مكسيم رودنسون: هل إسرائيل واقعة استعمارية؟
ترجمة: سعيد بوخليط
س- أصدرت مجلة “الأزمنة الحديثة” سنة 1967، عشية حرب الستَّة أيام، عددا خاصّا اهتمت موضوعاته بحيثيات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ساهم في تدبيج المقالات عرب وإسرائيليون وبعض كتَّاب استئصال اليهود.. إلخ، وقد افتتح العدد ماكسيم رودنسون بمقالة عنوانها: ”هل إسرائيل واقعة استعمارية؟”. بناء على دلائل تاريخية، سيقدم جوابا إيجابيا على السؤال. مرَّت الآن ثلاثون سنة على تاريخ كتابة تلك المقالة، ثم ثلاثة حروب وكذا الانتفاضة بينما تحتفي الدولة العبرية بذكراها الخمسين. فهل لازالت تحتفظ بنفس التصوُّر منذ تلك الفترة غاية صيف 1998؟ من جهة أخرى، اهتمَّ من صنِّفُوا كمؤرِّخين إسرائيليين جدد(توم سيغيف، بيني موريس…) بمراجعة تاريخ إسرائيل منذ سنوات فانتهوا إلى خلاصات تسير تقريبا ضمن نفس المعنى. مارأيكَ بهذا الخصوص؟
مكسيم رودنسون: لم تفتقد بعد مقالتي مضمون راهنها، لاسيما إذا تمسَّكنا بنفس منطلقات التحليل. فيما يتعلق بي، استمرَّ وفائي لما قلته سابقا وأعتقد بأنَّ مايحدث منذ تلك الفترة يعضِّد للأسف ماقلته سنة. 1967كثير من المعطيات الجوهرية-تناولها الآن المؤرِّخون الجدد وطوروها بتفصيل أكثر- متاحة سلفا أمام من يتمتَّع قليلا برغبة البحث وكذا تسليط الضوء عليها. بوسعي ثانية استعادة بعض العبارات الواردة كاملة. تغيُّر الوضعية، ترجمته فقط ارتدادات، لاسيما مع بنيامين نتنياهو. نعيش الآن وضعية قريبة من التي اختبرناها سنة 1967، وأتطلَّع نحو سبل الخروج منها.نلاحظ بالتأكيد، وعيا بهذه الإشكاليات لاسيما مع هؤلاء ”المؤرِّخين الجدد”. لكنها فقط بداية مسار لاأظنُّه سيأخذ وتيرة سريعة. يوجد داخل إسرائيل أشخاص يفهمون الأشياء مثلما أفهمها، لكنهم أقلِّية جدا.نعاين ضمن الوسط الفكري انفتاحات معينة على قلَّتها كذلك، بالتالي لاأعتقد في إمكانية تأثيرها على الرأي العمومي للجماهير.
س- يقول ريغين دهوكوا كوهين: ”يعتقد الكثيرون بأنَّ إسرائيل ليست دولة مثل باقي الدول.هل توافقون على هذه الصيغة؟ كيف يمكننا بحسبكَ تحديد دولة باعتبارها على شاكلة باقي الدول؟”
مكسيم رودنسون: من الواضح أنها ليست بدولة مثل الدول الأخرى، لأنها تستند على قاعدة ”الأسطورة المؤسِّسة”، مثلما قال روجي غارودي (المفهوم مستعار من كتاب إليزا مارينستراس حول الأساطير التي شكَّلت الولايات المتحدة الأمريكية). يعتبر الإسرائيليون أنفسهم كورثة شرعيين للوطن الإسرائيلي القديم الذي يعود إلى عهد موسى، على الأقل أربعة عشر أو خمسة عشر قرنا قبل المسيح، يضاف إلى ذلك أو تجاوره، تلك الرواية الدينية، بمعنى: ”نحن على هذه الأرض لأنها إرادة الله”. تلقيتُ ذات يوم رسالة من طبيب يهودي فرنسي مشهور جدا، صاحب “اختبار باروخ”، قال لي: “اليهود هم أصحاب الأرض الشرعيين منذ دائما، والعرب يشغلون وضعية مستأجِرين دون عناوين” (”ضمنيا: يحق طردهم”). غريبة هذه النظرة إلى العالم. نظرة قديمة، دينية ضمن أخرى، يمكننا العثور عليها ثانية مثلا في التلمود. تُتخيَّل بداية العالم حسب الطريقة التالية: وزَّع الله الأرض بكيفية أبدية،مانحا تشيكوسلوفكيا إلى التشيكيين والسلوفاكيين، وفرنسا إلى الفرنسيين، ثم إسرائيل للإسرائيليين. هذه المقاربة محض أسطورية ولاهوتية.
س- حذَّر يوفيل إيرمياهو، فيلسوف إسرائيلي، مختصّ في سبينوزا، من نظرة إلى التاريخ تتظاهر بالتقوى، تبلور نظرية للعدالة الإلهية، تتجلى بعنف بحسبه لدى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وكذا مجموعات أخرى، ترتكز على رؤية التاريخ فقط باعتباره مقاومة الشعوب المضطَهدة أو استغلال شعب لشعب آخر. إنه منظور ”صائب سياسيا” وغير صائب تاريخيا، مادام يرفض استحضار عناصر أخرى مثل علاقات القوة، الاقتسام العادل للعنف داخل كل المخيمات، إلخ. ماذا تظنُّ بهذا الخصوص؟
مكسيم رودنسون: سيكون التصور صائبا، لو كانت الأمور على هذا النحو، لكنها غير ذلك تماما. فعلا، لا أستسيغ قط تأويلا يجعل شعبا يحتلُّ أرضا كوارثٍ شرعيٍّ أبديٍّ، بموجب أفعال تعود إلى الماضي، وكذا صلاته مع تلك الأرض إلخ. يكمن حدّ أدنى إذا توخينا تحديد مفاهيم الحقّ على أرض؛ يلزم على أيِّ حال امتلاك معيار قاعدي ملتبس، وإلا بوسع الألمان مثلا ادعاء هذا الحقّ بخصوص فرنسا؟ هناك حدّ أدنى، يتمثل في أنَّ شعبا يحتل أرضا منذ سنوات أو قرون، وزرع الأراضي، وشيَّد منازل وأوراشا، يعتبر محتلاًّ شرعيا لهذه الأرض، على الأقل خلال فترة تاريخية طويلة.معيار معروف ضمنيا بشكل معتاد أكثر. وضع لاينطبق على اليهود الصهاينة تجاه عرب الأرض الفلسطينية.يظهر لي امتلاك العرب الفلسطينيين لحقوق تفوق الآخرين. إنَّهم فوق أرض تنتمي إلى أجدادهم، ينحدر جزء منهم من اليهود، إسرائيليين قدامى تحوَّلوا إلى ديانات جديدة وتحقَّق الاندماج على امتداد ألفي سنة تقريبا. بالتالي، يستحقون البقاء في أرضهم. لقد طُرِدَ ألمان بولونيا التاريخية، لكنه إبعاد يبرِّره أنهم يتحمَّلون جانبا من الفظائع المقترفة هناك، في نفس الوقت، لا يمكن توجيه تُهم من هذا القبيل إلى الفلسطينيين خلال فترة ألفي سنة المشار إليها.
س-تكلَّمت سنة 1967، عن الامبريالية فيما يتعلق بتوطين إسرائيل داخل فلسطين. فهل تمثِّل حاليا إسرائيل دولة إمبريالية؟
مكسيم رودنسون: استعملتُ مفهوم ”الامبريالية” لكن بتحوير لبعدها الأسطوري. أنا لستُ ثوريا على الأقل بالمعنى المتداول، من ثمَّة وظَّفتها وفق المعنى المألوف للكلمة، بخصوص دولة ذات نزوع توسعي. يمكننا تناول نموذج مقدونيا (التي أصدر بخصوصها المؤرِّخ جونيي، متجرِّدا من كل انحياز نظري، كتابا اختار له دون عُقدة، عنوان: ”إمبريالية مقدونيا وكذا الهيلينية الآسيوية”، بلد صغير توسَّع غاية الهند). لا يتعلق الأمر بتقييم، لكن محاولة رصد توجُّهات توسُّعية.
س-أوردتَ في مقالتكَ الصادرة ضمن صفحات الأزمنة الحديثة حول إسرائيل، التي نحن بصدد مناقشتها، إعلانا لتيودور هيرتزل يقول: “إذا مَنَحَنا جلالة السلطان فلسطين، بوسعنا حينها الاهتمام بتسوية كاملة لمالية تركيا. سنشكِّل هناك، بالنسبة لأوروبا، جدارا واقيا ضد آسيا، بحيث نلعب دور الحارِسِ المتقدِّمِ للمدنية ضد البربرية. سنبقى دولة محايدة، ضمن نطاق علاقات ثابتة مع كل أوروبا التي يجدر بها ضمان بقاء وجودنا”. إقرار يحظى مضمونه المزعج بآنية.
مكسيم رودنسون: لا أجرِّم بالضرورة هيرتزل، لأنَّ خطابه متَّصل بسياق حقبته، بناء على رؤية تاريخية للحقائق. يمكننا استيعاب، خلال تلك الحقبة، استحواذ الدولة المتحضِّرة على الأراضي”غير المتحضِّرة” بهدف استتباب الطمأنينة، السعادة والتقدم. تصور حضر أيضا عند ماركس. سنة 1900، أبدع الوزير البريطاني جوزيف تشامبرلين، مفهوم الامبريالية، لم يأخذ بعد خلال تلك الحقبة دلالة سلبية. تتحدث نصوص كثيرة عن الامبريالية بتصورات محايدة.
س-هل تعتقد بأنَّ مختلف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ ثلاثين سنة قد أظهرت مستويات متباينة في سياستها أو بالعكس من ذلك، تجلت استمرارية معينة، استند منطقها على المواقف التي اتُّخذت في المؤتمر الصهيوني المنعقد بمدينة بال السويسرية سنة 1897.
مكسيم رودنسون: هناك معطيات تؤكِّد الاستمرارية وأخرى تنطوي على التباين. تتجلى سمة الاستمرارية، في عدم تنازل أيّ حكومة رغم كل شيء، عن مبدأ شرعية ترسيخ إسرائيل بالمطلق فوق تلك الأراضي. أشار إلى هذه الحقيقة فقط زمرة إسرائيليين معزولين، بينما صمتت مختلف الحكومات والحركات السياسية، متمسِّكين بفكرة أنَّ وجودهم مصدره حقّ إلهي أو تاريخي. لذلك، قلت دائما بأنَّ الموقف الأول الذي يمكننا التماسه من أيّ حكومة إسرائيلية اعترافها بالتضليل الذي مورس على الفلسطينيين. أما استمرار الالتزام بالصمت حيال ذلك، فيستبعد كل تطلُّع نحو الأمل. فيما يتعلق بالعرب، فقد اعترفوا دائما بالوجود الإسرائيلي.
س-لم يُحذف غاية اللحظة من الميثاق الفلسطيني، البند الدَّاعي إلى القضاء على إسرائيل، رغم تصويت السلطة التشريعية الفلسطينية. دليل تتداوله باستمرار خطابات الإسرائيليين بما في ذلك اليسار، بغية توضيح بأنَّهم لم يحظوا بالشرعية من طرف الفلسطينيين ومن ثمة الإقرار بوجودهم.
مكسيم رودنسون: بهذا الصدد، الفلسطينيون مخطئون، بحيث ينبغي لهم تأكيد موقفهم، لكن يمكننا استيعاب تردُّد المقهورين وقد حُرموا من الإفصاح عن انكسارهم وقهرهم. تكلَّمتُ سنة 1967، في نهاية مقالتي عن التسوية؛ طرح يثير الغضب غالبا، لكني أعتقد وحده خيار نحو سلام، يظل سلميا نسبيا. تعني التسوية، ضرورة تنازل كل واحد من جانبه عن شيء ما.حاليا، بالنسبة للجانب الفلسطيني، يكمن الحد الأدنى من التسوية في الاعتراف بالدولة الإسرائيلية. فقط، نحن الأوروبيون، يمكننا الترافع دون خشية من أجل رفاهيتنا حتى يقبل العرب بشكل عام التَّنازل عن حقوقهم القديمة، لكن لايحقّ لنا إرغامهم على هذا الخيار،فهم من يختبر المعاناة.
س- يبدو بأنَّ تدريس التاريخ في إسرائيل ينحصر في تاريخ إسرائيل و المَحرقة.
مكسيم رودنسون: هكذا المنظور الصهيوني للعالم.لاحظت بفضل إحالة لبيير فيدال نوكي (مؤرِّخ فرنسي) أغنية مشهورة تُتداول هناك، منذ حرب 1967، تسمى: القدس الذهبية. تقول الأغنية: “لا يوجد شخص على الطُّرقات كل شيء يمضي بكيفية سيِّئة”، المقصود بالمقطع ”لا يوجد يهود”. أيضا، أصدرت جولاه كوهين متطرِّفة جدا وعضو في الكنيست، كتابا سير- ذاتيا في ريعان شبابها، تحت عنوان: ”ذكريات فتاة عنيفة” (متأثِّرة بسيمون دو بوفوار). انتمت كوهين إلى الإرهابيين اليهود، لمواجهة الوصاية البريطانية. خلال فترة تواجدها في مستشفى داخل السجن، تعرَّفت على ممرِّضة عربية وتشكَّلت بينهما أواصر المودَّة والتعاطف. تروي جولاه كوهين لصاحبتها الفلسطينية، بأنَّها أتت من اليمن على بعد ألف كيلومتر من المنطقة، كي تقاتل دفاعا عن وطنها باعتبارها يهودية، دون حتى طرحها السؤال بخصوص علاقتها بفلسطين! مما يعني عمليا طرد أو إخضاع الآخرين، غير اليهود. أعود باستمرار إلى برهاني البسيط. دعا هيرتزل في مدينة بال سنة 1897، نحو التحوُّل إلى الإقليم بهدف إقامة دولة يهودية؟ لتحقيق ذلك يكمن سبيلان: إمَّا طرد الساكنة العربية أو إخضاعها. ليس ذلك بدعاية، لكنه منطق ماحدث فعلا.
س- الآن وقد صارت إسرائيل واقعا قائم الذات، فما العمل بهذا الخصوص؟ التسويات التي تحدَّثت عنها في نهاية مقالتكَ الصادرة في الأزمنة الحديثة بدأت مع إسحاق رابين وياسر عرفات وكذا اتفاقيات أوسلو. هل توجد إمكانية للخروج من هذه المأساة؟
مكسيم رودنسون: نعم، هناك حلّ إذا رضخ الطرفان للتسوية وإلا فالحرب الأبدية، حينها لايمكننا القيام بأيِّ شيء.
س- هل تعتقد بأنَّ إسرائيل لم يكن بوسعها الوجود كدولة دون المَحرقة؟ لقد أشرتَ في مقالتكَ بأنَّه سنة 1943، شكَّلت نسبة اليهود 31% ضمن مجموع الساكنة. ألم يتحقَّق الأساسي سلفا؟
مكسيم رودنسون: مثَّلت المَحرقة عنصرا ضخما شجَّع على الاستعمار، لأنها تبعث ضميرا مرتاحا لمن يشدّ الرحيل إلى فلسطين. يتعلق الأمر بعنصر جسيم للغاية. لكن الحديث عن وضعية أخرى دون هذا المعطى، سيندرج ضمن خيال السياسة. لقد عشتُ في بيروت طيلة سبع سنوات قبل سنة 1948 وذهبتُ إلى فلسطين غير مامرَّة. بدا واضحا: تواجدت ساكنتان مختلفتان، تعامل معهما الانجليز بكيفية متساوية تحت سلطتهم العليا. أتذكَّر مناقشة أطروحة في بيروت سنة 1948، حول طبيعة الدولة لدى الكيان العبري تحت الوصاية البريطانية. بالفعل، توفَّرت مختلف الأجهزة، حكومة، إلخ. إنها دولة داخل دولة، كان هناك وزير للتعليم، ووزراء قطاعات أخرى.
س-حين الإصغاء إلى موقفك الواضح منطقيا على المستوى التاريخي، أتساءل في نفس الوقت ارتباطا بالحاضر، عن أفقه المسدود، بحيث يبدو كل نضال لتحقيق السلام مآله الفشل؟
مكسيم رودنسون: لا أبحث عن اقتراح موقف.أنتسب إلى ملعب التحليل، وليس الوصفات، بوسع الأشخاص النِّضال سواء دفاعا عن هذه الجهة أو تلك، لا مشكلة لديَّ، فقط ألاحظ وأبدي تشكيكا في النتائج. هكذا، وضعية المؤرِّخ أو عالم الاجتماع. أعترف بأنها ليس بوضعية مناضل بل فقط التعبير عن نشاط معين. أرى منذ زمن طويل، حدود ذلك ووجوه قصوره. حتما، أنا من دعاة السلام، لكن دون أوهام كبيرة بخصوص حظوظ الوصول إلى تحقيقه.
س- شاركتَ في توقيع عريضة حول مبادرة بعض ممثِّلي التنظيمات اليهودية العلمانية، نشرت على صفحات جريدة لوموند سنة 1996، جاء عنوانها كالتالي: “وقف مسار الحرب الإسرائيلية-العربية”، انطوت على العبارة التالية: ”ندعو يهود أوروبا كي يعلنوا ويؤكِّدوا تضامنهم مع الإسرائيليين الذين أظهروا بزخم رفضهم للعنف كيفما تجلَّت لغته”. لستَ معتادا على التوقيع باعتبارك يهوديا. فما الذي استجد بهذا الخصوص؟
مكسيم رودنسون: وجدته نصَّا جيدا والموقِّعون ينصحون اليهود دون إفصاحهم بالضرورة عن صفتهم تلك، فأضفت توقيعي.لكن يلزمني القول أيضا بكوني أجد صعوبة كبيرة في استيعابي معنى يهودي علماني. أنا علماني ولاأومن بالله، فالأمر يختلف، ولا أنحاز إلى ديانة معينة سواء اليهودية أو غيرها، بل لم أخضع لعملية الختان، لأنَّ والديَّ لم يكونا متديِّنين. أمي أبانت شيئا ما عن حسٍّ ديني حين قدومها إلى باريس سنة 1902، لكنها سرعان ما تخلَّصت من كل أشكال الإيمان وأضمرت مختلف مظاهر الاشمئزاز حيال الغيتو وكذا الحاخامات مثلما عاشت ذلك إبان طفولتها. إذن، حسب الدلالة الأكثر اعتيادا لكلمة علمانية، التي تضفي سمة التعدُّد على اليهود العلمانيين، بالتالي ما الذي يجعلهم يهودا؟ ما الذي يعنيه تصنيف من هذا القبيل حين عدم الإيمان بالله؟ ربما يمكنهم القول بأنهم يحملون تراثا… أيضا لاأرى حين رفضكَ الديانة اليهودية، الالتجاء في نفس الوقت كي تُبرِّر بكيفية صحيحة الانتساب إلى جماعة يهودية غير أصل يتشكَّل من أسلاف الديانة اليهودية. تقريبا، مختلف الروابط مُرَكَّبة. من بوسعه امتلاك اليقين بخصوص انتسابه؟ مثلا كان أبي وأمي من ديانة يهودية وأجبتُ عن ذلك إيجابا على صفحة الاستمارة التي اقتضى الوضع أن أملأها كموظَّف فرنسي خلال فترة حكومة نظام فيشي، حيث الإحالة على تعريف واضح: ”ثلاثة أجدادي من عرقٍ يهودي”. هذا يعني الديانة اليهودية، ثم تزوجتُ فرنسية، وأنجبنا ثلاثة أطفال، الابن البِكر تزوَّج مرتين بنساء غير يهوديات، أما الابنة فهي تعيش مع يهودي ينحدر من مدينة سطيف مناهض للصهيونية، أيضا ابني الثالث يعيش رفقة فتاة غير يهودية. لديّ أربعة أحفاد من ابني الأول، وبوسعهم أن يختاروا ضمن أسلاف نسبهم المعطى اليهودي، لماذا لا؟ لكنه سيكون فعلا مجانيا، بغير استدعاء انتماء إيديولوجي سياسي أو ديني.
س- بين طيات نفس أبحاث هذا العدد من مجلة” confluences”، كتبت بسمة قضماني درويش بخصوص إحالة بعض المثقفين الفلسطينيين على فكرة قديمة تتعلَّق بدولة ثنائية القومية، بحيث يظهر أنَّ حلّ الدولتين مآله الفشل مع خمول اتفاقيات أوسلو. فكرة يعود أصلها إلى نفس مضامين عدد الأزمنة الحديثة، الذي تضمَّن مقالتكَ عن إسرائيل.في المقابل، استحضرتَ ضمن سياق حواراتكَ مع جيرار خوري تحت عنوان: ”بين الإسلام والغرب”، ندوة انعقدت في كوبا سنة 1968، التقى خلالها مثقفون يساريون، حينما اعترضتَ آنذاك على أطروحة الدولة الوحدوية قصد معالجة الصراع الإسرائيلي –الفلسطيني. قلتَ أساسا: ”يكمن الحلّ الذي تمتدحه منظمة التحرير الفلسطينية في العثور ثانية على فلسطين منتدَبة مستقلة منذئذ، ضمن إطار تعايش جماعتين: لكن وقائع حديثة جعلتني أتَبَيَّنُ بأنه سبيل غير ممكن. أرى في كل مكان انفصال المجموعات الاثنية؛ بالتالي تشير مختلف الوقائع استحالة العودة بشكل سهل جدا إلى مجتمع سلمي متعدِّد العرقيات. ربما جيدة تسوية التسامح الديني الذي دعا إليه ياسر عرفات من خلال العلمانية، بالنسبة لبلد مثل فرنسا، دون إشكال عِرقي، لكنه ليس ممكنا داخل فلسطين. لذلك يلزم مؤقتا على الأقل توطيد بِنْيتين سياستين؛ مما يتيح إمكانية الاعتياد على التعايش، ثم فيما بعد، ذات يوم ربما، يبلغان مرحلة تسوية بنية وحيدة ”فهل أتى اليوم المنشود؟
مكسيم رودنسون: لا أومن دائما بالدولة الثنائية القومية لكن في نهاية المطاف أضمر أمنيات كي ينجح ذلك. يصعب توقُّع المستقبل. ما قلته في كوبا، أعتبره دائما ساري المفعول، إنه فعلا الحلّ الذي أفضِّله بمعنى دولة ثنائية القومية، هذا غير قابل للتطبيق في الفترة المعاصرة. لدينا أمثلة: الهند وباكستان، قبرص. لكنني مستعد تماما كي أعيد ترتيب أولوياتي إذا تجلَّى أدنى حظّ كي يبدو هذا التصور إجرائيا على أرض الواقع. قبل خلق الدولة، كانت أطروحة الشيوعيين مثلما تبنَّيتها خلال تلك الحقبة.
س- أيضا قلتَ في نفس المقالة: ”أصرُّ على الاعتقاد بأنَّ معطى كونكَ يهودي لايرغمكَ على توظيف وَزْنين ومقياسين، أو تتحلَّى بالصراحة وتعلن في كل الأحوال، أحقِّية كل مجموعة إنسانية،قصد التطلُّع باستمرار إلى معرفة انتمائها، هنا تحضر المجموعة اليهودية، تبعا لمعايير مناهضي السامية والصهيونية. يعتبر اقتناع من هذا القبيل بنقاء المجموعة ”العِرقية” ظاهرة متواترة عبر تاريخ المجموعات البشرية، تُنعت بالعنصرية”. هل تعتقد بإمكانية وصف الدولة الإسرائيلية بالعنصرية؟
مكسيم رودنسون: لا أحبُّ هذا المصطلح لأني بداية أجهل دلالته، مثل كثير من الألفاظ التي تستعمل في السجال السياسي. مصطلح العنصرية غير محدَّد بكيفية دقيقة، بل غامضة جدا. كل العالم من حولنا عنصري. أتبيَّن مع الجملة التي وظَّفتَها إحدى أشكال ما يمكن تسميته بالعنصرية. لا أتَّفقُ مع تلك التعريفات اليقينية والمطلقة. تكمن سمات يحقَّ لنا وصفها تقريبا بالعنصرية، لكن حقيقة، هناك تشكيلة وضعيات نتحسَّس داخلها جملة تباينات.لا توجد سلطة أرضية أو سماوية بوسعها الإقرار فيما هو عنصري أو ليس كذلك.
س-ما هي رؤيتكَ للمستقبل مع بداية الذكرى الخمسين؟ ألا تمثِّل الانتفاضة الفلسطينية مرحلة حاسمة بخصوص إدراك الإسرائيليين عدم رهانهم فقط على مفاوضات دولية تجري داخل أروقة رفيعة المستوى، لكن يوجد على أرض الواقع شعب فلسطيني يلزم أخذه بعين الاعتبار؟ باختصار، ما المستوى الذي تضع وفقه تسويات أخرى تسمح بتحقيق خطوة حاسمة لتحقيق السلام؟
مكسيم رودنسون: حول هذه النقطة الأخيرة، ليس أنا من بوسعه تحديد ذلك، بل يعود الشأن إلى الفلسطينيين الذين تغيروا كثيرا منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ويحتاجون إلى ذلك أكثر حاليا قصد تلبية مطالب لم تكن واردة قبل ثلاثين سنة، بوسعها التطور أكثر. فيما يتعلق بالانتفاضة، من المؤكَّد أنها لعبت دورا أساسيا، وحدهم المؤرِّخون بوسعهم لاحقا تبيان طبيعة ماجرى.
مرجع الحوار:
Confluences :propos par Régine Dhoquois-cohen.1998.pp :29- 36