غاستون باشلار: طائر العنقاء (الحلقة 4)
ترجمة: سعيد بوخليط
لنتذكَّر بأنَّ نيتشه وضع الموسيقى تحت إشارة طائر العنقاء، ”طائر العنقاء الموسيقي” بحيث تضاعفت صورة الانتعاش: ”سأروي حاليا حيثيات قصة زرادشت.فكرة العمل الأساسية، حول العود الأبدي- أسمى صيغة إقرار لم يتم بلوغها قبل ذلك – تعود إلى تاريخ شهر غشت 1881. انكبَّ نيتشه على ورقة وكتب الفقرة التالية:
”على ارتفاع ستة آلاف قدم يلتقي الإنسان الزمان”. عبَرْتُ خلال هذا اليوم الغابات المجاورة لبحيرة سيلفابلانا؛ غير بعيد عن قرية سورلي وقفت عند قدم صخرة هائلة يشبه شكلها هرما. لحظتها استلهمتُ الفكرة.حينما أعود إلى شهور معينة قبل هذا اليوم، فقد تمثَّلتُ خاصة مع الموسيقى، ملامح أولى عن الواقعة، عرفت أذواقي، تحوُّلا مباغتا، عميقا، حاسما. ربما لاينكشف زرادشت لديَّ سوى بالموسيقى؛ حتما يفترض ”تجديدا” للسمع. قضيتُ ربيع سنة 1881، في كنف بلدة صغيرة تحيطها مياه جبلية، ليس بعيدا عن فانسونس، ومدينة ريكاورو، هناك اكتشفتُ مع بيتر غاست صديقي الذي أعتبره مايسترو، ”مجدِّدا” بدوره، على شاكلة طائر العنقاء الموسيقي الذي يحلِّق أمام أنظارنا في خضم ومضة ريش أكثر خِفَّة ولمعانا من ذي قبل”(13).
شاعر، ينتمي بخياله إلى النار، يمكنه التحقُّق من الوجع والموت حينما يفتقد وهج الضياء. صورة اختبرها غابريل دانونزيو، نتيجة آلام عينه المصابة بالعمى إبان خوضه معارك حربية. إنَّها رماد ملتهب وكذا وهج حياة جديدة. بل داخل عينه يحترق موقده. هكذا، جاءت صفحة بأكملها من كتاب دانونزيو (14) تحت إشارة طائرة العنقاء:
“أوقد الشيطان كل النيران في عمق عيني؛ ينفخ بكل جنونه الموقد الكئيب، خلال أكثر الساعات يأسا تحت وطأة عذاب بغير معافاة. يغدو جسدي البئيس في غمرة الاحتراق حزمة أغضان بجوار الشعلة”.
ألم ساخن، احتراق داخل العين، مأساة حميمة للنظر والضوء. يحترق مجمل الكائن. لذلك تساءل الشاعر: ”من يدثِّرني بهذا الرَّماد الحارق؟”. غير أنَّ الشاعر سيكتشف خلف جلده المحترق، أنَفَة ولادة جديدة: ”تنبعث شرارات من أوج فؤادي، فتخترق الرَّماد. أنا رماد ذاتي وطائر العنقاء، أنا معتَّم وأشِعُّ، أحيا داخل موقد، ثملا بالأبدية”.
ستخبرنا هذه الصفحة عن ظهور طائر العنقاء حقيقة الواقعية عبر بانورامية مشهد غابة نارية. تحدث أشجار الصنوبر أزيزا وسط عِطْرٍ هائل لصَمْغٍ من نار: “غير أنَّ جميعها واقف مثل شهداء لم يُهْزموا”.
مع ذلك، انطوت مراكز للحياة على الأمل (15): “أكتشفُ، هنا وهناك، حول انتكاسات حفر خَلَّفَها الحريق، أجَمَة عشب أخضر، سيقان أزهار وردية صغيرة وبنفسجية. التقطت الروح المنذهلة تلميحا إليها عبر ذلك”.
ينتهي هذا الفصل بترنيمة تمجيد لطائر العنقاء(16)
أصغي إلى أناشيد طيور العنقاء!
تندفع الثمالة داخلي وأنا مثل نهرٍ سماويٍّ
أحسُّه داخلي يا إلهي.
أرهف سمعي إلى شدو طيور العنقاء
شدو ينفث رائحة شجر المرِّ وبهجة المرارة
أتمثَّلها داخلي يا إلهي.
كلّ رماد بذرة،
كلّ الأغصان براعم،
كلّ الصحراء ربيع.
كلّ ذلك ألمسه داخلي يا إلهي.
ليست الغابة المنبثقة سوى سعف نخيل،
سامقة عبر الأثير قد تحرَّرت
من العبء المنحدر صوب الأرض
أتحسَّسُ ذلك داخلي ياإلهي
فوق سعف النخيل المنحدِرة من مملكة إدوم،
دون تحريكها أو ثنيها
تشدو طيور العنقاء المنبعِثة
أستأنسُ بذلك ياإلهي.
تطرح صفحات من هذا القبيل قضية النشاط الأدبي: هل تمتلك المعاناة، الفيزيائية تحديدا، الحقَّ في الأدب؟ لقد عثر أدب غابريل دانونزيو على نُقَّاد. لكن بالنسبة لمن يمتلكون شغف الصور، فالانتقال طبيعي من الحياة إلى الصورة. تنطوي الصورة في ذاتها على معاناة ندركها تماما إذا جعلناها تُدَوِّي تعبيريا.
داخل عُشِّ تجويف يقيم طائر العنقاء. عندما يحيا الأخير مجدَّدا بفضل الشاعر يغدو مأساة لقرنية العين، حنين هائل من خلال النظرة الملتهِبة. هي عين ميِّتة،تحديدا بين العمى والإضاءة، ويأس الظلمات، ثم انبعاث الضوء رغم ذلك. حينها، تتجلَّى شجاعة الانبثاق مرة أخرى.
توجد صور استثنائية(16)،تحمل اسم السبيكة الشعرية لطائر العنقاء، أمكنها أن تعيش ضمن نفس مأوى الصورة التقليدية. هكذا، الشأن مع طائر العنقاء عند بيير جان جوف Jouve في مجموعته الشعرية المعنونة بـ”الغنائية”(17).
عندما نقارب القصائد الخمسة تحت عنوان ”طائر العنقاء”، نخسر بالتأكيد ثمن التركيز. إنَّها قصائد، تمثِّل تركيبا بين الأبعاد النفسية للدواخل وكذا الجمال الكوني، أبدعها الشاعر نتيجة تأمُّلات نظرة مُرَكَّزَة، فهي ظواهر للنَّظرة. ليس طائر العنقاء قط بموضوع، بل حالة لحدقة العين. صفات متعدِّدة تخبر عن النظرات المشتعلة، الخاطفة، المضيئة. لكننا نحتاج شاعرا، فيلسوفا شاعرا، كي يحدِّد سمات الإسقاط النفسي. تبرز قصائد بيير جان جوف طيور العنقاء في خضمِّ أصالة إبداعها. سمات نار تعبُرُ سوداوية الشاعر(18):
مثل أمواج البحر، تموت الواحدة بين طيات الثانية، كي تنتج وميضا عند التِّلال الأكثر تعطُّشا،
يصغي الشاعر إلى الزمان الذي يدوِّن سمات، بجوار فؤاده، بريشة من حديد.
شهيَّة كينونة أمكنها بعث كائن يعيد الكتابة، لقد باغت الكاتب عمقٌ نفسيٌّ.لحظة ظهور فوري لطائر العنقاء ضمن ابتذال الوجود. حينما يصغي الشاعر إلى الزمان، يلتقط معجزاته. بالتالي، طائر العنقاء محض لحظة شعرية. لن يصف الشاعر مايظهر بل تتجسَّد عبقرية في استفزازه.
أيضا تحتدم نيران إحساس، تمزج حساسية طائر العنقاء بين جنسانية سعيدة وكذا جاذبية الأبدي.
أشار جان جوف بين مقاطع القصيدة الثالثة، إلى انبعاث طائر العنقاء مثل انبعاث للنَّظرة. أشبه بعين مطلقة تبسِطُ سيادته على العالم(19):
احتشدت في جوف شعل، مثالية كِسوتكَ ثم أن تكون
من أجل نار هائلة سوداء تماما لأيِّ نظرة نافذة
نار صديقة منبعثة تنكشف معها عينكَ الوحيدة
ولادة رغبتنا نحو طائر العنقاء،ح سب نظرة جديدة من أجل ومضة جديدة داخل العمل الحميمي، وردت آخر القصيدة (20) :
ولادة ثانية بعد احتضار قلب أحمر، أسمر،
تغدو بريق عيون تومض من الثَّدي،
هكذا يستوحي البعض قانون المعجزة
أن تعاود استئناف البناء والضحك ثم جلّ التصميم.
طبعا، ليس هذا النشاط الإبداعي لحدقة العين، واستدعاء الشبكية للضوء، بتأمُّل صورة مضيئة وهمية. خلال ظلمة الليل، عين طائر العنقاء المتجلِّية تمثِّل سلفا كائنا شمسيا. يجعلنا الشاعر نعيش اقتران الضوء المكثَّف مع حقائق فجر يمتدُّ بضوئه حول الكون. يشتغل تبصُّر الشاعر ضمن نطاق الإحساس وكذا الحلم، ثم أيضا في حدود لغة الدلالة ولغة التسامي.
تدعوننا قصيدة نثرية لبيير جان جوف عنوانها ”جمال”، كي نحيا اللغة عموديا(21): ”الحياة غير ممكنة سوى عموديا، بعيدا هناك،من خلال تآلف الأصوات، الألوان، الكلمات. جمال بعض عبارات البارحة كما لو هي مغلَّفة بالأبدية”.
*هامش:
Gaston Bachelard: fragments d’ une poétique du feu (1988).pp :82 -88.
(13) نيتشه :”هكذا الإنسان”، ترجمة ألكسندر فيالات، غاليمار 1942، ص 120- 121، تقول إشارة وردت على ضوء الشذرة 568 حول الشفق عنوانها: “شاعر و طائر”: “سيبدو طائر العنقاء للشاعر، مثل لفافة متوهِّجة تحترق ثم تغدو رمادا” لا ترتعد قط ! يقول، إنه عملك! يفتقد روح العصر، بل وأكثر من ذلك روح الذين يسيرون ضدَّ العصر: بالتالي يلزمه أن يحترق. هذا يمثِّل مؤشِّرا جيدا: تكمن عدَّة أنواع من الشفق”.
(14) غابريل دانونزيو : الليل، ترجمة أندري دوديري، 1923، ص 183
(15)نفسه ص 185
(16)ورد ذلك تحت عنوان :طيور العنقاء عند بيير جان جوف، مع إشارة هامشية : أحسنت القول عن القوة الفردية الشعرية في صور القصيدة الحديثة.
(17)بيير جان جوف: الغنائي،1956،ص 9-13
(18)نفسه ص 9
(19)نفسه ص 12
(20)نفسه ص 15
(21)بيير جان جوف، نثر، 1960 ، ص 94