“بِأسْنانٍ صَاغَها اللّيْل”: نصوص تفتك ببياض الكينونة الملطخ
هشام بن الشاوي
الليل ليس مجرد ظاهرة طبيعية تبدأ مع غروب الشمس وتنتهي عند طلوع الفجر، بل هو مصدر إلهام للشعراء والحكائين، صديق للمبدعين والفنانين، ومؤنس للعشاق والمهمومين، الذين لن ينشغلوا بالتفكير في دوران الأرض حول محورها، لكي يتوالى تعاقب الليل والنهار.
عند القراءة الأولى لديوان الشاعر السعودي عبد الوهاب العريضّ “بأسنان صاغها الليل” يلفت انتباهنا أن ثيمة الليل تطغى على نصوص هذه الأضمومة الشعرية، ويخيل إلى القارئ أن هذه القصائد بعض ظلام ذلك الليل السرمدي الطويل، اللّا ينجلي، الذي خيم على القصيدة العربية منذ ليل امرئ القيس والنابغة الذبياني وغيرهما، وقد خلدت نصوص العريضّ ليل الدواخل وظلمة الأعماق، وأبدعت في رسم بياض الكينونة الملطخ بالأسى والألم.
الليل في قصائد عبد الوهاب العريضّ ليس مجرد وعاء زماني يؤثث المشهد المشروخ، إنه ليل سيكولوجي يُعمّق الوحدة والوحشة، حيث تترك ظلمة اللحظة الراهنة الباب مواربًا لأعطاب القلب وهزائم العمر، لكي تتسكع على رصيف البوح والحنين، بحثـاً عن سلوى مؤقتة تردم هوة الوجود السحيقة، وتكتم عواء الحزن في بيداء الأعماق.
أسرف عبد الوهاب العريضّ في الاحتفاء بالتفاصيل الصغرى؛ تلك التفاصيل التي نتجاهلها – عادة- في حياتنا اليومية، عبر صور شعرية تعض وحشة الزمن النفسي وتفتك بقلق اللحظة الإبداعية. في قصيدة “يستديرون بالوجع” نقرأ عن قسوة وخذلان ما يمكن أن نعتبره أزمة منتصف العمر، حيث تطغى على الصور الشعرية لغة الاسترجاع، البحث في ما وراء الأرقام/ الأعوام التي لا تعود، ولا أحد يحملق في هذا الليل سوى الشاعر، الطفل الشارد بالقرب من قارعة الطريق:
أحكّ بحافر القلب ما سكن في السفح
أبجدية الليل والنساء وقوارب الصيد التي غادرت
موانئ الروح
تبحث عن بقايا جسدكَ المسجى خلف المطر
آه! يا لتلك الخشبة التي خلفها أسرجت الليل وما
كنت سوايَ
وأنظرُ داخلي
فأجدني جسدا ينكسر في الخمسين
متربصا بفرح الفتيات بجسد الثلاثين
ينتظرُ عودة غرباء العشرين
حين ينجلي الليل، ويلوح الصباح الصدئ، تغدو الحياة في شعر عبد الوهاب العريضّ بمثابة طريق يعلوها الغبار والأسى وهواء ملوث بالعابرين، كما في قصيدة “غبار”، والغبار – هنا- كناية عن الهشاشة الإنسانية وضعف الطبيعة البشرية، ويرمز – دينيا- إلى الفناء والزوال أيضًا، كما يشي طغيان حضور الطريق/ الرصيف بقلق الذات الشاعرة وبحثها المحموم عمّا لا يمكن استعادته؛ فالعمر يشبه الماء المنفلت من بين الأصابع المنفرجة، التي لن تظفر سوى بقبض الريح/ الخيبة، لأن العمر الهارب نحو الضفة الأخرى للوجع، يسلب سلامنا الداخلي.
وإذا كان الشعراء القدامى ينتظرون انبلاج الصبح، هروبًا من وطأة الليل وهمومه الخانقة، فالعريضّ يتغنى بمباهج الليل في قصيدة “الليل نشوة هاربة”، بعد أن خانه العمر والوقت والحب والدرب، فهذا “الليل تاريخ الحنين وأنت ليلي” بتعبير محمود درويش :
الليل نشوة هاربة
بين كفّي الحبيب
يسقطُ الوهم
فيعانقُ كأسه
يفرشُ حبّات ثلجه
ويدخل كهوف الكلمات
في قصيدته “الأصدقاء”، كتب خوليو كورثاتار ذلك “الولد المؤدب”، الذي (لا يعرف حلّ رباط حذائه لتعضّ المدينة قدمه) : “يوماً ما، سأغطي صدري بكل هذا الغياب/ بهذا الحنان العتيق الذي يسمّيهم/ في قارب الظل”. قد يشيخ القلب، وتذبل زهرة الشغف، لكن الصداقة لا تموت، حتى في شتاءات الغياب؛ بعدما انفرط أصدقاء من المسبحة، وتناثرت وجوه على الرصيف، تساءل الشاعر عبد الوهاب العريضّ مدججًا بطفولة القلب وقسوة الحنين : ” أيّ حزن في هذا الشتاء؟!”.
في قصيدة “تغمضُ يديك” يلملم الشاعر شظايا الذاكرة، ذات مساء، يطوي المسافة بين المكان ومسبحة الأصدقاء، ويستعيد عطر اللحظة : “تعيد الذاكرة نحو المكان والظلال الوارفة بالشجر، ضحكات أرجلهم مازالت تنساب في أعماق صدركَ، وأنت بينهم غريب يطل على الخليج، تهب نفسك لحظة غياب فتغمض يديك على الطاولة، تكسر ذاكرتك وترتحل على عتبات ساحل حاول أن ينثر بقايا منك على رماد المقعد والرفقة المنسابة في نهر الذاكرة، الصديق الذي قضى نحبه بين كأس وكفّ في الهواء…”.
وفي قصيدة “خطيئة الذاكرة” يسير الشاعر، بعد أن سكن غربة المكان وسكنته، نحو الهاوية في الليل : ” متوهم بالموج ينثر رذاذه على أناملي، أحمل جلجامش معي، أحرك الأصدقاء في داخلي، لأتيقن أن روحي تهيم في لجة النهار”.
تتوزع نصوص هذه المجموعة “ما بين الحب والألم والتأمل والتعرّض للحياة والرغبة فيها كل ذلك في خيط قوي من الذاكرة التي يبدو أنها مجمع النصوص كلها، فالعريضّ يكتب نصه على ورقة الليل ذاتها، دون اعتناء بتحديد اتجاه واضح إلا للقصيدة ذاتها، التي تسير هي وبقية النصوص لتشكيل مجموعة تمثّل صوت الشاعر، وإحساسه العميق بالوجود والحياة” .