعلتك اثنتين وأنت واحدة، حين أراك لا أرى شيئا سواك، في حضرتك تختفي كل الأشياء، إلا أنت يا عريب)..
وتعيد عليه نفس السؤال مرة أخرى (لم تجبني يا ابن الرومي.. كيف تهواني؟) يكون جوابه (شفافة كالنور، كالضياء، كغمانة وردية صافية، كالنبع بلا لون ولا ظل، أهواك يا جارية.. اهواك عارية) وكل الأرواح الشفافة لا تحتاج إلى غلاف، وهي بهذا عارية من الشكل وعارية من اللون وعارية من الأصباغ وعارية من الأزياء الكاذبة والمزيفة.
وابن الرومي هذا هو الإنسان الغريب، وهو الشخص المغترب في الزمن الغريب، وهو الكائن المنفي، خارج نفسه وخارج عالمه وخارج كونه، وهو السجين، والسجان هو، وليس أي احد سواه، وأفكاره وأوهامه وخيالاته هي أخطر كل قيوده، وهو في عزلته محتاج للرفقة الصادقة والجميلة، ولذلك يقول لعريب:
(امنحيني رفقتك، فنا الآن سجين الاسمنت والحجارة، سجين هذا السقف، سجين بغداد، وسجين وساوسي وأوهامي السقيمة.. من غيرك لا أستطيع شيئا، امنحيني يدك يا امرأة، امنحيني يدك).
هذه الحكاية المسرحية الواحدة، يحكيها لنا أكثر من حكواتي واحد، يحكيها ابن دانيال الأب، وذلك بمنطق الأمس الذي كان، وتحكيها ابنته ومساعدته دنيازاد، وذلك بمنطق هذا اليوم الحي وبمنطق الغد الآتي ايضا، ويحكيها التاريخ بلغته الخاصة، ويحكيها الواقع اليومي، بكل وقائعه ومفرداته البسيطة والعادية، فالأب يقدم ملاحم الأمس، بكل أبطاله الأسطوريين والخرافيين، أما ابنته الشابة، فهي تقدم الملاحم الجديدة باللغة الانسانية الجديدة، معتمدة في ذلك على شخصيات بسيطة وعلى وقائع بسيطة وعلى أحلام بسيطة جدا، في البدء يريد ابن دانيال أن يقدم مسرحية، من منظوره التقليدي، فتتدخل ابنته دنيازاد لتقدم مسرحية أخرى مختلفة ومخالفة، مسرحية أقرب إلى أسئلة الناس اليومية، وإلى مسائله، وإلى قضاياهم الاجتماعية والفكرية، وهذا ما يجعلها تقول:
(ساحكي عن الملاحم الجديدة، عن حاملي المشاعل والبنادق، عن زارعي الزيتون والورد والبرتقال، عن سواعد ترفع للسماء غدا وتهدم أمسا).
وابن الرومي هذا، الخائف من نفسه، والخائف على نفسه، والخائف من جيرانه، والخائف من الآتي المجهول، والخائف من المدينة المرعبة، والخائف من الأيام ومن الليالي والخائف من الحياة ومن تكاليف الحياة، هذا الشاعر والخائف هو الذي قال في لحظة وجد صوفي:
(آه لو كنت أقرا الرمل والكف
لأنزع عن عيوني الأسيرة
حديد القيد والقفل
آه لو كنت بحارا من فنيقيا
لأرحل في أحداق ساعة
أطوف الغد والآتي
ثم أعود بالنبأ).
ابن الرومي كما قرأته وكما درسته
وابن الرومي هذا، كيف عرف طريقه للمسرح، أو كيف عرف المسرح طريقه إلى هذه الشخصية الدرامية؟ وأي شيطان دلني عليه، وأوحى لي به؟
هو شاعر من كوكب الشعراء، ولعل أجمل وأصدق ما في المسرح، هي عالمه وهي ومناخاته، وهي غايته الشعرية الناطقة والصادقة والحارقة، وهي شخصياتها التي تلتقي فيها الحكاية والأسطورة، ويتقاطع فيها الحلم والواقع، ويتحاور فيها الكائن والممكن مع المستحيل.
في البدء كان ابن الرومي درسا في المدرسة، وكان قصيدة في الرثاء، وكان بكاء قبل أن أكتشف جانبه الضاحك والمضحك والساخر من مفاقات الدنيا، والضحك من حماقات وجنون بعض الناس..
ويبقى أن أشير إلى الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن من حبب إلي هذه الشخصية الدرامية، هو أستاذ كل الأساتذة عباس محمود العقاد، وذلك في كتابه (ابن الرومي حياته من شعره).
ومن خلال شعر هذا الشاعر، تعرفت عليه، واقتربت منه أكثر، وأحببته، وتعرفت على أصدقائه وعلى جيرانه أيضا، وتعرفت على مدينة بغداد التي عاش فيها، وعلى بغداد الأخرى التي عاشت بداخله، وهو الذي اقترح علي جحظة المغني، واقترح علي عيسى البخيل، واقترح علي دعبل الأحدب، وهو الذي عرفني بوحيد الجارية، والتي أصبحت في المسرحية تحمل اسم عريب الشاعرة والقيمة والحكمة والمرأة المتمردة.
هذا الشاعر كان في شعره إعلاميا، وكان مصورا، وكان موثقا، وكان مؤرخا لحياة الناس البسطاء، وكان مسرحيا من حيث لا يدري، وفي إحدى دعاباته الشعرية البريئة، نجده يقول في (صديق) له:
يطول يومي إذا قرنت به كأنني صائم ولم أصـم
حقا، ما أطول أيام الصائمين، وما أطول ساعات المنتظرين، وما أروع هذا التشبيه الذي يعبر عن فقر الشاعر وعن جوعه، ولقد كتب على ابن الرومي أن يصوم كل الأيام، سواء أكانت من شهر رمضان، أو كانت من الشهور الأخرى، ومثل هذا التشبيه، لا يمكن أن يكون بريئا أبدا، لأنه يكشف عن زوايا الحرمان في حياة هذا الشاعر الساخر، والذي اكتوى في حياته اليومية بنار الفقر والبؤس والحرمان، ومتى كان هذا؟ في زمن الوفرة والغنى والترف لحد البذخ، ولقد اضطر ابن الرومي لأن يؤمن بالخرافات وبالسعد وبالنحس وبالمكتوب الخفي، ومتى كان هذا؟ في زمن العلم والآداب والحكمة، وفي زمن الفلسفة والترجمة، إن الأساس في هذه الأيام التي نحياها، هو أنها كلها تقاس بمقاس واحد، ولكن الإحساس فيها وبها ليس واحدا، ومن منظور النسبية السيكولوجية، والتي هب الوجه الثاني للنسبية الفيزيائية عند اينشتاين، فإن كل الأشياء يمكن أن تتغير، وأن يكون لها اكثر من وزن وأكثر من طول، وأن تصبح لحظة المحرومين والمنتظرين والخائفين هي الأطول، وتكون هي الأقل، وتكون هي الأكثر بطئا من لحظات السعداء ومن ساعات الفرحين ومن لحظات المحتفلين والمعيدين، ولقد فرض على ابن الرومي على ألا يكون منهم.
إن هذا الشاعر الذي رافقني لعقود طويلة، والذي دخل معجم شخصياتي المسرحية في لحظة إشراق روحي، لم يكن يملك إلا جسده النحيل، ولم تكن معه غير شاعريته الجياشة، وغير عشقه الكبير للحياة، وغير تعلقه بالجمال، سواء في بعده المطلق أو النسبي، ولم يكن قادرا على ألا يحب الملذات، سواء في الأكل أو الشراب، أو في الأصوات والألحان والكلمات والعبارات، لقد استدعاه مرة ابن الحاجب ليتناول الطعام على مائدته، وجاء الشاعر في الموعد، أو ربما قبل الموعد، ولكن صاحب الدعوة استتر منه، وأمر خادمه بأن يتكلف بالأمر، وأن يقوم ( بالواجب) هذه الصورة خلدها الشاعر في بيت يقول فيه:
نجاك يا ابن الحاجب الحاجب وأين ينجو مني الهارب؟
وابن الرومي الشاعر، لم يكن في نباهة أو في مكر أو في وقاحة ذلك السائل المحترف، والذي قصد بيت أحد النحاة، وطرق الباب، وانتظر أن يأتيه عطاء أهل البيت، ومن وراء الجدران يسأل ذلك النحوي:
ــ من بالباب؟
ويرد الرجل:
ــ سائل..
ويقول النحوي بلهجة الأمر:
ــ يصرف..
ويعود السائل الماكر ليقول:
ــ اسمي أحمد
ويدرك النحوي أن أحمد ممنوع من الصرف، ولذلك لم يجد بدا من أن يعطيه عطاء..
والدعابة (البريئة) قد لا تكون بريئة كل البراءة، وقد تصل ـ في حالات كثيرة ـ إلى درجة الهجاء، أو إلى مستوى التجريح، ولقد هجا الحطيئة ( كل) الناس، ولعن ( كل) الوجوه، وانتهت به رحلة الهجاء إلى السخرية من بشاعة وجهه.. يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بسوء فلست أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجا قبح الله خلقته فـقـبح من وجــه وقـبـح حـامـلـه
أما الزجال المصري عبد الله أحمد عبد الله، والمعروف بميكي ماوس، فإنه لم يبلغ هذه الدرجة من القسوة على الذات، ولقد كان كل ما كتبه هو مونولوج ساخر وضاحك، وقد غناه الممثل والمنولوجيست الشهير إسماعيل يس، وفيه يقول:
ربي خـلقني وربي نشأني
حـاجـة أنتيكه بـشـكـل غـريـب
سحنة يا افندم وحشه وديه
سحـنـة عـجيـبة بـشـكل كـئيـب
ولكم أن تتصورا إسماعيل يس وهو يتغني بجماله بهذا الشكل، ويقدم عن نفسه هذه الصورة الكاريكاتورية العجيبة..
أما صديقي ابن الرومي، فإن دعاباته كانت في أغلبها غيرة على الجمال، وكانت تعلقا بصورته المثالية، وكان لهذا الجمال صور كثيرة تتجلى كلها في الأصوات المنشدة، وفي الصور المتناسقة، وفي المذاقات الطيبة، وفي الأخلاق النبيلة، وفي المعاملات المتوازنة والنببلة، ولهذا، فقد اعتبر الصلع في الرأس شكلا من أشكال القبح، ونوعا من أنواع الاختلال في الصورة، ورآه عنوانا صارخا على الفوضى، وعلى غياب التوازن والعدل، خصوصا إذا كان هذا الصلع يتعارض مع كثافة في اللحية، وفي غزارة شعرها.. يقول ابن الرومي في رجل أصلع:
فوجهه يأخذ من رأسه أخذ نهار الصيف من ليله
هذه الصورة، تقترب كثيرا من تلك الصورة التي أعطاها بيرنارد شو لفوضى العالم، والتي تتجلى في وجهه ورأسه: لحية طوية جدا في الوجه، وغياب شبه كلي لأية شعرة في الرأس، ولهذا، عندما سألوه كيف ترى العالم، وجد نفسه يقول كلمته المشهورة:
ــ هذا العالم مثل رأسي ولحيتي، غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع
لقد كان من العدل إذن، وحتى تكون الصورة جميلة ومنطقية، وتكون متناسقة المقاطع والحروف، أن يبقى الوجه وجها، وأن يكون الرأس رأسا، وأن يكون الشعر مقتسما بينهما بالعدل والإحسان، وألا يأخذ هذا من ذاك (أخذ نهار الصيف من ليله) أو أخذ الغني من فقيره، أو أخذ الغرب من شرقه، أو أخذ الشمال من جنوبه.. إن الأساس دائما، سواء في علم الأشياء، أو في عالم الناس، هو أن يوضع الشيء المناسب في الموضع المناسب، وأن يكون الشخص في مكانه الحقيقي، وأن يجد المكانة التي هي أهل له، وهو أهل لها.
والمفروض في الكائن الإنساني أنه حيوان يمشي، ولكن، ما قول ابن الرومي، عندما يكون هذا الفلان أو ذاك، مربعا أو مستطيلا أو مكعبا أو مثلثا أو مدورا؟ ما قوله إذا وجد نفسه أمام شخص يصعب معه التمييز فيه بين الطول والعرض، وتختفي ساقاه وقدماه تحت جبته؟ إن هذا المربع أو المدور لا يمكن أن يمشي، كما يمشي كل الناس، ولكنه من الممكن أن يدحرج أو أن يظهر، وكأنه يتحرك على عجلات، وفي هذا يقول ابن الرومي:
على أنه جعد البنان دحيدح إذا ما مشى مستعجلا قيل يدحرج
وهكذا هو حال بعض الناس في دنيا الناس، فهناك من يمشي على الأقدام، ولا يصل، وهناك من يدحرج على العجلات، ويصل قبل كل الناس..
وآخر الكلام، هذه صور صغيرة غير جادة، كان القصد من ورائها أن نلج الفضاءات الجادة فيها، وأن نحاول الوصول إلى أعماقها البعيدة، وأن نتمثل كل أبعادها ومستوياتها الخفية، وأن ندرك في الكتابة والحياة نقطتهما القصوى والعليا .. أي النقطة التي (تتلاقي عندها المختلفات والمتناقضات والمتضادات) وبهذا تصبح كل الصور، كيفما كانت، وأينما كانت، ذات معنى وذات مغزى..
آخر الكلام
وقبل الختم، أرى من الضروري أن نترحم على روح هذا الشاعر الكبير، وأن نشكر وزارة التربية والتعليم في المغرب، والتي أنصفته، والتي أعادت له اعتباره، وأن نشكر كل الأساتذة الذين درسوه بحب، وأن نشكر كل التلاميذ الذين شخصوا كثيرا من مشاهد المسرحية، وأن أشكر كل المخرجين الذين ترجموا هذه المسرحية ترجمة بليغة، وفي مقدمتهم المخرج المسرحي نجيب غلال، والذي اختار الممثل الكبير عبد الرحيم إسحاق ليكون هو ابن الرومي، ولقد كان في تشخيصه مقنعا وممتعا إلى درجة الإعجاز، رحمك الله أيها الفنان الذي كانت خئبات المسارح تهتز تحت قدميه، تماما كما كانت تهتز تحت أقدام كثير من الممثلين الكبار في المغرب وفي العالم العربي، كما أشكر صديقي المسرحي الحزائري نور الدين بللا، والذي أعطى للمسرحية حياة أخرى، بأعمار أخرى في تيندوف، وأول إخراج لهذه المسرحية كان من توقيع أخي وصديقي المخرج عبد الحق التمسماني مع جمعية النهضة الثقافية بمدينة الخمسات، كما يمكن أن نشير إلى إخراج واحد من أكبر وأصدق المخرجين في المغرب، والذي هو الفنان الشامل الحاج محمد التسولي.
Visited 64 times, 1 visit(s) today