غاستون باشلار: بروميثيوس (2-6)
ترجمة: سعيد بوخليط
حين تشكُّل نشاط نفسي بكيفية منتظمة ويتطور حسب وتيرة متقدمة، سيبدو أنَّه يتخذ دلالة عمل فني، وكذا جمال إنساني. عندما نلامس هذا الرنين المعرفي وفق جمالية نفسية، ويضاعف التطلُّع النفسي نحو معرفة ذلك تسارع المعرفة، حينها يرتبط تمدُّد بروميثيوسية معينة باكتساب المعارف.
معارف بين طيَّات أعماقنا تأتّت لنا من الآخرين، والكتب، تتسامى بنا الآن أبعد من أنفسنا وفوق الطبيعة المشتركة. نمط سلطة متعجرفة قد أمدَّت مجتهد الفكر بحيوية معينة .
أمكن تعدُّد وجوه بروميثيوس المتأتِّية من ماض الأساطير وكذا الثقافات، الترسُّخ دواخلنا قصد تشجيع نفسية تقنية على تجاوز ذاتها. بمجرَّد أن يقدِّم لنا علماء الآثار خاصية جديدة عن ملامح بروميثيوس حتى نتبيَّن نشاطا تجميليا.
عموما، كي تتِّسم تلك الوجوه الكبيرة داخلنا بفاعلية نفسية، يلزم اختبارها مثل محاولات- إغراءات بشكل أفضل- قصد تجاوز طبيعتنا الخاصة. توخِّي اختبار الإنساني، أكثر من الإنساني. سنرى بعد ذلك، قدرة ملامح عدَّة للمظهر الفرعي على إثارة مكامن ظلت جاثمة داخل خيالنا نتيجة التحفُّظ المفرط للإنسان المثقف. آنيا، لا نحتفظ من البروميثيوسية الفعلية سوى ما بوسعه إعطائنا اندفاعا صوب وجود أكثر من الوجود.
غير أنَّه، كي نحيا سموّا وجوديا، يلزم الإبقاء حيال انطلاقته على صفاء الوعي. ويبدو خلال كل مجهود للثقافة، تحوُّلنا إلى بروميثيوس نفسه. الماضي بمثابة صلصال بين أنامل الحالمين.
يلزمني القيام بفعل معين، لقد تحقَّق المأمول إبَّان ما درستُه سابقا. مع ذلك، لازال كل شيء يستدعي الاشتغال باستمرار، أوجِّه النِّداء أولا إلى نفسي. إذا استطعتُ فقط جعل البروميثيوسية المتناثرة، ضمن إطار مسار صيرورة واقعية تذهب من مناسبة ثقافية نحو أخرى! غير أنها، لن تشكِّل مهمَّة كتاب يعهد إلى الصور بغية المضيِّ قدما.
تندرج مختلف الوثائق التي أطرحُها ضمن جدلية الخيال والاختزال. سأقدِّم أولا وثائق اختزلت الكائن البروميثيوسي إلى إفراط.مثلا، الأسطورة التي تُرْوى بإفراط إنساني، وتُدَرَّس بشكل مألوف، مما يفضي إلى اختزال أوَّلي يقف أمام إفراط التمدُّد الشعري.
عكس ذلك، سأركِّز على أمثلة حيث نزوع التسامي كي يغدو مطلقا، مثلما أوضحتها في مقدمة كتاب”شاعرية المكان”(5). بالتالي، أنا على يقين بكوني تجاوزت حدود وقائع قصد الولوج حقا وجهة سيادة الشعري. إذا تمكَّنتُ من تحقيق وصل عميق بين كتلة التسامي، سأشكِّلُ حينها شعرية بروميثيوس.
تحدث لعبة مركَّبَة بين اختزال متطرِّف وتسامٍ مطلق، الاختزال إلى الإنساني وكذا التمدُّد الشعري، كما الحال بالنسبة لأشكال بروميثيوس بخصوص غنائية مأساوية. ينبغي قصد الاستفادة من الديناميكية النفسية لصورة بروميثيوس، تناولها مثل كائن يوافق تطلُّعا نحو أن يصير أكثر من مجرَّد كائن، مادام بروميثيوس يعتبر أكثر من إنسان. لكن، بما أنَّ الوضعيات التي يتموقع ضمنها الكاتب المسرحي تطابق غالبا وضعيات رسمت تصاميمها السِّمات الكبرى لإنسان يتجاوز الإنسان، الذي سيحتاج بين طيات الدراما إلى ملاقاة إنسان – مضاد. مثلا، تثمين غوته لعداوة الغضب بين بروميثيوس وزيوس. فالتحدي بمثابة الباعث الأول على الانتصار.
تقول إحدى مقاطع مناجاة بروميثيوس إلى زيوس:
هاهي سماؤكَ، يازيوس.
سديم وسحب،
مثلما الأمر مع طفل
يلعب بقطع رؤوس الأشواكِ،
اختبرْ قوَّتكَ على أشجار السنديان وعند قمَمِ الجبال.
لكن، اتركْ لي أرضي،
ومنزلي الصغير الذي لم تنشئه قط،
ومأويَّ مع شعلة لهيبه،الذي تحسدني عليه،
من يهبّ لنجدتي ضد غطرسة تيتان؟
كيف السبيل إلى إنقاذي من الموت والاستعباد؟
ألم تصنع أنتَ كلَّ شيء
فؤاد ملتهبٌ، فؤاد عنيدٌ؟
وتحرق الامتنان، خلال شبابكَ وكذا رحمتكَ وانحرافكَ
على أيِّ أساس ؟
أقدِّسُكَ أيُّها النائم هناك في الأعلى.
بينما تضمَّن المشهد الأول من مسرحية ”بروميثيوس 1773-1774 ”، حوارا بين بروميثيوس و ميركوري:
إرادتهم مقابل إرادتي:
الواحدة ضد الأخرى،
كفَّة عادلة، يبدو لي!
ميركوري
مؤسف! مواجهتها بهذه الطريقة،
آلهتكَ، الأبديين؟
بروميثيوس
آلهة؟ أنا لست إلها،
وأزعم أني أساوي أيَّ واحد منهم (6) .
(ترجمة بييز بريود، مسرح غوته، مكتبة لابلياد، 1942).
هامش:
Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :100-130
(5) شاعرية المكان (1957): ”يسود التسامي في القصيدة، على التحليل النفسي للروح التعيسة أرضيا. هكذا الأمر: انطواء القصيدة على سعادة خاصة بها، يقتضي منها توضيح بعض الدراما. يطرح التسامي الخالص مثلما أتصوَّره دراما منهجية، بحيث لايمكن للظاهراتي، طبعا، تجاهل الحقيقة النفسية العميقة لتطورات التسامي، التي اهتم التحليل النفسي طويلا بدراستها. لكن يتعلق الأمر بالانتقال ظاهراتيا، نحو صور غير معلومة وجديدة، لم تهيِّئها الحياة قط ويبدعها الشاعر. يتعلق الأمر بأن نحيا ما لم نحياه سابقا والانفتاح على انطلاقة للغة”.
(6) بالنسبة لبيير سيمون بالانش (الأعمال الكاملة، الجزء الثالث،باريس 1830، ص 110): ”يعتبر بروميثيوس، بمثابة الإنسان الذي يصنع وجوده، من خلال طاقة تفكيره”، لذلك حاول أن تكون بروميثيوس شغفكَ الروحي.
الإشارة هنا إلى نصِّ غوته ”الشعر والحقيقة” 1814، الذي استحضر صورة بروميثيوس بتمجيد ”ثرائها الخصب”، وتذكيره بصدى ”مناجاة بروميثيوس” في الأدب الألماني. عمل، أصدره لأول مرة فريديريك هنري جاكوبي سنة 1785 في دراسته عن ”نظرية سبينوزا”، سجال ضد إفرايم ليسينغ، بهدف طرح النقاش حول الخلاف بين الحلولية (الكلُّ هو الله) ثم التوحيد.
أما مضمون نصِّ ”القصيدة والحقيقة” (غوته، يومياته وحياته. ترجمة هنري ريشلو، باريس، ص 641– 642–643)، الذي اعتمد عليه غاستون باشلار، فقد جاء منطوقه كالتالي: ”ينبغي لهذا المصير الإنساني المشترك الذي يقودنا جميعا، أن يكون أكثر عبئا قياسا للمَلَكَات الذهنية الأولى جدا والشاملة للغاية التي طوَّرته… في نهاية المطاف، الإنسان مجبر دائما كي ينسحب إلى ذاته. لقد اختبرتُ غالبا، منذ سنِّ الطفولة، أنه خلال اللحظات الأكثر صعوبة، يأتيني صراخ مفاده: “أيُّها الطبيب، عالجْ نفسكَ بنفسكَ”؛ وكم من مرة عجزت عن القول، بتنهُّدٍ موجع: “أخطو وحيدا وسط الطاحونة!” حينما يتَّجه تأملي نحو وسائل تأكيد استقلالي، تبدو لي لحظتها مدى يقينية الموهبة الخصبة التي أمتلكها. منذ سنوات معينة، لم تغادرني لحظة واحدة. أتأمَّل هذه الموهبة الطبيعية، المنتمية إليَّ بكيفية خاصة، ولاشيء خارجيا يمكنه تقديم الدعم لي أو إحباطي،فأستمتع بتوطيد كل وجودي عليها.تغدو هذه الفكرة صورة؛ فيثيرني رمز أسطوري قديم، تحديدا بروميثيوس الذي انفصل عن الآلهة، قوة عالم بأكمله خلف ورشه. أحسُّ بعدم إمكانية إنتاج شيء مذهل سوى بالانعزال. أعمالي التي حظيت بقدر من النجاح، بمثابة أطفال للعزلة؛ ومنذ أن كنت موصولا أكثر بالعالم، لم أفتقر حتما،سوى إلى القوة ولا الشغف المبدع، لكن الانجاز لم يتحسَّن، لأني افتقدتُ تحديدا إلى أسلوب نثريا وشعريا؛ ثم تبدأ دائما مع كل عمل جديد محاولات التجارب والأخطاء. أتوخى إقصاء واستبعاد عون البشر، بل انفصلت عن الآلهة نفسها، على منوال بروميثيوس، وهذا طبعا، لأنه بناء على مزاجي وكذا عاداتي الذهنية، تعمل فكرة على ابتلاع وتعقُّب أفكار أخرى.
“تحتدم داخلي خرافة بروميثيوس. أنسج حسب مقاسي رِداء أسطورة تيتان العتيقة، ودون الذهاب بعيدا بتأملاتي، شرعتُ في كتابة مسرحية تعيد رواية الغضب الذي أثاره بروميثيوس لدى زيوس وكذا الآلهة الجدد، بأن خلق بكلتا يديه البشر، وتحفيزهم بمساعدة منيرفا، بتأسيس سلالة ثالثة. لذلك بادرت الآلهة المسيطرة فعليا كي تفصح عن شكواها، لأنه بوسعهم التحوُّل إلى كائنات تتدخَّل بكيفية غير شرعية بين الجبابرة (التيتان) والبشر. تنتمي إلى هذا التركيب الغريب مناجاة شعرية، ستلعب دورا في الأدب الألماني، بإعطاء الفرصة إلى إفرايم ليسينغ كي يعلن نظرية وشعورا ضد كارل غوستاف ياكوبي: ”بما أنَّ هذا الموضوع بوسعه بلورة اعتبارات فلسفية، مثلما فعل، بل ودينية، فقد شَكَّل خاصة مجالا للشعر. هؤلاء الجبابرة بمثابة شبح ضمن لوحة تعدُّد الآلهة، ومثل الشيطان بالنسبة إلى التوحيدية. مع ذلك، فالشيطان وكذا الإله الوحيد الذي يعارضه، ليس رمزا شعريا. شيطان ميلتون، رغم كونه قد صُمِّمَ جيدا، تكتنفه شائبة خلق عمل يحظى بمرتبة دنيا، والسعي إلى تدمير الإبداع الرائع لكائن أسمى؛ بينما يمتلك بروميثيوس ميزة إمكانية الخلق والإنتاج بالرغم من الكائنات العليا. أكثر من ذلك، إنه فكر جميل، مهيَّأ للشعر، من خلال خلق بشر، ليس بواسطة سيَّد يحكم العالم، بل كائن وسيط، يمتلك الكرامة اللازمة في هذا الإطار: ثراء لا ينضب، للأسطورة الإغريقية برموز إلهية وبشرية”.
*خدعة بروميثيوس: “الثنائي” بروميثيوس-إبيميثيوس
أنجب جابيتوس أربعة أبناء: أطلس، مينوتيوس، بروميثيوس، إبيميثيوس. صُنِّفَ دائما الأخوان الأصغر سِنَّا، كمعارضين شَكَّلا إن جاز التعبير ثنائيا توأم في إطار جدلية مبسطة: “لايظهر وجود مبرِّرات كافية قصد التخلي عن الدلالة البديهية لمن ”يفكر أولا” التي منحها الإغريقيون أنفسهم كدلالة لبروميثيوس، مقابل ”الذي يفكر ثانيا”، يقابل إبيميثيوس بين الأخ الحريص ثم المتهوِّر، الحكيم أمام المعتوه (جيمس فريزر، أساطير حول أصل النار، ترجمة ميشيل دروكير، 1931،ص239). يغدو كل شيء واضحا، نتيجة التعارض بين بروميثيوس وإبيميثيوس. الأول أكثر ذكاء من الثاني. لا قيمة للذكاء المابعدي مقارنة مع الماقبلي. ينتهي بنا هذا الذكاء المابعدي إلى جملة ترَّهات. لذلك قد يتجلى بروميثيوس مثل نموذج للذكاء الفطري.
يتساءل كارول كيريني حول إمكانية أن يبلور بروميثيوس وإبيميثيوس أصل ”كائن هجين، وإنسان أولي”. استلهم عمله عن ”نيوبي” هسيودوس، وعاد إلى التكامل بين مكر بروميثيوس وكذا حمق إبيميثيوس، اللذين يجسِّدان معا ”وحدة مبهمة”. بروميثيوس وإبيميثيوس مثل وجهين لذات ونفس الشكل الكامل: “يجسِّد الشكل الثنائي بروميثيوس وإبيميثيوس العِرق الإنساني، بكيفية دقيقة أكثر: عِرق البشر. يتكامل المكر والحمق، ويميزان الإنسانية. دون مكر بروميثيوس وحمق إبيميثيوس، لا وجود قط للبشري” (نيوبي، ص 41). سيتجلى هذا التوصيف ثانية باستمرار بين طيات الدراسات السابقة عند كارول كيريني الذي ذهب في بحثه: ”أسطورة المحتال والأسطورة الإغريقية”، غاية قوله: ”تكشف لنا انتصارات بروميثيوس خلال الآن ذاته عن وجهه الماكر والغبي: يمثل بروميثيوس في الوقت نفسه بروميثيوس وإبيميثيوس” (المحتال الإلهي، ص 159). بالتالي يقابل الغباء المكر. يكفي القول، بأنَّ المكر غباء أيضا. نعم، المكر ليس الذكاء الحقيقي. أخيرا، يظهر بروميثيوس الماكر مثل ”اختزال”، اختزال بروميثيوس متكامل وشعري (استعادته وتطويره).