في آخر صيف سنة 1984، جاء طلال سلمان إلى المغرب والتقينا به، نحن مجموعة من الصحفيين المغاربة في الدار البيضاء. كان اللقاء أولا في فندق “سفير” بشارع الجيش الملكي (حاليا فندق “غولدن توليب فرح”). وقد اتخذناه، زمنذاك، مكانا للقاءاتنا المسائية التي كنا نتحلق فيها كعصابة متأهبة حول “العراب” عبد الله الستوكي، وكان آنذاك مديرا للمجموعة الإعلامية “الليمون”، التي تولت إصدار صحيفة يومية باللغة العربية، ومجلتين أسبوعيتين بالعربية والفرنسية، ومجلة شهرية اقتصادية بالفرنسية. وهي مجموعة صحفية أطلقها في سنة 1983 الحزب الجديد “الاتحاد الدستوري”. لم أكن منتميا لمجموعة “الليمون”، لكني بقيت محافظا على علاقة الزمالة والصداقة الإنسانية التي ربطتني بجل أعضاء الفريق.
اختيار فندق “سفير” راجع إلى كونه يطل على مبنى أقسام كلية الحقوق بالدار البيضاء التي كانت ملحقة بجامعة محمد الخامس في الرباط، قبل أن تتحول إلى مكاتب إدارة شركة النقل “الساتيام”، ثم أصبحت بعدها مقرا للمجموعة الإعلامية “الليمون”، بفضل تدخل مدير الشركة عبد الله الشرفاوي المقرب من المحجوب بن الصديق زعيم المركزية العمالية الاتحاد المغربي للشغل والمحامي الاتحادي المعطي بوعبيد، من سيؤسس حزب “الاتحاد الدستوري”.
كنا نلتقي بالمعطي بوعبيد في فندق “سفير”، أو نجالسه في مقهى “الساتيام”، ومقهى “لاشوب” بشارع الأمير مولاي عبد الله (بليز باسكال سابقا)، حيث كان المعطي يحب أن يتمشى في هذا الشارع المبلط والخاص بالراجلين، من دون أي حماية أمنية، حتى بعد أن صار وزيرا أولاً ووزيرا للعدل في نفس الآن. فقد ظل المعطي بوعبيد محافظا على عاداته اليومية كبيضاوي أصيل من أولاد درب السلطان، ويعيش حياته الطبيعية قبل الاستيزار، ومنها حضوره مباريات كرة القدم حين يلعب النادي العريق الرجاء البيضاوي، وكان من أبرز مسيريه، إذ كان المعطي يجلس على كرسي الشرط مع اللاعبين الاحتياطيين والفريق التقني، بل إنه استمر وهو مسؤول سامي في الحكومة، في الوقوف جنب خط الشرط في ملعب المركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء، ليصيح في هذا اللاعب الرجاوي أو ذاك، طالبا منه أن يتقدم صوب الهجوم، أو لينتقده على تضييع فرصة سانحة للتهديف.
لما حضرت ذلك المساء من نهاية صيف 1984، وولجت الصالون الكبير لفندق “سفير”، وجدت صاحب “السفير” ورئيس تحريرها الأستاذ طلال سلمان جالسا مع المعطي بوعبيد ومع صاحب “البلاغ المغربي” الصديق محمد بنيحيى، هو من عرفه على الشلة، يتحلق حولهم عبد الله الستوكي ومحمد الأشهب وعبد القادر شبيه وناديا برادلي وعبد الحي أبو الخطيب، وأعتذر عن نسيان اسم أو اسمين.
أذكر أن الوزير الأول ودعنا مبكرا في تلك الأمسية راجعا إلى العاصمة، فانتقلنا ليلا إلى شاطئ عين الدياب لنكمل سهرتنا في فندق “رياض السلام”.
ولأن الجلسة كانت تضم قرابة عشرة أشخاص، فقد اختلطت الأحاديث البينية وغطتها الموسيقى الصاخبة، ولم أعد أذكر المواضيع التي تداولناها.
فترة نقاهة
إلا أن ما لا يمكن لي نسيانه هو مناسبة زيارة الصحفي العربي واللبناني الكبير إلى بلادنا في تلك السنة. لم تكن زيارة لحضور مؤتمر قمة عربية أو إسلامية من تلك القمم التي حرص الحسن الثاني دائما على استضافتها ورئاستها في المغرب، ولا مناسبة إعلامية أو ثقافية، بل كانت زيارة خاصة أراد منها الأستاذ طلال سلمان أن يمضي فترة نقاهة، ليس بعد معافاة من مرض، بل أتت إثر إفلات من الموت، إذ نجا طلال سلمان بأعجوبة من محاولة اغتيال حدثت أمام منزله في منطقة الحمرا في منتصف شهر تموز/يوليو1984، وأصيب في أنحاء من جسمه، منها جرح واضح في الفك.
سبقت هذه المحاولة عدة عمليات اعتداء استهدفت منزل طلال سلمان ومطابع “السفير” بصواريخ موجّهة وبسيارة مفخخة. لكن كل هذه المحاولات لإخراسه لم تنفع معه للتراجع عن مواقفه الثابتة التي اختار التعبير عنها بالقلم وبالكلمة زهاء أكثر من نصف قرن من ممارسته العمل الصحفي ومن الصمود أمام هول المصاعب والعواصف الهالكة.
أذكر أيضا أننا قضينا سهرة ثانية مع الأستاذ طلال سلمان في “شقة العجائب” كما كنا نسميها، بممر “سوميكا” الرابط بين ساحة 16 نوفمبر وشارع محمد الخامس، في ضيافة الفنان أحمد السنوسي.
مما علق بذاكرتي حول طلال سلمان شخصيته الكاريزماتية وهدوءه البليغ، وإجادته لفن الإنصات برقي ومهارة. عندما يتكلم طلال سلمان يكون ذلك بكلمات تنأى عن الالتباس، تعكس مدى امتلاكه لثقافة واسعة ورؤية واضحة، وتؤكد لك ما راكمه من تجارب إنسانية ومهنية غنية تختزنها ذاكرته الموشومة.
ولا زالت بعض صور تلك الليلة في أرشيفي الخاص، وهي من إنجاز أشهر المصورين الفوتوغرافيين في المغرب في تلك الفترة: الراحل امحمد مجاهد.
تركت لقاءات الأستاذ طلال في المغرب مع الأصدقاء واحتفاؤهم به كرمز من رموزنا المضيئة، اعتزازا كبيرا في نفوسنا، وأعتقد أنها خلفت لديه أيضا بعض الارتياح والفرح في صدره، يستنتج ذلك من بعض النكات التي حكاها لنا ومن سخريته الباسمة.
لوموند العرب
طلال سلمان اسمه يسبقه. وجريدة “السفير” كانت تصلنا بالبريد في جريدة “المحرر” بشكل منتظم، قبل أن تصبح متاحة للقراء في الأكشاك المغربية. وكنا نتهافت على تلقيها ومطالعة مواضيعها بشغف. كما كنا نشبه مقالاتها الغنية والمتنوعة بمستوى صحيفة “لوموند” الباريسية، بل كنا نعتز ونفتخر بها ونصفها بـ”لوموند العرب”.
خلال لقائي بالأستاذ طلال سلمان قبل يومين، في بيروت، اكتشفت أن ذاكرته لا زالت تحتفظ ببعض الذكرى من تلك الزيارة البعيدة، وسألته إذا ما كانت هي الأخيرة، فأخبرني أنه سافر إلى المغرب بعدها، بصحبة مجموعة من رفاقه في هيئة تحرير “السفير”، زاروا خلالها أهم المدن الرئيسية للبلاد، وأضاف أن للمغرب مكانة خاصة لديه، خصوصا عبر الصداقات الحقيقية التي نسجها مع جزء هام من نخبته النضالية والفكرية.
بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء
تميزت “السفير” بشعارها: “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”، وشكلت ثورة إعلامية وموقفا سياسيا، و”صوت الذين لا صوت لهم”. ومنذ صدورها سنة 1974 خاضت معركة حرية الصحافة وتعرضت مرات للحجز والتوقيف وللعديد من الدعاوى القضائية.
وواصلت “السفير” الصدور خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وكانت عناوينها اليومية تعاد كتابتها على جدران بيروت، كواحدة من علامات صمود هذه المدينة. وأشهر هذه العناوين: “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء”.
ومن بين كتابها محمود درويش وسعدي يوسف وبلال الحسن وجوزيف سماحة والصافي سعيد والفضل شلق ونصري الصايغ، وغيرهم من الكتاب والمثقفين العرب الملاحقين من أنظمة الاستبداد والهاربين الى رحاب بيروت الحرية والإبداع.
وتميزت “السفير” برسوم الفنان الشهيد ناجي العلي، الذي التقى به طلال لما اشتغلا معا في مجلة “الحرية” الناطقة باسم “حركة القوميين العرب” تحت رئاسة تحرير الأستاذ محسن ابراهيم. هناك تسنّى لطلال سلمان أيضا أن يتعرف على الشهيد غسان كنفاني وتنعقد بينهما صداقة متينة.
وكان الصحفي المغربي الكبير محمد الباهي يكتب لـ”السفير” من باريس، وربطته علاقة وطيدة بالأستاذ طلال سلمان وتعرفا على بعض لما زار محمد الباهي بيروت أول مرة برفقة أسرته.
الشهيد المنكورة عليه شهادته
لما طرح على محمد الباهي موضوع العودة إلى المغرب برفقة المناضل محمد الفقيه البصري، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كان طلال سلمان من أقرب الناس إليه الذين استشارهم الباهي في أمر إنهاء سنوات المنفى الطويلة.
يتذكر طلال سلمان أن الباهي قال له بحسرة:
– أتعرف معنى القرار؟ إننا نعود لنموت في المغرب.
وكان رد طلال سلمان هو:
– ولكننا نموت في منافينا ألف مرة كل يوم. ونموت بلا مشيّعين. إلى متى سنظل نسافر بين الموتَيْن ولا نعثر على حياتنا؟
وتحققت نبوءة الباهي، إذ سيموت بعد عام من عودته إلى المغرب. ويا للمصيبة! كانت وفاته مؤامرة دنيئة تلطخت فيها أيادي من اعتبروا من الرفاق، الذين لم يترددوا في غدره ورميه في “سلة العقارب”، وفق تعبير الصحفي حميد برادة في مقال نشرته “جون أفريك” الباريسية بعد رحيل الباهي.
تركت وفاة محمد الباهي في بداية صيف عام 1996، أثرا بليغا وحزنا عميقا لدى صديقه اللبناني طلال سلمان. وبعد عشرين سنة، كنا ننتظر في المغرب وصول صاحب “السفير” إلى الرباط للمشاركة في ذكرى رحيل محمد الباهي التي احتضنتها قاعة المحاضرات بوكالة “لاماب” وأشرف عليها عبد الرحمن اليوسفي. إلا أن أسبابا قاهرة حالت دون سفر طلال إلى المغرب، لكن “أبو أحمد” لم يتأخر يومها في نشر شهادته على صفحات “السفير”. كانت نكأً متجددا لجرح لم يندمل، ومرثية آسرة امتزج فيها الشعر بالأدب الوجداني بالحزن بالوفاء والدمعة الحارة. وصف فيها طلال سلمان رفيقه الباهي بـ”الشهيد المنكورة عليه شهادته”، وناداه بـ”الصديق الذي تكاد تختزل أجمل ما في الحياة: الفوضى”.
ومما كتبه طلال سلمان في العدد المصادف للذكرى في شهر أيار/ماي 2016: “لطالما قصدت باريس شوقاً إليك فيها وتعرفاً إليها فيك. كنت أرى فيك الوطن العربي جميعاً من اليمن الجاري اغتياله إلى موريتانيا التائهة عن أهلها… بل إنني كنت أتعرّف على هذا الوطن عبرك: من عراق ما قبل صدام إلى سوريا ما قبل الأسد، ومن مصر ما قبل السادات إلى الجزائر ما قبل بومدين، ومن مغرب محمد الخامس إلى الإخوة شركاء المصير في أفريقيا بعنوان السنغال ونهرها”.
***
أعترف أن الجلوس والاستماع إلى الأستاذ طلال سلمان من جديد سرني كثيرا، كيف لا وأنت أمام هرم من أهرامات الإعلام العربي وفي ضيافته ببيروت.
كانت مناسبة رائعة ساد فيها الحديث حول زمن خيبات التطبيع. جلسة صادفتُ فيها أصدقاء أعزاء من أهل القلم وأصحاب الرأي المتألقين في بلد الأرز، مثل المفكر الكاتب الفضل شلق، الكاتب الساخر فيصل سلمان (شقيق طلال)، الطبيب زهير برو، الشاعرة الشامية نوال الحوار، أحمد وربيعة (نجلا طلال)، وعدد آخر من أصدقاء “السفير” ممن لا يغيبون عن “جلسة الخميس” الأسبوعية التي لم تتوقف برغم توقف الصحيفة عن الصدور منذ أربع سنوات.
برغم كل شيء، ما زالت بيروت تحمل اسمها ويمكن لك أن تتنسم في هوائها حرية، بفضل أمثال طلال وصحبه.