أنا والمسرح وتطوان التي في خاطري
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
يقول الاحتفالي، المؤمن بالحب والجمال والحياة، بأن أجمل الحب هو ماكان فعلا متبادلا ومقتسما، وكان فيضا بلا حدود وبلا ضفاف، وبالمقابل، فإن أسوأ كل الحب هز ما كان من جانب واحد فقط، وكان ضيقا، وكان له ومسار واحد واتجاه واحد، والذي قد ينطلق من الذات، ويعود اليها، وهذا هو حال العاشق النرجيسي، والذي يختزل كل العالم في ذاته، ومن حقنا نحن الأحياء ان نعشق كل الأجساد الجميلة والنبيلة، وان نعشق بعض الفضاءات والأمكنة والأزمنة الحية، ونكون سعداء جدا لو تبادلنا هذه الفضاءات حبا بحب، وأن تبادلنا وفاء بوفاء، وهذا هو حال الاحتفالي مع كثير من المدن المغربية والعربية والعالمية، والتي تفيض حسنا وجمالا، والتي تنطق وتنكتب بكل اللغات الإنسانية الحية.
هل لديك شيء ثمين تصرح به؟
والكاتب الايرلندي اوسكار وايلد، عندما ذهب إلى أمريكا وسألته الجمارك هل لديك ممنوعات، قال لهم معي إنسانيتي، وهل إنسانية الإنسان يمكن أن تكون من الممنوعات؟
وهل التعييد الاحتفالي داخل الفضاء الاحتفالي، يمكن أن يعد من الممنوعات والمحرمات؟
وصديقي عبد السميع بن عبد البصير، تعرفونه بلا شك، فهو ذلك المسافر الذي تعرفه كل مطارات العالم، والذي يسافر بلا حقائب، وهو في تلك الاحتفالية المسرحية التي اعطت نفسها اسم (اسمع يا عبد السميع) لا يتوقف لحظة عن البحث عن الناس في المدن الأخرى، وفي الأوطان الأخرى، وهذا العبد السميع، عندما كانت توقفه الجمارك في كل مطارات العالم وتساله:
(هل لديك شيء ثمين تصرح به؟) كان يقول لهم: (معي وطني). ويريهم صرة بها تراب وطنه، والذي يحمله معه في كل أسفاره، وهو بهذا لا يسافر وحده، ولكنه يسافر ومعه كل وطنه المختزل في صرة صغيرة بها تراب الأرض التي أنبتته، وهو في سفرياته يطوف كل بلدان العالم، وانني أنا، د. الكاتب المفكر المسافر، فد كنت في الأيام الأخيرة في ضيافة مدينة اسمها تطوان، ولم يكن معي في رحلتي غير عشقي للناس وللمدن وللمسرح ولأهلي ولرفاقي في المسرح، ولقد دام المقام ثمانية أيام، هي أيام المهرجان الوطني للمسرح في دورته الثالثة والعشرين، وما أجمل أن تحتفل بالمسرح وفي المسرح، وأن يكون ذلك في أيام المسرح، وان تجدد اللقاء بأهل المسرح وبأحباب المسرح وبرفاق المسرح.
والأساس في الاحتفالية هو أنها سفر وجودي، وأنها مسار فكري، وأنها بحث دائم ومتجدد عن الفرح الإنساني الممكن، وهي بهذا رؤية عيدية للوجود قائمة على المثلث التالي:
– إنسانية الإنسان أولا
– وحيوية الحياة. حتى هي أولا، وليست ثانيا في الترتيب
– ومدنية المدينة، ليست ثالثا في سلم الأولويات الاحتفالية
والمدينة لديها هي العمران البشري، وهي الإنسان الحي في الزمن الحي، وهي البيت الذي نسكنه نحن في لحظة عابرة، ويسكنها هو في كل الساعات واللحظات والأعمار، والمدينة أساسا هي الحياة، وهي الحيوية، وهي المدنية التي تعكس عبقرية الإنسان إلى جانب عبقرية الطبيعة، وهي الفعل والفاعلية أيضا، وهي الانفعال والتفاعل، وتطوان، في الجغرافيا البشرية، تمثل هذه المدينة الاحتفالية الحقيقية، وذلك قبل أن تكون مكانا وفضاء ومجرد هندسة في الفراغ، فهي أساسا نظام كامل ومتكامل، نظام في العيش والحياة، وهي أيضا شبكة علاقات إنسانية، جميلة ونبيلة، وهي أبواب وشرفات عالية تطل على العالم، وتطل على التاريخ الذي كان، وتطل على التاريخ الآتي، الممكن والمحتمل، وهي بهذا عناوين وعلامات، وهي رموز وإشارات تحتاج لمن يحسن قراءتها قراءة عالمة، وهي لغات وابجديات، وهي أسس فكرية وأخلاقية ثابتة، وهي مؤسسات تربوية وعلمية راشدة، وهي أخلاق ومعاملات، ونعرف أن كل مدينة لها اسمها، ولها عطرها، ولها ظلها، ولها عنوانها، ولها هندستها، ولها موقع محدد في العالم، ولها وجود في الجغرافيا وفي التاريخ، وهذا ما ينطبق على مدينة تطوان، والتي يعني اسمها الأمازيغي تطاون، والتي تفيد العيون، ويبقى السؤال، هل يتعلق الأمر بالعيون التي ترى وتبصر، أم بالعيون التي يتفجر منها الماء، أم بالعيون التي تعني الملاحظة، وتعني المخاربات؟ وبالتاكيد فهي كل هذا، وهي أكثر من هذا بكثير.
التعييد المسرحي في مدينة روحها المسرح
وقبل الحديث عن المسرح، في الفن والعلم والفكر والصناعات، فقد وجدت نفسي مضطرا لأن أتحدث عن مدينة تطوان أولا، والتي لدي على أرضها خطوات مشيتها، ولدي فيها صور وذكريات، ولدي فيها حالات ومقامات، ولدي فيها أحباب في الله، ولدي فيها رفاق صادقين في طريق البحث والحقيقة، وفي طريق الجمال والكمال، وفي مقدمتهم الكبير احدادو، والكاتب الأنيق د، الطيب الوزاني، والمخرج التجريبي يوسف الريحاني، والممثل القدير عبد السلام الصحراوي، والدكتورة فاطمة الزهراء الصغير، والمخرج السينمائي مصطفى الشعبي، والباحث د. مصطفى ستيتو.
وتطوان التي دخلتها الأسبوع الفائت، مع كتيبة كبيرة من المسرحيين المقاتلين والصادقين، مازالت كما كانت؛ حمامة بيضاء، ولو كانت، لا قدر الله، حمامة سوداء لكانت غرابا وليست حمامة، ولذلك أقول بأن من سماها حمامة بيضاء، كان محقا جدا في هذه التسمية. والتي تليق بها بكل تأكيد.
وتطوان المدينة، كما كل الأجساد الحية في الحياة، يحدها حدان اثنان; حد الزمان وحد المكان، وعندما أعود إليها اليوم، يسبقني شوقي إليها، فانني أجد معالمها مازالت في مكانها، ولكن بعض علاماتها الإنسانية الكبرى قد رحلت، وفي هذا المعنى يجرى على تطوان ما يجري على كل المدن والقرى في العالم، وهي موجوة بهذا بين وفاء المكان وغدر الزمان، وبين حد الحضور وحد الغياب أو حد التغييب، فهذا المكان هنا، مازال كما كان، وفيا لمكانيته ولجغرافيته، وهو لا يبتعد عنه ولا يغادره، ولكن مولانا الزمان قد فعل ويفعل بالناس فيها الأفاعيل، ولقد وجدت كثيرا من الأسماء من أهل هذه المدينة ومن أحبابها ومن عشاقها غير حاضرة، وتساءلت كيف يحضر المسرح وأهل المسرح في مدينة تطوان ويغيب عاشقها الفنان التونسي والعربي الكبير عبد الغني بن طاره رحمه الله؟
ولأن من طبع المكان الوفاء، ومن طبع الزمان الغدر، فقد كان الشاعر الجاهلي يبدأ دائما ببكاء الأطلال، وكان الشاعر يجد كل مخلفات الناس، ولكنه لا يجد الناس، ويجد أن الذين يحبهم قد رحلوا، ولكن بيوتهم التي تحولت إلى مجرد أطلال مازالت في مكانها.
والمدينة في الاحتفالية هي التمدن، وهي بهذا ليست عكس القرية، ولكنها عكس الغاب وعكس شريعة الغاب، وبهذا فهي الحرية وهي المسؤولية، وهي التعايش وهي التساكن، وهي المشاركة والاقتسام، وهي التعييد والاحتفال، وبهذا فقد كانت بها ساحات وحدائق وحمامات عمومية للتطهر والاغتسال، وهي الحوار والجدل أيضا، وهي الغنى في التعدد وبالتعدد، وهي الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية، وهي العقل والعقلانية، وهي جسد ووجدان وروح، وما أكثر المدن اليوم التي هي مجرد أحجار فقط، ومجرد اسمنت وحديد وحجارة، ومجرد صور ومشاهد تفتقد إلى الحياة والحيوية.
وتطوان هي مكان وفضاء في الجغرافيا ايضا، وهي حالات ومقامات، وهي حيوات وتفاعلات، وهي تحولات داخل كيمياء وفيزياء الزمان، ومن طبيعة هذا الزمان الجديد العجلة والسرعة، والوقت فيه يمضي بسرعة إلى حيث لا ندري، ونحن نعشق هذه السرعة، من غير أن نعرف بأنها تخزل اعمارنا، وأنها تختزل احساسنا باللحظة التي نكون فيها، زمن غير أن نستمتع بها، ومن غير أن نعيشها لحظة بعد لحظة، وصورة بعد صورة، وحالة بعد حالة.
الأيام تفرقنا والمسرح يجمعنا
يؤكد الاحتفالي على الحضور الجماعي، وذلك من خلال النحن ومن خلال الآن، ومن خلال الهنا الحغرافية، وهي دعوة مفتوحة للتلاقي وللحوار والاقتسام، ومن حق الاحتفالي أن يقول لبعض الناس بأنني لا أحبكم، ولكنه أبدا لا يمكن أن يقول لهم أكرهكم، لأن الكراهية قبح ومرض وعطب نفسي ووجداني، ولهذا فقد خالف هذا الاحتفالي مايكوفسكي شاعر الثورة الروسية، والذي قال يوما (من ليس معنا فهو ضدنا).
ونفس هذا القول، والذي يختزل كل الألوان في لونين، وكل الناس في رجلين، وكل المواقف في موقفين، نجده في عقيدة كثير من السياسيين ومن المفكرين المغاربة والعرب، والذين يؤمنون يؤمنون بالقوالب الجامدة، والذين يقولون لك، كن معنا، ولا تكن مع الضالين ومع الكافرين ومع المارقين،
وعندما نكون في تطوان، وعندما نتحدث عن المسرح في تطوان، فإنه لابد أن نتذكر الأسماء الكبيرة فيها، ابتداء من الزعيم عبد الخالق الطريس الذي كتب للمسرح مسرحية (انتصار الحق بالباطل)، ونتذكر رواد فرقة المسرح الأدبي، والذي يرجع تاريخ تأسيس هذه الفرقة العتيدة إلى سنة 1947، ونتذكر الأستاذ المجذوبي، والدكتور النشناش، ونتذكر المرحوم محمد الدحروش، ونتذكر الأستاذ رشيد الميموني، ونتذكر الرائد والمؤرخ والباحث الأستاذ رضوان احدادو، ونتذكر الكاتب المسرحي الطيب الوزاني، ونتذكر أخاه المرحوم حسني الوزاني.
لقد غابت وجوه كثيرة، وغابت أسماء كبيرة جدا عن هذه الدورة الجديدة من هذا المهرجان المسرحي، ولكن الملاحظ أن هذه الدورة قد كانت ناجحة، وكانت جادة، وكان صوت مدينة تطوان فيها حاضرا بقوة، بخلاف الدورة السابقة، والتي يجمع الجميع على انها كانت أسوأ كل الدروات، والتي كانت في تطوان نعم، ولكن مع نية تغييب ثقافة وفن وفكر وصناعات هذه المدينة، والتي يذكر الأستاذ رضوان احدادو أنها عرفت المسرح في القرن التاسع عشر الميلادي، وأن بعض أهل تطوان كانوا يمارسون المسرح باللغة الإسبانية في المسارح الاسبانية.
وأعتقد أن هذه الدورة تمثل عودة الروح إلى هذا المهرجان، وتمثل انعطافة كبيرة ومهمة باتجاه الأجمل والأكمل والأصدق، ولقد كان هذا بفضل الإدارة الجديدة التي يمثلها المدير الجديد لمديرية الفنون الأستاذ هشام عبقاري، ويمثلها جيل جديد من المسرحيين الشباب، والتي يأتي في مقدمتها المخرج المسرحي محمود الشاهدي والسينوغراف طارق الربح والممثل سعيد عامل والدكتور عصام اليوسفي وغيرهم.
وفي كلمته يقول مهدي بن سعيد وزير الشباب والثقافة والتواصل:
(يشكل المهرجان الوطني للمسرح تتويجا لسنة مسرحية بأعمال مسرحية من مختلف الأقاليم وجهات المملكة).
أما المدير الفني للمهرجان محمود الشاهي فإنه يقول بأن أهم ما يميز هذه الدورة الجديدة هو نفسها الجديد، إذ تم تعيين إدارة فنية للمهرجان من لدن وزارة الشباب والثقافة والتواصل، بهدف إعادة هيكلة تنظيم للمهرجان، وتاهيل أليات اشتغاله، بما يتناسب مع تطلعات المهنيات والمهنيين، وبما يليق بمسار المهرجان الطويل والحافل بالعطاء).
وفي اليوم الأخير من المهرجان، وعلى هامش فعالياته، تم تكريم الرائد المسرحي التطواني الكبير الأستاذ رضوان احدادو، وذلك من طرف جمعية حماية الأسرة، ولقد سعدت بحضوري لهذا التكريم الباذخ، والذي يعكس ثقافة الاعتراف لدى مثقفي وفناني مدينة تطوان، ولقد كان ضرويا أن أقول كلمة في حق مبدع ومفكر وفنان كبير، عاش حياته يبحث عن الحق، ويدافع عن الحق والحقيقة، ولقد قدمت شهادة في حق مبدع اقتسمت معه نفس الطريق ونفس الاختيارات ونفس الأفكار ونفس الثبات على المبدأ، ولقد اغتنت هذه الجلسة، فكريا وجماليا، بشهادات صادقة وعميقة وغنية، ولقد تفاعل الحضور الذي ملأ كل جنات النادي تطوان الثقافي بشارع محمد الخامس بمدينة تطوان، ولقد قدمت شهادات في حق المحتفى به من طرف الدكتور اسماعيل شاريه والأستاذ عبد المجيد الإدريسي والأستاذ عبد الرحمان زيوزيو والباحث المسرحي الأستاذ محمد أهواري، وتم هذا اللقاء البديع والمقنع والممتع من طرف الأستاذ محند وعمي.
وآخر الكلام، أن لهذا الحديث بقية، فانتظروها.
Visited 26 times, 1 visit(s) today