الشعر أو الموت في “من عين البومة.. مر فرح صغير”
لحسن أوزين
“ليتني كنت قبلة من ماء
لأصير عينا
وأحررني من عطش أمي
وأقول بجرأة أمي:
” أنا لا أبكي يا أمي.. أنا فقط أحرر سيقان العشب في الأحداق”.
الكتابة كما قال ناظم حكمت مهنة صعبة. فكلما استحضر القارئ جدل الصراع الذي عاشه حكمت، إلا واستطاع أن يدرك المعنى العميق لما يرمي إليه هذا الشاعر النبيل الذي اكتوى بنار الواقع السياسي للديكتاتورية التركية يومئذ، حيث كانت الكتابة كل حياته في صراعه المرير من أن أجل حماية حريته وإنسانيته. وفضح بشاعة ووحشية القمع والتسلط السياسي.
هكذا هو شعر الشاعرة المغربية حسنة أو لهاشمي التي رحلت في عيد المرأة: 8 مارس 2022، وهي تصارع المرض والألم، كانت تكتب بلحمها الحي، مكرهة على التضحية ليس فقط بجزء من جسدها، بل كانت تعرف حجم الصراع الذي عليها أن تخوضه حتى لا تقدمه ببساطة قربانا للموت. ففي خضم هذه المعركة الشرسة والعدوانية غير المتكافئة لم تستسلم، أو تنهار. كانت تعرف أن المرض يراهن على اقتلاع الكلام/الشعر والاجهاز عليه، حتى يسهل عزلها وافتراسها، بعد أن تكون قد تآكلت من الداخل.
حين أخلو بألمي
أحمله وأبعده عني تماما
كأن أنام وفي كفي تلهو صغار الكلمات
أصحو وحول عنقي تتسابق
قطرات عرق تصببت قبلا
من جبين قصيدة
لشاعر نبت فجأة في دم المنبوذين
كأن أقلم وجه الخذلان
بدعابات خفيفىة
أقص شعر الموت
وأضع قبعة للحياة
أقذف بقائمة الدواء المنكمشة
وبنفسي
في حلقedith piaf
عند منعطف
Lavie en rose52
من عمق جحيم هذه المعركة خرج شعر حسنة رافضة الانسلاخ عن ذاتها، أو التورط في اللعبة الشنيعة للمرض الذي يجعل الجسد مسربلا بلعنة الغرابة عن الذات. رفضت بإصرار مشحون بنبل الكبرياء، أن تجد نفسها أمام هوية جديدة، ممزقة، مفككة، وفاقدة لشخصيتها بشكل مؤلم. فالشاعرة بفضل نبض الشعر في جوفها الحي، لم تقبل الأمر الواقع بهروب الحياة من داخلها تحت وطأة عنف الألم المنهك للجسد، والمدمر للإحساس بهويتها الخاصة، ونرجسيتها الذاتية . كانت تدرك أن قوتها وأساس مقاومتها، والحفاظ على كرامتها وإرادتها، كامن في تدفق سيل الكلام الشعري، حتى لا ينضب معين الكتابة/الحياة.
أيها العابرون من جسر دمي
لا تنسوا
أن الليل الذي يسيح من قبضتكم
هو طين نهارات عصية
به أخاتل الموت عند مطلع النفور
أسوقه بدلال
إلى آخر نقطة ضئيلة
في معبر الحب
لينجبني احتمال الحياة..
تذكروا
قبل أن أغادر ظلي
سأملأ حلقي بقصائد “سيلفيا بلاث”
أضع وردا على خصر اللغة
أدع الكلام يرتعش
كما ترتعش كسرة الخبز
المدهونة بدفء فاتر
في يد أمي كل صباح41
كل ما يراهن عليه المرض من وضعها أمام حقيقة هشاشتها، والزج بها في مآزق المساومة أو التنازل أمام شراسة الألم، يعني لها ذلك الفشل الذريع لما يشكل حدودها، وحقيقة وجودها الاجتماعي الإنساني. لم تقبل أن تعيش التشظي، والتمزق بصمت مهدد لهويتها الفردية الخاصة، أو أن ترى نفسها تتفكك باستمرار.
كانت تعرف أنها تعيش وضعية حرجة جدا، في مواجهة الاختلال العميق الذي مس كيانها، ولا يمكن أن تجتاز صراطه الجهنمي الغادر إلا من خلال الشعر. كما لو كانت تعرف أهمية الجبهة النفسية الداخلية في الانتصار للحياة، رغم قسوة الشر الملعون الذي نزل على غفلة كقدر مشؤوم.
صباح آخر
أفرك عيني كتابي المتعب
أمرر على دفاته
أصابعي التي ترفع عيونها في وجه “الروماتويد”
تقذفه ببسمة
كتلك التي قذفتها جدتي يوما
في وجه قائد كولونيالي
أراد ان يستبيح أرضها
وخرافها القليلة
أقلب الصفحات
أتقفى بغير حذر
طريقا ضالا
لأتعثر بدلال
أرشف سهو وجودي
وأتذوق
صباحا آخر..57
لهذا لم تكن تهذي، وهي ترى بحدوس شعري، مشبع بجنون الأمل، مرور فرح صغير من عين البومة. فشعرها يعبر عن مدى وعيها بضرورة مقاومة اقتلاع حقها في الكلام/القول الشعري. وذلك تفاديا لسيطرة اللامعنى القاتل لحيوية الفعل الرمزي، والفاعلية الفكرية والإبداعية التي تمنح معنى لوجودها، ولعيشها الآمن بسكينة النفس، وفرح القلب. وهذا ما يمكن أن يحميها من انهيار ارتباطاتها بالآخرين والعالم. و تجنب الغرق في الوحدة الخانقة بلا أفق نفسي، متحررة من سطوة الجسد في تعبه ومعاناته، المولدة للمرارة.
يكتشف القارئ ، الممسوس بعمق الرؤى الشعرية العميقة، في شعر حسنة، جمالية التركيب الشعري، لقوة الفكرة في اختراق الوجود الاختزالي للجسد المنهك. والتجذر عميقا في الفعالية الرمزية لإنتاج المعنى، تحصينا لسيادة الذات المهددة بعذابات الصمت، والفشل في حمايتها.
أيها الواقفون على حفا الخواء
ماذا لو ركلنا معا رؤوسنا الممتلئة بالفراغ
وحملنا أقدامنا الى أقصى معابر السهو
هناك نلفظ ترتيبنا الدنيء
هناك نشعل شموع وجود يسع كل الخرابات
لنصعد إلينا
نستعير من طيور النوء أجنحة
تصلح للقتال لا للتحليق
…..
الموت يا صديق
عنفوان أبدي
كما الحب
لا يلج الروح العفنة
حتى يلج شهوقه
سر سم المعنى..76
وفي شعرها ما يدل على أنها تحفر بشكل إبداعي خلاق مسالك لولوج الكينونة، انتصارا للفرح والحياة. تفعل ذلك كرؤية وموقف في جدلية الصراع المؤلم الذي تعيشه، بحيث تجعل الشعر ممرا آمنا وهادئا، لوضع نفسها جسديا ورمزيا في العالم. هذا يعني أنها واعية بالخيار الصعب: الشعر أو الموت.
لقد أدركت الشاعرة حسنة أولهاشمي، بمحنة التجربة أو بشغف القراءة، البعد العميق لما خطه، المفكر والمحلل النفسي اللاكاني، مصطفى صفوان، في كتابه القيم ” الكلام أو الموت”. كانت واعية بالخيار الصعب المفاجئ الذي ضيق عليها الخناق، فإما أن تنهزم وتستسلم لرعب المرض، متنازلة عن حق المعنى في الوجود الإنساني الاجتماعي. وهذا يعني فقدان الحياة، والانهيار النهائي. أو أن تتمسك بتجذرها الرمزي الجسدي والذاتي، منتجة معنى للمرض كتجربة تصطلي بنيران محرقتها اللئيمة.
حين تنكمش الكلمات في فمي
تصبح كصرة ثوب مكورة
ترقد بها حبات الحرمل
كتلك التي وضعتها القابلة
في كف أخي الرضيع
يضيع حبل الكلام
تبقى عيون العالم معلقة
على سارية الصمت
حين تنكمش الكلمات في فمي
أدرك أنني أنتعل جدوى الرحيل
والجميل الرائع في تجربة الألم التي خاضتها حسنة بكبرياء شاهق عظيم، أنها جعلت من الشعر مسالك، ليس فقط للعبور الى الكينونة، بل للتجذر فيها بكل قواها الحية. دون أن تسمح بتفكك الكلام/اللغة الشعرية، وانفلات التجربة المريرة كحقيقة هاربة من أسمائها المروعة والمرعبة.
حين تنكمش الكلمات في فمي
أصبح متاهة رقيقة
تتعلم الزحف حول فم
قربة السؤال
القربة التي كان يشتهي عقلي
حملها على ظهره الصغير
صاعدا الى جبل الحب
فتتعثر قدمه فجأة بحصاة الموت..
حين أنكمش في فمي
أصبح هزيمة صغيرة
لا تصلح أن تصبح شيئا عظيما
كما أراد “ماريا ريلكه”34و35
الشاعرة نظرت بعمق شعري الى وضعها الخاص، حيث هي في موقف لا يمكن أن تقبل بتعتعة الكلام وعيّ وتلعثم الشعر. وما يمكن أن ينجم عن ذلك من هزائم وخسارات. كانت تعرف بأن المعركة ليست بالأمر السهل، أو في متناول اليد. فعليها أن تستميت في وجه العتمة التي تلفها برائحة الموت، وتهدد كيانها بالتفكك والاقتلاع.
قطع الفحم المربعة
التي قضمتها أمي بنهم
حين كنت برحمها
…
تتحول الآن
الى شجرة بنظارة سوداء
ساقها مبتور
حول عنقها وشاح تتوسطه
رسوم النجمة الثمانية السومرية
على حواف الرسوم
جف عشب الكلام
اصطكت أسنان الكون
واستشهدت آلهة الحب 36
لكن نبع الشعر عند حسنة يرفض بعناد وإصرار أن يناله الجفاف، أو تصاب في دواخلها بلعنة استعصاء التعبير عن المحنة. والسقوط في فخ الفشل الفظيع للقول الشعري. لأنها تعرف أن الوقوف في وجه عجز الشعر، يحميها من العزلة التي تفرضها سطوة المرض وهو يشتغل كوحش داخلي يفتك بأعماقها بمخالبه العدوانية. يحدث هذا كلما انهارت إرادة الانسان، وقبل بوضعيته الهشة، متخليا عن الفرح وجنون الأمل، و عن الرغبة في الحضور، وامتلاك حق الكلام/الشعري في العالم ومع الذات والآخرين.
منذ نعومة أسوار عصياني
تعلمت
أن أربي اختياري
بكل ما أوتيت من ارتجاف
تعلمت
مبكرا
أن أتذوق الوجود
من جرة “اللاءات”
تعلمت فقط
كيف أربي صغار الموت
أطعمهم بحشائش الانتظار
وأجلب الماء
من بئر الفرح البعييييييييييييييييييدة38و39
بإصرار وعناد كبير ” لا تريد لهذا الشقاء أن يكتمل..” في مواجهة عنف حفيف موت الذي يفرض تهديده باستمرار. وبشيء من الوثوق تنتصب في وجه المحنة، وتلتحم بكيانها الذاتي، رفضا للتلاشي والانسلاخ عن هويتها الفردية الخاصة.
أختلس المشي
في أعالي الخسارات
ألبس درع الوثوق
أثبت ساقي فوق حجر الموت
أستنشق هواء البدايات
أغمض عيني
لأقفز إلي..119
في هذه التجربة الشعرية الرائعة والمؤلمة التي خاضتها حسنة أولهاشمي، يصعب جدا علي كقارئ لهذه الجدلية المرعبة بين الشعر والموت، أن أدعي القدرة على تأويل سيرورتها الشعرية، بصورة كاملة ونهائية. حاولت بعشق كبير لنصوصها الشعرية الاقتراب قدر الإمكان من قدر المحرقة التي لم تتترك لها خيارا آخر غير الحلم بالولادة من جديد، أمام موت يعلن باستمرار حضوره الشرس للقبض عليها بمخالبه الحادة.
كم يلزمنا لنعيدنا إلينا
ونحتسي من شموس غروبنا
شروقا
يكفينا لبعث جديد..
_______________________________________
*حسنة أولهاشمي: من عين البومة.. مر فرح صغير- ط1، س 2020.