يوم اغتالوا حسين مروة؟!
يوم 17 شباط- فبراير 1987، اغتال ظلاميو بلادي المفكر حسين مروه. أما لماذا؟ قتل لسببين الأول سياسي، كان النظام السوري قد قرر العودة إلى بيروت ليعيد سيطرته على تلك العاصمة التي وكله تقاطع مصالح إسرائيلية عربية غربية بإدارتها، ولأنه قرر أن تكون المقاومة إسلامية طائفية من لون واحد، بينما كانت حينها مقاومة وطنية لبنانية جامعة من كل الوطن لكل الوطن. رفض يومها الحزب الشيوعي اللبناني المساومة، ولم يعد سراً أن غازي كنعان اجتمع بالشهيد جورج حاوي وإلياس عطا الله، المسؤول عن الجبهة حينها، وطلب منهم إبلاغ سوريا بكل عملية قبل انطلاق عناصرها، إلا أن قيادة الحزب رفضت فقررت سوريا ومعها ظلامييها قتل عقل الحزب الشيوعي لتعطيله، فقتلوا كوكبة من كوادره ومفكريه، كان أبرزهم الشهداء حسين مروه، وحسن حمدان مهدي عامل “مهدينا”، وخليل نعوس، وسهيل طويلة. والقتلة هم هم، لم يتغيروا، وهم أنفسهم نفذوا اغتيالات شهداء 14 آذار ، وقتلوا لاحقاً الشهيد جورج حاوي قائد جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
مروة كان يفكر ويكتب خارج السرب الطائفي والمذهبي الذي اجتاح لبنان، وحرص على عدم الدخول والمشاركة في عاصفة الاصطفافات الطائفية المتقاتلة في لبنان.
لماذا قتلوه؟ لأن الشيخ الجليل فضح سواد فكرهم ومهد للنور وقال انه لا تناقض بين ان يكون الانسان شيخا وعلمانيا فهدم على رأسهم الهيكل العفن وأسقط من يدهم الدين كوسيلة، فهم لم يستخدموه يوما لصالح الانسانية بل استخدموه لاستعباد من ولدتهم امهاتهم أحراراً وتحويلهم عبيدا لفكرهم الظلامي…
وبالنسبة لظلاميي العصر معرفة الناس تقلقهم اما ان تكون الناس مثقفة فذلك خطر عليهم وعندما تطالب الناس بحريتها بالتعبير وتواجههم فذلك يستدعي اغتيالاً كما حصل مع الكاتب لقمان سليم وهاشم السلمان، والاغتيال لا يكون فقط بالرصاص، بل يكون ايضاً بالإبعاد واطلاق تهم الخيانة والعمالة كما حصل معي أنا كاتب هذه السطور.
ولد حسين مروة في جنوب لبنان، في العام 1910 وأرسله والده الشيخ علي مروة إلى النجف للدراسة في الحوزة العلمية، على أمل ان يكون أحد مراجع الشيعة في جبل عامل، الإ ان القدر لعب لعبته فإحتك الشيخ بيساريي العراق، المتواجدين بالنجف وكان منهم حسين محمد الشبيبي فتوطدت علاقتهما ودخلا بحوارات شجعت الشبيبي على إعطاء الشيخ حسين كتاب (البيان الشيوعي) الذي قرأه مروة بليلتين حسب ما روى مروة بكتابه، “ولدت شيخاً وسأموت طفلاً”، ساهمت قراءة البيان الشيوعي بزرع البذور الأولى للماركسية في ذهن الشيخ ودفعته لتوسيع قراءاته، وسجلت قراءة البيان بداية معرفته بماركس، فتجرأ الشيخ، وكسر القيود، وبدأ يتحول فكرياً ويأخذ منحى علميا بتحوله، فانقلبت حال الفتى حين قرأ أفكار كارل ماركس وفردريك إنغلز، وكرس في عقله وضميره ضرورة العمل لتكريس العدالة الاجتماعية والانحياز إلى البؤساء في مسقط رأسه، وفي العالم أجمع. وذلك في بداية الأربعينات من القرن العشرين.
حسين مروة كان أيضاً كاتبا صحفيا في عديد المجلات الفكرية، كمجلّة الطريق “الطريق” اللبنانية، وساهم بمقالات عديدة في صحف كالحياة والاخبار والنداء حيث واظب على كتابة عمود يومي في هذه الجريدة أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 بعنوان “الوطن المقاتل”، ولكنه قُتلَ بأياد لبنانية آثمة اغتالته يوم 17 فبراير من عام 1987 وعجزت عن محو آثاره الفكرية والصحفية والسياسية.
هل تعرفون لماذا قتل ظلاميي لبنان في 17 شباط المفكر حسين مروه لأنه كان يريد تغيير مجرى التفكير بالإسلام ولم يكن يريدنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من سيطرة للظلاميين الإسلاميين سنة وشيعة.
ما أحوجنا اليوم في ظل تطرف حزب الله، وداعش، والنصرة، وحتماً أصحاب الفكر الصهيوني الذين يسعون لتكريس دولتهم اليهودية الهوية وقتلهم لآلاف من الشعب الفلسطيني والعمل على تهجيرهم بظل تدمير ممنهج في غزة ومدن الغلاف، تلك القوى التي تبرر أحدها وجود الآخر، إلى فكر ونور حسين مروه، الذي لن نفيه حقه بالكتابة عنه، لأن ما يفيه حقه هو أن نصحو اليوم ونعود إلى نهجه ونطوره ونبني الدولة الوطنية الديمقراطية، بظل الظلاميات التي تجتاح عالمنا العربي، (لبنان، مصر، العراق، تونس، الجزائر، سوريا، ليبيا، اليمن، …)، وهي ظلاميات تتلون حسب الحاجة والطلب، فهي سنية (القاعدة والنصرة وداعش)، تدعونا بدل التقدم بالمجتمع ومفاهيم الدولة وتطويرها لتكون أكثر مدنية إلى العودة 1400 عام إلى الوراء لبناء خلافة لم يبقَ من مجدها إلا السراب، وتمارس باِسمها أعتى أنواع القتل والتعذيب، والسبي، والاغتصاب، للإنسان وروحه، وتسدل حيثما حلت تلك القوى ستارةً من الظلام تشبه لون علمهم الأسود. ويمكن أن تكون تلك الظلاميات شيعية (حزب الله، عصائب أهل الحق، الحرس الثوري، الحوثي)، لتستعيد ثأر الحسين وكأنها تريد أن تجعل من قتله مناسبة لتلحق به كل من بكاه، لا حباً به بل تكريساً لدكتاتورية ولي الفقيه، وحلمه الإمبراطوري الصفوي، الذي قتل باِسمه الشعب السوري، وهجر مدنه ودمرها عن بكرة أبيها، صانعاً أكبر مقتلة بحق شعب أعزل في القرن الواحد والعشرين. من أهم إنجازاته كولي فقيه حلوله بالمركز الثاني بعد الصين من حيث إعدام أصحاب الرأي والفكر.
إن أحداً من المهتمين بالشأن الثقافي لا يجهل الأهمية الفكرية التاريخية لصدور كتاب العلامة حسين مروة “النزعات المادية في الفلسفة العربي-الإسلامية” ولا يجهل الفراغ الذي سده الكتاب، الذي أراده كاتبه موسوعياً، في المكتبة العربية، وبشكل خاص المكتبة الديمقراطية والتقدمية، والمكتبات الفردية للمثقفين بشكل عام، وللنقديين منهم خاصة، هذا عدا طلاب الجامعات وكافة المهتمين بالشأن الثقافي العام. واحد طبعات الكتاب تضم أربعة مجلدات صدرت تحت عنوان عام للسلسلة “النزعات المادية في الفلسفة العربية” غير أن كل مجلد حمل عنواناً خاصاً وعالج موضوعاً واحداً، المجلد الأول: “النزوعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية الجاهلية- نشأة وصدر الإسلام” هذا هو عنوان المجلد أما محتواه فهو عبارة عن مقدمة منهجية للكتاب ودراسة مرحلتي الجاهلية وصدر الإسلام. المجلد الثاني جاء تحت عنوان: “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية المعتزلة-الأشعرية-المنطق” وعالج موضوع علم الكلام عند المعتزلة والأشعرية، ثم علم المنطق الصوري الأسطاطاليسي لكون المعتزلة أول من استخدمه. أما المجلد الثالث فجاء تحت عنوان “النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية تبلور الفلسفة-التصوف-إخوان الصفا”، وفيه تحدث المؤلف عن التصوف وذلك عبر مثاليين فقط هما ابن عربي والسهروردي، ورسائل إخوان الصفا، وقدم نبذة عن تطور العلوم عند العرب، وأخيراً حمل المجلد الرابع عنوان “النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية الكندي-الفارابي-ابن سينا” وفيه تحدث المؤلف عن مرحلة نضخ الفلسفة عند كل من الكندي، الفارابي، ابن سينا.
يا سيد حسن نصرالله هل تتذكر حسين مروه.. هل يقلق ضميرك ذكره وذكر سهيل طويله وخليل نعوس ومهدي عامل.. مثل اليوم قتل الدكتور حسين مروة وهو شخصية فكرية وسياسية واجتماعية عملاقة، شكّلت الكتابة عنده فصلاً إبداعياً وكفاحياً. وقد خاض غمار الكتابة في مختلف الفنون، السياسية والاجتماعية والأدبية والنقدية والنثرية والوجدانية وأبدع فيها.
اغتالته قوى الغدر الطائفية الوثنية الظلامية في بيته دون ان تراعي مرضه وسنه، مستهدفة من وراء هذه الجريمة الدموية النكراء اغتيال وقمع الصوت الديمقراطي الثوري الماركسي الطليعي، الذي آمن به شهيدنا حسين مروة، وتغييب دوره النضالي البارز في معركة الدفاع عن حرية الإنسان المظلوم والمقهور ونشر الوعي الإنساني الصادق والفكر التنويري العلمي النقدي.
ويسرد القاص السوري حنا مينه شيئاً من الذكرى وشيئاً من الدمع، مؤكداً ان حسين مروة المفكر والمناضل والشهيد لم يكن معلماً فحسب، بل كان أخاً كبيراً وكانت معلميته في قدرته ان يجعل الكل يتقبل أفكاره دون لغط. كان يسوق الكلام كأنما يطرح أسئلة ينتظر جوابها، في حين يتولى هو نفسه الإجابة عبر حوار هادئ. ويذهب الى القول انه اعطى وأفاد وزاد، ومن اعطياته هذا الإرث المعرفي الذي خلفه لنا في الفكر والنقد والدراسة، لكن عطاء هذا المعلم لم يكن قولاً فقط ولا ابداعا فحسب، بل كان فصلاً نضالياً وصموداً ابداعياً هما الذخيرة والأمثولة اللتان تركتا لنا لنتعلمهما من سيرة حياته الحافلة، الجليلة، الماجدة والباسلة، وقد أعطى برهانه النضالي لا من خلال الموقف معه، فقد كان مفكراً مناضلاً قاتل بالكلمة وقاتل بالموقف وقاتل بالجسد، وثبت في بيروت حين كان الاجتياح الاسرائلي يسودها ويقتمها ويشعل أبنيتها وشوارعها بالنار.
بعد المعتزلة والسهروردي والحلاج وكافة أفراد أسرة شهداء الفكر المغدورين، أجهز أمراء القتل المتحدرون من الجهالة والعمى الروحي الذين اغتالوا مفكرا تقدميا، ومحدثا للتراث العربي الإسلامي الفلسفي كحسين مروة، ظنا منهم أن المسدسات يمكن أن تطفئ الشعلة التي يوقدها القلب والعقل.
مهدي عامل رفيق مروة في الكفاح والشهادة، والذي اغتيل هو أيضاً برصاص الطائفية المجرمة، يرسم صورة إنسانية لحسين مروة فيرى أنه في سيرة فكره ونضاله تختلط حياته ضد قوى القهر وأفكار القهر، ومنذ أن طردته من أرض العراق قوات الرجعية والتبعية ثار مع الثائرين على النظام في كتابات يومية هي رصد للواقع بعين الوجدان وموقف سياسي منه، إنّه موقف من الكلمة عنده قاصدة صائبة، إنه موقف مناضل. ثم يؤكّد على “إن لحسين مروة، هذا الكادح من المهد إلى اللحد، تاريخ كفاح هو تاريخ حياة بكاملها، حياته أم حياة شعبه؟ حياته أم حياة حزبه؟ ويشير إلى أنه “كان راسخاً في فكره منذ أن ولد إلى الوعي الذي سيكون وعيه، وخاض معركة الواقعية في حقل النقد الأدبي وسيخوض معركة المادية في حقل الدراسات التراثية. وكان في كلّ مرّة يخوض معركة الحرية والديمقراطية من أجل التقدم والاشتراكية”.
ارتبط مروه بالعراق وقضاياه ونضاله، وكان الهم العراقي همه فشارك، بنضالات الشعب العراقي، فأصدر نوري السعيد قراراً بإسقاط الجنسية عنه وإبعاده خارج العراق، فكتب الشيخ مروة مقالاً بعنوان (أنا عراقي.. وأن) نشر في جريدة صوت الأحرار البغدادية. فكان نوري السعيد بذلك الطرد يؤكد ولادة الفيلسوف والمفكر، من رحم عباءة النجف التي شكلت، بدايات بلورة التأسيس الفكري الأول لمروة وبان أثرها في كتاباته الأدبية في بداية حياته، وسجلت الماركسية، الأثر الثاني والأكبر في فكر مروه، وأختارها طريقاً لدعوته لبناء عالم انساني مبني على العدالة الإنسانية والاجتماعية، فدفع حياته ثمناً لاعتناقه الفكر الماركسي، أنا لم اسمع في حياتي ان يساريا قتل سلفيا او متدينا لمجرد خلاف في الراي والمعتقد .. فقط ظلاميي التطرّف الإسلامي بشقيه “السني”و”الشيعي”، وقبلهم محاكم التفتيش المسيحية، إقترفوا مثل هذه الفظاعات، رغم أن الأمر محسوم في الإسلام بعدم فرض الدين على من لم يجد الهداية بنفسه، والإيمان برسالته، وذلك بقوله تعالى عندما خاطب نبيه محمد ابن عبد الله “لا تهدي من أحببت، إن الله يهدي من يشاء”، وبالدين المسيحي عندما خاطب السيد المسيح اتباعه ودعاهم الى حب أعدائهم ” واما انا فأقول لكم أحبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا الى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”.
بعد طرده من العراق عاد الشيخ مروه الى لبنان لينضم إلى الحزب الشيوعي اللبناني بعد أن حرمه نوري السعيد من ممارسة نشاطه السياسي داخل العراق، ليبدأ مسيرته اللبنانية. تكريم حسين مروه الحقيقي لا يكون بالكتابة عنه بل يكون بالعودة الى إكمال مشروعه وهو “الدولة المدنية الديمقراطية”.
يقول حسين مروة “كل فيلسوف عظيم يقف على أكتاف سابقيه وذلك في الجزء الأول من كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية. فما من كاتب إلّا واتكأ على من عاصره أو سبقه في الزمان والمكان. والكاتب العظيم يشكّل قفزة نوعية في حياته”، كان الشيخ مروة مقتنعا ان النزعات المادية موجودة منذ الحركات الجنينية في صدر الإسلام وحتى يومنا هذا، منذ عهد علي وعمر وأبي ذر الغفاري حتى ثورة الزنج والثورة البابكية (في القرن الثالث الهجري والتي دامت عشرين سنة) ورسائل إخوان الصفا، وثورة القرامطة الذين حكموا البحرين لمدة مئتي عام بملامح قريبة جدا من الإشتراكية. فقرر حسين مروّة بتكليف من الحزب الشيوعي اللبناني تطوير قراءة تلك ” النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية”، فصدر منها جزءان، ولم يمهل قتلة مروّة كاتبنا من إتمام الجزء الثالث. اذ دخل بيته ثلاثة ملثمين وأطلقوا الرصاص عليه وهو مريض في الفراش العام (1987)، والحق بحسين مروة إغتيالاً ثلة من أهم مفكري الحزب الشيوعي (مهدي عامل، سهيل طويلة، خليل نعوس، ميشال واكد، وغيرهم الكثير من المناضلين)، وكان الهدف قتل العقل المفكر للحزب واستتبعت الإغتيالات بمعركة طاحنة شنت على الحزب الشيوعي اللبناني، بنفس العام 1987 الذي كان قد خرج من مؤتمره الخامس عملاقاً، وقائداً للمقاومة الوطنية ضد العدو الصهيوني محرراً الجزء الأكبر من الأرض اللبنانية المحتلة، داعياً الى اعادة صياغة المشروع القومي الوطني العربي، بما يتلاءم مع واقع المجتمع، آخذاً بعين الاعتبار الاختلاف بين واقع وآخر. مصرا على مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية في لبنان وإسقاط الطائفية، بالتحالف مع البرجوازية الوطنية، وكان ذلك خارجاً عن المألوف بطريقة تفكير الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية، وتؤسس لتحولات في الحزب وتجعل منه حزبا ثوريا عصريا، يحكمه العقل والتفكير.
لم يناسب هذا التطور الفكري المرفق بالكفاح المسلح ضد المحتل، وانفتاحه على كافة جغرافيا الوطن، ومكوناته، من كان يروج لفكرة “شعب واحد في بلدين” خوفاً من انتقال العدوى الى ما خلف الحدود اللبنانية اي، اليه، وكان هو نفسه يتربص بالمقاومة، ويسعى الى اخراج حزب المقاومة والوطن من المشهدين السياسي والعسكري، لتكون بعد ذلك المقاومة حصراً إسلامية، ويكون الوطن مزرعة لرؤساء الطوائف. تلك المقاومة التي قتل قادتها ومفكروها بدم بارد، القاتل لم يكن مجهولاً، أفصح عن نفسه بوقاحة، أثناء تقبل التعازي بالشهيد مهدي عامل في مركز الحزب الشيوعي في وطى المصيطبة، حين خاطب رئيس فرع المخابرات في القوات السورية آنذاك غازي كنعان، الشهيد جورج حاوي وقيادة الحزب قائلاً ” هل كان ضرورياً ان تدفعوا هذ الثمن؟”.
فغازي كنعان كان قد طلب من قيادة الحزب إحاطته والتنسيق معه في كل عمليات “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”، وإحاطته بتحركاتها، وبرنامجها، وأهدافها، كان يعمل على تدجين المقاومة. وسرد لي الياس عطاالله قائد جبهة المقاومة الوطنية، قصة لقائه وجورج حاوي الغير ودي مع عبد الحليم خدام لنفس الغرض، حيث خرج الياس عطاالله حينها بانطباع سلبي، واستنتج انه سيفرض على الحزب الخروج من المقاومة. رفض بداية الحزب الطلب، وقرر الصمود والمواجهة، واستمر بتنفيذ عملياته، رغم إطلاق الرصاص على مقاوميه من الخلف بظهرهم، اثناء ذهابهم لتنفيذ عملياتهم العسكرية ضد العدو الصهيوني، فكان لا بد من “تهجين الحزب وإخضاعه بالقوة” لخروجه عن الطاعة وتمرده على القيادة السورية. ومن هنا بدأ المسلسل الذي كان مشهد اغتيال الفيلسوف المفكر مهدي عامل أحد فصوله. وكان سبقه مقتل موضوع مقالتي المفكر حسين مروة، وتلاه مقتل الإعلامي المرموق عضو قيادة الحزب المفكر سهيل طويله، و مسؤول بيروت وعضو قيادة الحزب الكاتب خليل نعوس، وأحد ابرز قياديّيه في الضاحية الجنوبية ميشال واكد، وفرض على الحزب معارك في الجنوب والضاحية الجنوبية، وطرد الشيوعيين مع عائلاتهم من الجنوب والضاحية، وحشر الحزب جغرافياً في منطقة الرملية، حيث حتى هناك لم يكن بمعزل عن أعين السوري الذي زرع حاجزاً لمخابراته على مدخل الثكنة العسكرية الرئيسية للحزب في الرملية، ذلك الحاجز الذي قتل عليه ابرز قيادات الحزب العسكرية محمود المعوش “جلال” بحادثة يلفها الكثير من الغموض. كل هذه الأحداث، دفعت الحزب الى إعادة التفكير بعمله المقاوم، وتحت ضغط المعارك العسكرية لإلغائه، وعمليات الإغتيال، فرض عليه التخلى عن المقاومة لمن هو “أكثر طواعية” منه ومستعد للقيام بكل الأدوار غير المشرفة كقتاله في سوريا اليوم. فأبعد الياس عطاالله وزياد صعب ” قائد القوات العسكرية للحزب” الى موسكو بشبه إقامة جبرية بحجة الخضوع لدورة سياسية، وبدأ الانحدار والتراجع، الذي ترافق مع هزات فكرية وأيديولوجية في الاتحاد السوفياتي، مما قلص الدعم، ودفع السوفيات الى توكيل حافظ الأسد بشكل كامل بملف المقاومة برعاية إيرانية كاملة. كان البديل”حزب الله” وليس ” حركة أمل” لأن ولاء الحركة لم يكن صافياً لإيران، وفشلت الحركة بالقيام بعمل عسكري منظم يؤسس للسيطرة على الأرض والدولة، فكان القرار بسحب كل القوى المقاومة التي كانت تضفي بتنوعها (أمل، الحزب القومي، منظمة العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي، البعث، الجيش الشعبي قوات كمال جنبلاط، وقوات معروف سعد) بعداً وطنياً على المقاومة وينخرط من خلالها كافة المكونات الوطنية بمعركة تحرير الوطن، فاستشهد في تلك المعركة الوطنية (الشيعي، والسني، والدرزي، والمسيحي) و(ابن بيروت، والجبل، وعكار، وطرابلس، والجنوب)، جنباً الى جنب، لصالح حزب الله الذي فكان قد أعد ليكون فصيلاً من فصائل الحرس الثوري الذي أشرف على تأسيسه، وأعد لهذه المهمة بدعم سوري – إيراني سياسي ومادي ولوجستي، ليكون أداة طيعة بيد المحور السوري الإيراني فتحول الى أحد أهم العوامل، في عدم الاستقرار في لبنان والمنطقة، الى ان أتت الفرصة المناسبة لتأديب هذا النظام السوري بما سمي قبل احدى عشر عاماً “انتفاضة الاستقلال”، التي حررت لبنان من الإحتلال السوري، بمشهد وطني، شاركت ببلورته وحسمه البرجوازية الوطنية الحريصة على الوطن، والراغبة بإعادة بناء مؤسسات الدولة، على أسس ديمقراطية.
لم ينس جورج حاوي في تلك الحقبة المهمة من تاريخ لبنان، واجبه الوطني، فشارك في لقاء البريستول، وتمرد مرةً جديدةً على النظام السوري ورفض ان يكون خارج انتفاضة الاستقلال الثاني للبنان، فعمل جورج حاوي، مع رفاقه اليساريين، الخارجين عن إرادة الحزب الشيوعي (الذي كان قد دخل مرحلة جديدة من مراحل تدجينه)، حيث تحول بدوره الى أداة طيعة، بيد حزب الله وسوريا، وفصل عددا كبيرا من القياديين ومن عناصر الحزب، المغردين خارج سرب القيادة الحزبية الموالية لسوريا وحزب الله، وكان يستعد لفصل جورج حاوي من عضويته، ليستفردوا بالحزب ويحولوه الى أداة طيعة بيد النظام السوري، يدار بواسطة وكيل النظام “حزب الله”، حتى نصل الى ما وصلنا اليه اليوم، حيث هناك عمل حثيث على تجهيل أدوار الحزب بإطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية، مره عبر المسلسل الذي بثه تلفزيون المنار الناطق باسم حزب الله، “الغالبون” ومرة جديدة بوثائقي تلفزيون الميادين المدعوم من ايران، وبإطلاق اسرى الحزب الشيوعي من اسرائيل باحتفال حزب الله وتحت علمهم، ومحاولة لف جثامين الشهداء الشيوعيين المسترجعة من اسرائيل بعلم حزب الله، وغيرها من محاولات تشويه التاريخ المقاوم للحزب، على لملمة صفوف الوطنيين ليكونوا جزئا أساسيا من تلك الانتفاضة، فعاد النظام السوري وحليفه حزب الله الى اسلوبهم القديم الجديد، “القتل” فقتلوا جورج حاوي وسمير قصير، وليس من المستبعد ان يكون هناك بين قتلة جورج من هو على صلة بمن كانوا يستعدون لطرد جورج حاوي من حزبه. خاصة وان القيادة الحالية للحزب الشيوعي لا ترى عيباً بالتحالف مع قتلة شهدائها لا بل وصل الإنحدار بتلك القيادة الى خلق مبررات لتبرأة القاتل من جريمته نائب أمين عام الحزب الشيوعي السابقة السيدة ماري الدبس تقول في مقابلة لها لجريدة المناضلة المغربية في 22 نوفمبر 2006 ما يلي: سالت الجريدة نائب الأمين العام للحزب الشيوعي السؤال التالي، الحزب الشيوعي اللبناني حزب علماني منخرط في المقاومة الوطنية. كيف كانت علاقاته مع حزب الله ؟ لتجيبه السيدة الدبس بما يلي، ” شهدت تلك العلاقات تحولات كبيرة منذ عقدين. قبل عشرين عاما، شن حزب الله حربا بلا هوادة ضد الشيوعيين. أعتقد أن الاتجاه السلفي الإسلامي الممثل بوجه خاص بحزب الدعوة –حزب سلفي بقواعد في العراق وإيران، ليست شيعية وحسب، بل ذات أغلبية شيعية- كان يرى في الحزب الشيوعي نقيضه في كل شيء. كان يسعى لإلغاء كل فكرة عن العلمانية والانفتاح وفلسفة مغايرة الخ. بدأت العلاقات متوترة للغاية ووصل حزب الله حد اغتيال العديد من رفاقنا، وبوجه خاص مثقفين وأطر جامعية. قتلوا على سبيل المثال مهدي عامل الذي كان اشتغل على مسائل الاستعمار والدين، وهو مثقف بارز وفيلسوف مرموق. واغتالوا أيضا حسين مروة، فيلسوف كبير ألف كتابا في غاية الأهمية بعنوان “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” والمترجم إلى اللغة الفرنسية. كان قد بدأ شيخا وذهب للدراسة في النجف بالعراق. هناك اكتشف أن الامر لا يرضيه وأصبح شيوعيا. إن مؤلفه في غاية الأهمية. نشبت معارك صغيرة سواء في بيروت أو في البقاع الغربي، في مناطق عديدة، حيث كان ميزان قوى يتيح قضاء طرف على آخر. ساعد ذلك أيضا ميل سوريا الى استئصال شيوعيي المقاومة الوطنية، كان ثمة تفاهم ما بين القوى السورية وحزب الله وقوى اخرى ايضا. كنا ملاحقين، وكان ثمة رفاق ذهبوا للقيام بعمليات مقاومة واغتيلوا – اطلق عليهم النار من خلف. بعد ذلك، تطورت العلاقات إيجابيا. كان في السجون والمعتقلات الإسرائيلية شيوعيون وأعضاء في حزب الله جنبا إلى جنب. كانوا أغلبية شيوعية وأعضاء أقل في حزب الله. هناك تعارفوا، وخلق ذلك علاقات بين أطر المنظمتين. وبعد الإفراج عنهم، تطورت العلاقات إلى هذا الحد أو ذاك. هذا علاوة على أن حزب الله تطور فكريا، وبوجه خاص بعد انتخاب حسن نصر الله الى منصب الأمين العام، لأنه – وهذه وجهة نظري مع رفاق عديدين- عربي أكثر بكثير مما هو مسلم، أي أنه يرى الأشياء بعيون عربي: إنه لا يسعى لتحرير القدس لكونها من مقدسات الإسلام، بل لوجوب عودة الفلسطينيين إلى أرض أسلافهم، وقيام دولة خاصة بهم… له رؤية مغايرة لمن سبقوه. ثم كنا قد ربطنا علاقات معتدلة إلى هذا الحد أو ذاك، تارة حسنة وطورا سيئة”. انتهى حديث ماري الدبس حيث جهدت بخلق مبررات غير أخلاقية للتحالف مع حزب الله وهي من أقرت بقتله لمفكرين كبيرين للحزب عدى عن مقاومين ومناضلين عبر تزوير الحقائق، ورفع مسؤولية الإغتيال عن حزب الله وتجهيل الفاعل، بربط المسألة بحزب الدعوة الذي إندمج عناصره، بحزب الله وشكلوا عاموده الفقري.
من قتل الشهداء، حسين مروه، ومهدي عامل، وخليل نعوس، وسهيل طويله، وميشال واكد، وجورج حاوي، وسمير قصير، كان يعرف مدى تأثير “العقل والفكر” لذلك كان ببساطة يريد ان يطفىء النور ويعمم مشهد مظلم يقضي فيه على كل إمكانية لتطور لبنان ديمقراطياً، وتطور قواه الثورية، ويفتح الباب أمام تنظيمات ظلامية تتبع له لإدارة الساحة وتلغيمها بالطائفية والمذهبية والأفكار الظلامية “حزب الله، فتح الاسلام، داعش، النصرة ” نموذجاً، خوفاً من انتقال نور ” العقل والتفكير” الى عيون شعبه، وهذا ما حصل عندما انتفض الشعب السوري، وهو صامد حتى هذه اللحظة، رغم انه تعرض منذ العام 2011 لأكبر مقتلة في القرن الحالي.
الحدود لن تستطيع ان تمنع انتقال الأفكار والنور، والشعوب العربية تطمح، لحريتها ولمزيد من الديمقراطية، ليس عبثاً قال الشهيد سمير قصير” ان ربيع بيروت من ربيع دمشق”.
بالعودة الى شهيدنا الكبير حسين مروة، ابن الجنوب، الذي كان أحد روافد دعم تلك المقاومة الوطنية، فكتب الكثير من المقالات ودعا اليها، قبل انطلاقتها، وظل يكتب عمودا / مقالا يوميا في جريدة النداء اثناء الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 تحت عنوان “الوطن المقاتل” وقد مثل هذا المقال حافزا قويا للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية للوقوف امام همجية الغزو الاسرائيلي الامريكي للبنان وصولا الى بيروت وحصارها والتصدي للغزو بقوة ودون تردد، وبذلك ساهم حسين مروة بالمقاومة، كتابة وتعبئةً.
شكّل الفكر الديني والقائم على الغيبيات والموروثات والشحن المذهبي في كل مراحل التاريخ العربي عائقاً أمام الفكر العقلاني وأمام انتشاره ومنع نشره، بالقتل والتعذيب والاغتيالات بحقّ كل من شرد بفكره عن السياسات السلطوية الدينية وأفكارها. وهذا الأسلوب لم يكن حكراً على فريق ديني واحد، بل كان السمة التي طبعت التاريخ منذ فجر الإسلام، والتي ما زالت تلتصق التصاقاً بنيوياً بكل أشكال الحكم التوتاليتارية حتى يومنا هذا. فعمل الشيخ حسين مروه على تحرير التراث العربي – الإسلامي من سكونه وخضوعه، وعمل على توظيفه في خدمة حركة التحرر الوطني العربية، وأكد على أهمية انتاج الفكر، و”تحرير العقل” و “إخضاعه للنقد”. كسر الشيخ حسين مروه أهم التابوهات وعمل على ” إعادة فتح باب الإجتهاد والتفكير”، ورفض فكرة الخضوع والإيمان الغيبي، ففي عام 1984 صدر لمروة كتاب “في التراث والشريعة” يحتوي هذا الكتاب على دراستين الأولى، “مكان التراث الإسلامي في الفكر المعاصر”، والثانية، “الشيخ عبدالله العلايلي فقيها”. حدد حسين مروة في هذه الدراسة، بشكل دقيق وعميق، مفهوم “الفقيه”، مبررا ًحاجتنا إلى مثل هذا التحديد كون الأحكام الشرعية المطبقة، في عصرنا، هي أحكام شرعية موروثة تكونت في شروط مادية تاريخية مختلفة عن شروطنا التاريخية.
كان الشيخ الجليل حسين مروة، عضواً في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني ولأنّ الفكر كان ميدان نشاطه الأبرز، وكذلك العمل الثقافي والصحافي والأكاديمي، سواء داخل الحزب أو على نطاق أعرض في لبنان والعالم العربي والإسلامي عموماً، وفي الأوساط الشيعية خصوصاً؛ فقد رصدته رصاصات غادرة لم تعد تحتمل رحابة تفكيره، ورقيّ عقله النقدي، وأبحاثه الجسورة المعمقة في التراث، ومواقفه الشجاعة من المسائل الاجتماعية والسياسية والطائفية، والحريات العامة وحقوق الإنسان، خلال سنوات الحرب الأهلية تحديداً، فوجدت في بقائه خطراً لا مناص من استئصاله. فتم أستهداف هذا “العقل” ليسود الظلام، وكأن المطلوب العيش في ظل الإمام أبو حامد الغزالي الظلامي، والذي يستند اليه معظم منظري الجماعات الإسلامية، والذي كان قد الف كتابه “مقاصد الفلاسفة” ليُظهر به إلمامه بفلسفة أفلاطون وأرسطو وأتباعهم الفارابي وأبن سينا. وكان هدفه ينحصر في تبيان أخطائهم وضلال مذاهبهم التي تبحث فيما وراء الطبيعة. ثم أعقبه كتاب “تهافت الفلاسفة” حيث حدد فيه عشرين مسألة يشكك فيها على براهين الفلاسفة. ولقد نقدهم بقساوة لا تخلو من الشتم واللعن وصلت إلى حد تكفير الفارابي وأبن سينا في ثلاث مسائل هي: القول بقِدم العالم، وإن الله لا يعلم الجزئيات، وفي تأويل المعاد الجسماني. وبهذا العمل وجه الغزالي ضربة عنيفة للفلسفة استمرت لأكثر من ثمانية عقود من الزمن (1095 – 1180).
سعى حسين مروه بدراسته النزعات الفلسفية والمادية في الاسلام، الى العودة الى روح الثورة التي كتب بها ابن رشد كتابه “تهافت التهافت” الذي رد فيه على الغزالي، والذي لم يتجرأ ويتمكن لفترة طويلة اي من فلاسفة الاسلام ان يرد على كتابه. وأخذت الفلسفة في تلك الفترة الغزالية الطابع بالانكماش التدريجي، وتراجع الاحترام الاجتماعي للمشتغلين فيها. حتى جاء القاضي أبو الوليد أبن رشد (1126-1198) فرد بكتابه “تهافت التهافت” على المسائل العشرين. حيث دحض حجج الغزالي وأبطل التكفير بحق الفارابي وأبن سينا وأعاد للفلسفة اعتبارها. هاجم ابن رشد الغزالي بطريقة حادة ووصفه بضعف البرهان وركاكة الحجة، وإتهمه في تغير وتبديل أقوال الفلاسفة اذ كان يأخذ منها ما يلائمه ويهمل ما لا يعجبه. وصل الأمر بأبن رشد الى نعت الغزالي بالشرير الجاهل وبالخبث والسفسطة وأخرجه من نطاق الفلسفة.
كان للشيخ حسين مروة ملء الثقة “بتهافت التهافت”، ومطمئن الى أن موسوعته ونزعاته الفكرية والفلسفية والمعرفية، ستنتشر مهما حاول غلاة التعصب، والتطرف، المتسترين وراء الدين اللجوء الى أعمال العنف والإغتيال والقتل، وإلى ممارسة كل أنواع الترهيب الفكري والسياسي الظلامي والعدائي ضد الفكر التنويري العقلاني، وضد رموزه من أهل ثقافة الإبداع والنقد والعلم والتقدم في بحور الفلسفة والسياسة والأدب والفنون.
مثل الشيخ حسين مروة أحد نماذج المفكرين والمثقفين التنويريين والنهضويين العرب، الذين امتازوا باستيعاب التراث العربي الاسلامي بمختلف اوجهه من طرف، والثقافة الحديثة من طرف آخر، ليوالفوا ما بين التقليد والحديث. الا ان ما يميز حسين مروة، من بين المفكرين التنويريين العرب ،امرين أساسيين، الاول إنه رجل دين تتلمذ في حوزات النجف الدينية متشربا الثقافة العربية الاسلامية التقليدية الشيعية، إلا إنه لم يحلو له المقام طويلاً في موقع رجل الدين، فخرج عن الطوق اللاهوتي الضيق ليدخل فضاء واسع، أساسه صلب الثقافة الحديثة بكل تبعاتها، ليصبح بعد ذلك احد اعمدة الفكر العربي التنويري الحديث، واستطاع ان يتزود من معين الثقافة الحديثة عموما والعلمانية خصوصا ووجهها اليساري وبشكل اخص بوجهها الماركسي – الاشتراكي بالإضافة الى دراسته الدينية، وهذا هو السبب الثاني لتميزه.
قدم الشيخ حسين مروة من خلال هذه التوليفة المركبة والمعقدة في كتابه النزعات شيئا جديدا يتناسب والمنطق الديالكتيكي- العلمي الذي تبناه منذ تعرفه على الفكر الحديث، في مجال القراءة المختلفة للتراث العربي الاسلامي، وخاصة الفلسفة. وهذا ما تجلى في منجزه الاهم ( النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية)، وبذلك أعتبر حسين مروة احد اهم الرواد في قراءة التراث العربي الاسلامي قراءة مادية جدلية، ومن المعروف ان كتابه هذا قد اثار كثيرا من شهية النقاش في الاوساط الثقافية العربية، وانجزت الكثير من الدراسات والحلقات والكتب حول كتابه النزعات. ولكن دراسة حسين مروة للتراث، في كتابه “النزعات المادية…”، لم تتوقف عند هذا الحد، فلقد قال منذ البدء، “إن دراسته للتراث لم تكن رغبة ذاتية لأنه” ليس بالرغبة الذاتية يكون “الشيء” حقيقة أو لا يكون، ذلك بأن الحقيقة ليست ذاتية، إنها موضوعية، وإلا فليست بحقيقة إطلاقا ً، بل وهماّ أو تصوراً. مما يدل على أن حسين مروة درس التراث إنطلاقا ًمن إيمانه بقضية التحرر الوطني في العالم العربي التي ناضل وإستشهد من أجلها بهدف كشف النزعات المادية والثورية في التراث، مثبتا من خلالها أن معرفة التراث تختلف بإختلاف الموقع الطبقي بين الناظرين فيه، وأن النظرة إلى الحاضر تختلف، أيضا، بإختلاف الموقع الطبقي بين الناظرين فيه، فهناك حاضر الطبقات والفئات الرجعية الذي هو على موعد مع الأجل يتأجل، وهناك حاضرالطبقات والفئات الثورية الذي هو الممكن ضد القائم وتناقضاته، “ولكل من تلك وهذه حاضرها المتميز، بإختلاف الحاضر بين الطبقات لإختلاف موقعها الطبقي فيه تختلف علاقة الحاضر بالماضي وتختلف معرفة الماضي”التراث” لإختلاف النظرة الأيديولوجية – الطبقية للتراث، بالرغم من كونه، كواقع تاريخي، واحد. وبالتالي، فإن كشف حسين مروة للنزعات المادية والثورية في التراث حتمته الشروط المادية التاريخية لحركة التحرر الوطني، آنذاك، التي حتمت ضرورة إنتاج معرفة ثورية للتراث تنطلق من موقع الطبقة الثورية – أي الطبقة العاملة – وأيديولوجيتها التي تحدد، علميا، الموقف الثوري من قضايا الحاضر. فمن موقع الطبقة العاملة وأيديولوجيتها الثورية وضع حسين مروة الأسس الثورية لعلاقة الحاضر بالماضي المؤسسة لبناء المستقبل الآتي على أنقاض الحاضر الرجعي وقواه. من يقرأ مؤلفات حسين مروه يلمس عنده الشغف بتفكيك الشيفره الجينية للمفاهيم، التي قد تظنها كثوري للوهلة الأولى بديهية، مثل “الشرق”، “الغرب”، “وحدة وطنية”، “التبعية”، وغيرها من المفاهيم، التي كان يأخدها الشهيد مروه ويحللها، ويعيدها الى جذرها المادي حيث نبتت ونمت، لم يتقبّلها، باعتبارها بديهيات على المفكر التعامل معها بمعزل عن منبتها، فقام بتفكيكها، مناقشًا مجادلاً، طارحًا الأسئلة والإشكاليات. ومن ثمة شرح ما تحاول إخفاءه هذه المفاهيم من ناحية فرض التبعية على المجتمع للطبقة الحاكمة.
كان الشهيد حسين مروه يرى ان أحد أهم أزمات الفكر العربي المعاصر هي، إنه لم يستطع أن يفهم أن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هو نتاج للتخلف العقلي، الذي يعود إلى كون هذا العقل ليس معاصراً ” أكبر أحلام ذلك العقل العودة الز زمن السلف الصالح، وليس الذهاب بالمستقبل الى ما بعد النجوم”.
كان يعمل على بناء وطن وليس اي وطن، فهو رسم لنا معالم ذلك الوطن كالتالي، “نجمة مقاتلة تموت، لتلد ألف نجمة تقاتل، وتموت، ثم تلد وتموت. حتى يأتي الوطن القادم. وطننا القادم هو لبنان المتغير المتحول. هو لبنان المستحق أن يكون وطن النجوم الصاعدة من رماد الاستشهاد، لتكون هي جمال الوطن، لتكون هي شكل التغير والتحول. لتكون هي غصون الفرح آتية من الجذور والينابيع. وطننا القادم هو لبنان الخارج إلى الأبد من قبضة ملوك الطوائف والعشائر والقبائل والصيارفة ولصوص الحياة والخبز والحرية وكرامة الإنسان”.
عام 82 في 27 حزيران كتب الشهيد مروه في مقاله الأسبوعي للنداء ”كنّا سبع جذر. صرنا بحراً عظيماً”، تكريم حسين مروه يكون بالعمل على جعل لبنان وطن النجوم، وإعادة الاعتبار للعمل الديمقراطي، وإطلاق حرية الفكر، لنعود بحراً عظيماً تبحر عليه الناس من الظلمات إلى النور. (عن موقع “أخباركم أخبارنا)