المناضل امبارك بودرقة بالجديدة: أنوي تسليم وثائقي لأرشيف المغرب
المصطفى اجْماهْـري
عرفت مدينة الجديدة يوم الجمعة 17 فبراير 2024 لقاء من اللقاءات النادرة التي قلما يجود بها الزمان الثقافي في ظل التراجع الكبير الذي يعرفه هذا القطاع. هذا التراجع لم يغب عن كلمة الدكتور الطيب بياض، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، في جوابه على سؤال لأحد الحاضرين حينما اعتبر بأن النهوض بالوعي الثقافي والوعي التاريخي هو من مسؤولية الجميع بدءا من الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام لجذب القراء إلى المعرفة وحثهم على إيلاء مزيد من الجهد للتعريف بالتاريخ المغربي الراهن.
يتعلق هذا اللقاء بتقديم مذكرات امبارك بودرقة الجزء الثاني “بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة” من طرف صاحب المذكرات ومقدم الكتاب المحاور الطيب بياض. وقد جرى اللقاء بمكتبة باريس بالجديدة بحضور عدد من المثقفين والباحثين من الجديدة والدار البيضاء والرباط وكذا بحضور الناشر مدير دار الحكمة من تطوان، والدكتور مصطفى الكثيري المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
جاء اللقاء على شكل نقاش مفتوح مع امبارك بودرقة والطيب بياض، مهد له بورقة تحليليلة ذ. قاسم الحادك، أستاذ التاريخ الراهن بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة. وقد تم التطرّق فيه إلى سيرة امبارك بودرقة الإنسانية وعلاقتها بالتحوّلات التي طرأت على المجتمع المغربي من الناحية السياسية. مبرزا أنّ مثل هذه الشهادات الشفهية والمكتوبة، تملأ فراغا ملحوظا في تدوين مرحلة مهمة من التاريخ المغربي المعاصر. يتجلى هذا المجهود خاصة في ضوء غياب الأرشيف الضروري للبحث وضعف أوجه الدعم العمومي للباحثين على مستوى التنقيب والتنقل والكتابة.
وقد كشفت القراءة التحليليلة التي قدمها الدكتور قاسم الحادك عن خصوصيات المتن السردي موضوع اللقاء، وعلى أهميته التاريخية اعتبارا لاعتماده على تفاعل الذاكرة مع الوثيقة. وقد امتد النقاش من الكتاب إلى تفريعات أخرى وجوانب عديدة حيث تم توجيه أسئلة مختلفة إلى المناضل امبارك بودرقة حول كتابة الذاكرة وعلاقتها بالتاريخ ودور الوثيقة المكتوبة، وحصيلة حكومة التناوب، وتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، وأرشيف المغرب وغيرها من القضايا. وقد تفاعل الحاضرون في تلك الأمسية تفاعلا جميلا مع المحور المطروح وهو ما برز سواء من خلال التساؤلات الموجهة للمناضل امبارك بودرقة أو تلك التي رد عليها الطيب بياض وقاسم الحادك والتي تعلقت في مجملها بقضايا مختلفة تشغل بال القراء المغاربة وتستدعي مزيدا من الغوص فيها من طرف الباحثين والمهتمين بالتاريخ الراهن .
امبارك بودرقة أضاف، من جهته، توضيحات شخصية بخصوص دوره إلى جانب الراحل عبد الرحمان اليوسفي سواء بفرنسا أو إبان حكومة التناوب، كما تحدث عن حياة المنفى ودفاعه عن حقوق المنفيين المغاربة والذود عن الوحدة الترابية في الخارج. كذلك تطرق للتعريف بفهمه للوثيقة التاريخية وإلى حرصه على جمع الوثائق والحفاظ عليها حتى في أحلك الظروف التي مر بها في حياته. بل أشار إلى أن أحد أصدقائه في باريس كان قد نصحه مرة بالتخلص من عدد من الوثائق التي كان من شأنها أن تورطه في قضايا معينة لكنه رفض ذلك. وهذا ما جعله، في نهاية المطاف، يتملك كمية هامة من الوثائق صرح بأنه ينوي تسليمها قريبا إلى مؤسسة أرشيف المغرب بالرباط التي نوه بها وبالدور الذي يقوم به ذ. جامع بيضا على رأسها.
وكان الدكتور قاسم الحادك قد أشار في قراءته لمذكرات امبارك بودرقة بأن ما ميز كتابة هذا الجزء الثاني هو التفاعل المتين بين الذاكرة والوثيقة الشيء الذي أضفي على العمل كثيرا من المصداقية التاريخية. فكانت هذه الملاحظة هي ما دفعني لأطرح تساؤلا بخصوص مشكلة انعدام الوثيقة في الغالب الأعم من الحالات التي يمر بها الباحث المغربي، منطلقا من تجربتي في مقاربة الذاكرة المحلية خلال الثلاثين سنة الأخيرة. حيث إن الاعتماد على الذاكرة وعلى الشهادة الشفوية، في هذه الحالة، قد يغني ويعوض الفراغ الحاصل على مستوى الوثيقة. طبعا مع الحرص على تفادي المبالغة وتضخيم الأنا. وأعطيت مثالا لذلك بكتاب جميل للمهدي بنونة وهو “أبطال بلا مجد، فشل ثورة 1968-1978” الموضوع باللغة الفرنسية والمترجم إلى اللغة العربية.
ففي هذا الكتاب رجع المهدي بنونة إلى ما عرف في الإعلام بأحداث مولاي بوعزة، وإلى مسار والده محمود بنونة ورفاقه في العملية المذكورة وذلك من خلال سلسلة مقابلات مع المشاركين فيها والمنظرين لها. وكانت النتيجة أن جاء العمل في قالب سردي على قدر كبير من الإتقان، جمع بين أسلوب التشويق وجاذبية التحري الميداني.
وقد تفاعل مع سؤالي المؤرخ الطيب بياض في القول بأن كتاب “أبطال بلا مجد” هو فعلا كتاب حرص فيه صاحبه على الدقة وإن خلا من الوثائق. إلا أن هذه المسألة، أي الاعتماد على الذاكرة، يوضح ذ. بياض، يبقى رهينا ومشروطا بكل باحث على حدة وبمدى مقدرته المنهجية ومستوى تملكه لأدوات البحث. وتدخل امبارك بودرقة ليوضح بهذا الصدد بأنه هو من ساعد ومهد لغالبية الاتصالات التي قام بها المهدي بنونة مع الفعاليات والمناضلين الذين استقى منهم شهادات كتابه المذكور.