رهانات الفرجة: قراءة مقارنة بين عرضي (اتكبت الخيل على الخيل) و(الفيشطة)
جمال الفزازي
يمتح العرضان المسرحيان “اتكبت الخيل على الخيل”1 و”الفيشطة” 2 من مرجعية فنية وثقافية مشتركة تتمثل في استلهام سيرة الفنانة حادة المشهورة بخربوشة الزيدية وعلاقتها الصراعية بقايد منطقة عبدة في نهاية القرن التاسع عشر بالمغرب، وإعادة بنائها فنيا ومعرفيا مما يجعلنا نقارن بينهما على مستويات النص العرضي والسينوغرافيا والتشخيص والإخراج.
1- النص العرضي لـ”اتكبت الخيل…” يحكي سيرة الشيخة حادة في صراعها المرير مع الإقطاعي القايد عيسى الذي خرب خيمتها وممتلكات عائلتها، و لم تسعفها توسلاتها له لإنصافها، مما اضطرها إلى التشهير به، بغناء العيطة وإذلاله أمام القبائل، ما دفعه إلى حبسها وتعذيبها، لكنها تمكنت من الفرار من الأسر، ما جعل القايد يدبر مكيدة عقد قران ابنه من إحدى بنات قبيلتها، كي تقوم خربوشة هاته بتنشيط الحفل، لكن، تم اعتقال ابنه، فرضخ القايد لأعدائه بإطلاق سراح الأسرى والسبايا، لتنتشر عيطة خربوشة بين القبائل وتجبر نظام المخزن على إقالة خديمه القايد عيسى بنعمر وخلعه عن قيادة قبائل عبدة.
وقد توفق الكاتب سالم كويندي في نسج خيوط الحكاية مبرزا أهم معالمها المتداولة في الذاكرة الشعبية المتمثلة لعلاقة “خربوشة” و”القايد” عيسى بنعمر، ممسكا بأهم العناصر الحكائية، وذلك بتحويل الواقعة التاريخية إلى مشروع عرضي فني مسرحي ممكن بمرجعية بريشتية وبرؤية نقدية للسلطة في علاقتها بالفن والمجتمع ، مقابل نص “الفيشطة” الذي كتبه تمثل الواقعة مستلهما الحكاية لكن بتحوير أهم معالمها التاريخية بل ركوب مغامرة تحويل مأساتها إلى كوميديا سوداء في محفل غنائي راقص.
النص الأول اقترب من الصراع التاريخي بتسمية الشخصيات: (القايد عيسى بن عمر والشيخة حادة الزيدية “خربوشة”) وأسماء القبائل المتصارعة والأحداث في الزمان والمكان بإيجاد بنية حكائية أساس، تتقاطع فيها الذاكرة الشعبية الشفوية والوثيقة التاريخية في بناء محكم فنيا ومعرفيا، في حين وظف نص “الفيشطة” شخصية “الباشا ” أداه الممثل فريد الركراكي، بدل “القايد” محتفظا بأسماء حادة والقبائل وأغاني العيطة، مما يجعلنا نتساءل عن مشروعية إبدال صفة القايد بالباشا، ونحن ندرك أننا في زمن قبيلة عبدة التي لم تشهد الباشوية… وكأنما اختار الكاتب هذا المنحى للتحلل من قيود المعطيات التاريخية، وفتح المحكي على مساحة تخييل واسعة. كما لحق التحوير شخصية حادة خربوشة نفسها فوجهها إلى التواطؤ مع زوجة الباشا بمؤامرة تنتهي إلى مقايضة العبد – مؤنس الباشا “الهاشمي”- (كظيمي كمال) بفك رقبته مقابل تحرير أسرى القبائل المحبوسين ، وهو ما تحقق لتتم إقالة الباشا من السلطة المخزنية المركزية. أستنتج أن المحكي اختزل الوقائع التاريخية، وحور بعضها، ونسج خيوطها في نص قد نعتبره مجرد ذريعة لعرض فرجة كوميدية “الفيشطة” – معناها الاحتفال – و الذي تهيأت له أسباب التأثير الفني في الجمهور بفعل قوة الإخراج وإمكاناته التقنية وممكناته الفنية على مستوى السينوغرافيا والتمثيل والرقص والغناء.
2- السينوغرافيا
لم ترق السينوغرافيا في عرض (تكبت الخيل…) إلى مستوى إبراز النص على مستوى تفضية الركح تقنيا وهندسيا وجماليا، من ذلك استعمال خلفية ستار أبيض تسلط عليه صور بنفس اللون “البياض” تمثل قصر الحاكم وأطياف الشيخة حادة، مما يجعل المنظور باهتا والعمق الخلفي فجا، كما أن الاعتماد على كراسي بلاستيكية مغلفة بثوب يجعل العرض “متقشفا” اذ لم يخصص للقايد كرسي ولباس يليقان بمرتبته القايدية وهيبته بين القبائل…
في المقابل، نجد سينوغرافيا (الفيشطة) من تصميم طارق الربح، قد بنت منظورها على هندسة الفضاء الركحي اعتمادا على ديكور متحرك أساسه أقواس خشبية مضاءة بالأزرق، تعلوها قبة بزخرفات أصيلة. وفي الخلفية، دائرة مضيئة للغناء تنفتح في الواجهة الامامية على مساحتي ضوء تم اسدالهما لإبراز العمق بالابعاد الثلاثة ، واستثمار الفضاء عموديا أيضا، للإبهار والإيحاء بالاحتفال ولتيسير مجال اللعب إلى حد تكسير الجدار الرابع للتفاعل الارتجالي مع الجمهور (وإن كنت أراه حشوا ما دام لا يطور سيرورة الأحداث الحكائية).
3- الإخراج والتشخيص
نلاحظ السلطة المعنوية الإرشادية الضمنية لنص (تكبت الخيل…) على الإخراج (حسن لهبابطة) ذاته الذي بات منفذا لما يقترحه النص رغم ما يتيحه من ممكنات فرجوية، مقابل إخراج أمين ناسور لعرض (الفيشطة) الذي اعتمد على تأثير درامتورجيا «المنظور والمسموع الغنائي” متحررا أكثر من سلطة نص الكلمة المكتوبة…
هذا، وللإخراج في (الفيشطة) سلطته في جعل السينوغرافيا والتشخيص سندا تقنيا وجماليا لإبراز رؤيته الفنية إلى العالم، في مقابل إخراج (اتكبت الخيل) الذي اتخذ من الكلمة سندا مهيمنا في رؤيته للعالم، يتضح هذا المسار على مستويات عدة منها مثلا التشخيص.
وقد لاحظنا مثلا، أن قايد “اتكبت الخيل” أقوى حضورا من خلال تشخيص الفنان (الخمولي) ومجاراة “أقوى” من تابعه المخزني (حسن لهبابطة) الذي أبدع في دور (السويلمي) باقتدار وإبهار، وإن كنت لم أستسغ أحيانا أن يكون التابع بنفس القوة الصوتية والحركية من سيده، في المقابل نجد الباشا في الفيشطة مقتصدا في التحرك والحركة والكلام ربما لإبراز السلطة التي وظيفتها الأساس هي الفعل وليس الكلام، لكن، تماختزار سيرورة بناء الشخصية دراميا في علاقتها الصراعية مع الأعداء وعلاقتها الشهوانية مع الحريم، إذ كان بالإمكان الكشف عن عمق التناقض الصراعي بين متطلبات دور القايد السلطوي الصارم الذي لا يضحك وبين مطالب شخصيته الشبقية المخمورة، لذا، استأثر التابع العبد بالاهتمام أكثر من الباشا نفسه، من خلال تمكن الممثل كظيمي من التشخيص الهزلي والغناء والعزف والرقص.
واللافت أن الدور الأنثوي كان غير متوازن نسبيا في (الفيشطة) فقوة الأداء التشخيصي والرقصي آلت للممثلة مريم الزعيمي (دور زروالة) التي امتلكت مفتاح خرصة العبد لتخليص المعتقلين من الأسر، مستعينة بحادة التي تم توظيفها عاملا مساعدا لها، وقد كنا نتوقع أن تكون خربوشة-حادة (السعدية لديب) هي المبادرة للمخاطرة وتحقيق الخلاص لأنها في أصل وضعها التاريخي والحكائي والغنائي هي مدار الحكي.
أما التشخيص الأنثوي في (تكبت الخيل) فإنه لا يرقى إلى ما يتيحه نص (اتكبت الخيل) ذاته من ممكنات تشخيصية، ولا يبلغ المستوى الفني للتشخيص الذكوري الذي يبدو نقطة الضوء الساطعة في عرض اختل فيه بعض التوازن بين التشخيص الذكوري ونظيره الأنثوي) مما أثر قليلا على إيقاعه العام .
إن ما أضفى على عرض –الفيشطة- فاعليته هو حيوية الرقص التي منحت لفضاء الركح جماليات من حيث تغريب شكل ملابس الشيخات وألوانها وخلق توازن كوريغرافي وظيفي من تصميم للفنان بنان وشرف الناجي، مبني على الاتساق التماثلي والتقابلي ، في انسجام مع تصميم موسيقي للفنان ياسر الترجماني مع عزف عبد الكريم شبوبا، بالمزج بين العيوط والأداء الأبرالي. ولعل استعانة الممثلين بمكبرات الصوت على الطريقة التقليدية أبعدنا قليلا عن طبيعة المسرح الجوهرية.
ومما يربك تمثلات المتفرج في تلقيه لعرض “الفيشطة”، هو تحويل واقعة اجتماعية تراثية “خربوشة” من الشكل المأساوي إلى الشكل الكوميدي، وهي مبادرة مخاطرة (مغامرة تذكرني بتحويل المسرحي الألماني بـ بريشت الشاب مسرحية “اوبرا القروش الثلاثة” من التراجيديا إلى الكوميديا) ولا شك أنه اختيار جمالي وفني تم عبره التضحية باشتراطات الواقعة المأساوية التاريخية في سبيل الاحتفال مع الجمهور .
1- ملاحظتان: حكاية خربوشة تختلف رواياتها المتعددة بحسب السجلات الشعبية الشفوية والغنائية والفيلمية والمسرحية .. وكذا السجلات التاريخية والنقدية المدونة على ندرتها لكنها تتقاطع عند أهم مكونات البنية الحكائية المشتركة، والتي تفرز مواجهة جدلية بين إرادة السلطة السياسية وسلطة الحب، بين السلطة العالمة وسلطة الفن الشعبي، بين المقدس والمدنس، بين المأساة والملهاة.
2- تتفق الحكايتان في القفلة بإسقاط الحاكم، محققتان نوعا من التطهير وإحساسا بالخلاص من طاغية، دونما انتقاد للسلطة المركزية ذاتها التي استمرت في تأجيج الصراع القبلي –السيبة-حفاظا على هيمنة مركزية الحكم المخزني “الاقطاعي” في مرحلة توحش الاطماع الغربية الاستعمارية.
_____________________________________________________________________________________
1- (اتكبت الخيل على الخيل) قدمته فرقة محترف شمس للمسرح بدعم من وزارة الشباب والتواصل.
2- (الفيشطة) قدمته فرقة آرتيليلي للفنون، الذي حظي بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل.