كاتب ياسين: ثائر من نوع آخر
جورج الراسي
أظنه شهر اكتوبر من العام 1974. كنت أتهادى نزولا في شارع ديدوش مراد في قلب العاصمة الجزائرية، في يوم خريفي مشمس، حين مر بمحاذاتي لجهة اليسار شخص رتب على كتفي وهمس في أذني: Viens assister à nos répétitions au Mouggar….
سبحان الله… إنه كاتب ياسين… من أين خرج لي في هذا الصباح.. يدعوني لحضور تمارين فرقته المسرحية في قاعة “الموغار”… هذه القاعة التاريخية في أسفل الشارع، التي كانت منذ الاستقلال مرتعا لشتى انواع العروض والحفلات والاحتفالات… والتي أثارت جدلا واسعا في الأسابيع الماضية بعدما أتت الجرافات على واجهتها القديمة بغية تجديدها وتأهيلها من جديد …
لا أعرف كيف اصطادني كاتب في ذلك الصباح… لكنني كنت سعيدا بمرافقته لحضور تمارين فرقته المسرحية… وإذا كانت ذاكرتي متماسكة فإن المسرحية التي كان يعمل عليها في ذلك الوقت كانت تحمل عنوان “حرب الألفي عام ” La guerre de deux mille ans، وهي عودة إلى تاريخ الجزائر القديم، عهد “الكاهنة” كما يسميها البعض…
ابن الثورة…
الواقع إنني كنت قد تعرفت على كاتب قبل سنوات، حين جاء إلى بيروت عام 1970، وعقد حلقة مسرحية في ما كان يعرف بـ”دار الغن والأدب”. بحضور بعض المهتمين بشؤون المسرح. كان من بينهم روجيه عساف… وزبيدة التي ستصبح زوجته فيما بعد…
“الفعل المؤسس” – إذا جاز التعبير – في حياة كاتب كان بدون شك الثورة الجزائرية. فكاتب المولود في 2 أو 6 آب / أغسطس من عام 1929، في بلدية “زيغود يوسف” في ولاية قسنطينة، شرق البلاد، شارك في انتفاضة مدينة سطيف في 8 ماي / أيار من عام 1945 التي راح ضحيتها آلاف الجزائريين، والتي تعتبر بحق خميرة الثورة المسلحة التي ستتفجر بعد بضع سنوات في فاتح نوفمبر 1954.
نصيب كاتب من تلك الانتفاضة إنه قبض عليه في التظاهرات، فسيق إلى السجن المركزي حيث تم توقيفه لمدة شهرين، قبل ان يطرد من المدرسة بصغته “مشاغبا”، وهي الصفة التي حرص أن لا تفارقه طيلة حياته …
” نجمة” تدخل على الخط…
هنا ندخل في حكايات أخرى، فأمه التي أصابها الجنون لاعتقادها أن ابنها مات في الأحداث، نفلت إلى مستشفى الأمراض العقلية في ولاية البليدة حيث أشرف على علاجها فرانز فانون (ما غيره) …
أما الحكاية الأهم هي أن أباه، الوالي القضائي، أرسله إلى بيت عمه ليتعافى من تلك الخضات، فإذا به يقع في خضة من نوع أخطر لا علاج لها… فما أن فتحت له الباب ابنة عمه – نغترض معه أن أسمها “نجمة” – حتى وقع أخونا في غرامها… وروح مسح دموع منذ تلك اللحظة… بخاصة وأن المسكينة متزوجة…! حلها اذا فيك..!
المهم أن المصيبة انتهت بنتاج أدبي موفق وهو رواية “نجمة”، روايته الوحيدة عمليا… التي ظلت منذ ذلك الحين واحدة من العلامات المميزة في تاريخ الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، وهي خليط من النفحات الشعرية، والعودة إلى استلهام أجداد مفترضين، ومحاولة كتابة شهادة ميلاد جديدة…
عندما اندلعت أحداث العام 1945 كان كاتب في صف الثالث ثانوي – classe de troisième – ولكنه كان قد دخل قبل ذلك المدرسة القرآنية في مدينة سدراته عام 1934 – اتضح فيما بعد أنها لم تعلم كثيرا على جلده – ثم دخل المدرسة الفرنسية Lafayette التي تقع في ولاية سطيف. وفي العام 1941 أودع في صف داخلي في ثانوية Albretini. في نفس الولاية (صار اسمها ثانوية محمد قرواني بعد الاستقلال)… انتهى به المطاف المدرسي في ثانوية مدينة عنابة..
هنا ارتكب أولى الكبائر – والعهدة على الراوي – إذ استقدم المحروسة “نجمة” – ابنة العم المتزوجة – وعاش معها ثمانية أشهر بالتمام والكمال، بما يمكن اعتباره “شهر عسل” – محرز – دون تبعات..!
كان الوقت قد حان لإصدار أول مجموعة شعرية بعنوان Soliloque عام 1946، وأصبح في العام 1947 محاضرا برعاية “حزب الشعب الجزائري” الذي أسسه مصالي الحاج، بعد أن حط رحاله في باريس، ثم ما لبث أن انتمى إلى الحزب الشيوعي الجزائري. ومن العلامات البارزة في تلك المرحلة محاضرة ألقاها في 24 أيار / مايو من ذلك العام، وكان في السابعة عشرة من عمره، في مقر “جمعية العلماء – La Société des Savants – بعنوان “الأمير عبد القادر والاستقلال الجزائري “، وقد نشرت فيما بعد في كتيب صغير عام 1948، وقد تميزت بنفحة “عروبية” مفاجئة ..!
“سبع الكارات”
توالت بعد ذلك مختلف المهام والإبداعات… فقد عمل بين عامي 1949 و 1951 صحفيا في جريدة Alger Républicain ونشر تحقيقين عن السعودية والسودان، تميزا بنبرة انتقادية حادة… تخلل ذلك عمله “كعتال” في ميناء الجزائر بعد وفاة والده عام 1950.
استقر بعد ذلك في باريس حتى العام 1959، حيث عمل مع مالك حداد والرسام محمد سياخم. وكان قد أجرى عام 1954 لقاء مطولا مه برتولت برشت.
في العام 1954 نشرت له مجلة Esprit مسرحية “الجثة المطوقة” – Le Cadavre encerclé التي اعدها للمسرحJean- Mari Serreau، ثم منعت في فرنسا.
” نجمة”: صدرت في العام 1956 …
وقد عاش حياة بوهيمية خلال مدة الثورة المسلحة متنقلا بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا ويوغسلافيا والاتحاد السوفياتي…
عام الأسقلال 1962 أقام في مصر فترة قبل أن يعود إلى الجزائر المستقلة حيث عاد للعمل مه جريدة Alger Républicain بين عامي 1963 و1967. مسرحيته “المرأة المتوحشة ” -La Femme sauvage التي كتبها بين عامي 1954 و1959، تم تقديمها في باريس عام 1963. مسرحيثي: Les Ancêtres redoublent de férocité – الاجداد يزدادون ضراوة– ثم -la Poudre d’ intelligence – غبرة الذكاء – قدمتا في باريس عام 1967، ثم في الجزائر عام 1969 بالعامية الجزائرية. وروى في تموز/ يوليو في مجلة Jeune Afrique تفاصيل لقاء مطول مع جان- بول سارتر….
مسرح للعمال… والجنود…
عام 1967 تخلى نهائيا عن الكتابة الروائية وسافر إلى فيتنام ليكتب بعد ذلك مسرحية L’homme aux sandales de caoutchouc عن هو شي منه، وهي المسرحية التي ترجمت وقدمت بالعربية غام 1970. في تلك المرحلة أجرى كانب قطيعة كاملة مع ماضيه، إذ قرر اعتماد العامية الجزائرية في أعماله. وكانت عدة مسرحيات في تلك المرحلة أثارت جدلا واسعا: “محمد خذ حقيبتك” عام 1971 – Mohamed prends ta valise ، ثم “صوت النساء” La Voix des femmes عام 1972. ثم La Guerre de deux mille ans عام 1974 “حرب الألفي عام” حيث عادت “الكاهنة” تتصدر المشهد، ثم “ملك الغرب” – Le Roi de l’ ‘ Ouest – عام 1975 – ثم Palestine trahie عام 1977 – فلسطين التي جرت خيانتها..(عينك تشوف اليوم.. !)
كون بعد ذلك كاتب فرقة يجوب فيها البلاد لكي يقدم مسرحه المجاني للعمال، حيث وجدوا واتخذ مقرا له قدمته له وزارة الثقافة في ضاحية “القبة” أولا، ثم في ضاحية “باب الواد”، إلى أن تم “إبعاده” إلى مدينة بلعباس درءا لخطره… وبما أن تلك المدينة فيها الكثير من الثكنات فقد وسع دائرة اهتمامه إلى الجنود… والضباط..!
ويقول إن مسرحه في تلك المرحلة أصاب مليون شخص… الله يبارك..!
معضلة اللغة …
مشكلة كاتب ياسين الأساسية هي مع اللغة، إذ يعتبر أن اللغة الفرنسية هي “غنيمة حرب”… والواقع إنها يمكن أن تكون “غنيمة” مفخخة …
وعندما يعدد لك اللغات الثلاث الأساسية على أنها: العامية – أو الدارجة، والأمازيغية، والفرنسية.. يعني أن هنالك مشكلة حقيقية في فهمه، إذ يتجاهل اللغة الأساسية والفاعلة، الفصحى. عدا عن أنها لغة القرآن، فهي منبع العامية التي تتعدد لهجاتها تعدد المدن و القرى والدساكر…
وهذا موضوع بحاجة إلى نقاش موسع…
زبيدة… ومصطفى كاتب…
لا يمكن أن أتكلم عن كاتب دون أن أذكر زوجته زبيدة. فهي من أم لبنانية، أم بمنتهى البساطة والطيبة .وقد عاشت صباها في بيروت حيث كان والدها ملحقا في السغارة الجزائرية…
كانت زميلتي في الجامعة، متيمة بالمسرح، لا يفوتها عرض من عروض المسرح الشعبي “شوشو “…
وكانت تعيش على تخوم “الضاحية الغربية” في منطقة نالت قسطها من القصف في الشهر الفائت، وهي منطقة رأس النبع – شارع محمد الحوت… كانت زبيدة مولعة باللغة العربية تريد تعلمها …
وبعد عودتها إلى الجزائر عام 1975 أسست مسرحا نسائيا، كل عناصره من النساء…
أما الحبيب مصطفى كاتب، أحد أبرز أركان المسرح الجزائري، فقد كان صديقا عزيزا… وهو ابن عم كاتب ياسين… يعني ” نجمة” هي أخته…
وحين كنا نتحدث عن كاتب كان يحرك يده وكأنه يبعد شيئا ويقول لي: “إنه يكذب… إنه عربي …”..!
سبحان الله… رحل الأثنان معا في نغس اليوم: 28 أكتوبر / تشرين الأول 1989…
رحل كاتب عن ستين عاما بسبب سرطان الدم في مدينة Grenoble الفرنسية، ودفن في مقبرة العالية في الجزائر العاصمة، رغم معارضة بعض الشيوخ على اعتبار إنه “ملحد ” …!
ومات مصطفى في مرسيليا….
رحم الله الاثنين.. كانا علمان من أعلام الجزائر…