وأخيراً سقط حكم الأسد

وأخيراً سقط حكم الأسد

حميدة نعنع

       لم أكن أظن أنني سوف أعيش حتى أرى سقوط حكم الأسد . مضى ربيع العمر وبدأ الخريف وأنا أتنقل غريبة عن الوطن من بلد إلى بلد. من قارة إلى قارة. من وطن قد أظنه لي إلى.. وطن يذكرني بمسقط رأسي الذي منذ أعلنت موقفي من نظام حافظ الأسد سحب جواز سفري السوري، ومنعت من دخول سوريا.

لم يكن الأمر سهلا ومحتملا إذ فجأة شعرت أنني وحيدة في هذا العالم اللامتناهي والمليئ بالرعب، وإذا كان الزمن قد قسا على رفاقي الذين أدخلهم حافظ الأسد صباح انقلابه باسم (حركة التصحيح) في العام 1970 السجون حيث قضوا طيلة أعمارهم وراء القضبان، وعندما شابوا نقل بعضهم إلى المقابر، وبعضهم الآخر إلى بيته لينتظر أن يرحل إلى ربه، فإننا نحن من بقى في المنفى عانينا الكثير ماديا ومعنويا. عانينا الوحدة وفقد الأحبة ورائحة تراب الارض ودفء العائلة والأهل. مات أبي وأنا بعيدة، ماتت أمي وأنا في بيروت لا أستطيع أن أعبر إلى الطرف الآخر، وبعد ذلك كرت السبحة، فتوفيت أختي وأخي وأخي وأخي. لم يبق من أسرتي أحد إلا الأولاد الذين لايعرفونني إلا في الصور، ولا أعرفهم إلا في صور صغيرة باهتة، لا أستطيع من خلالها تبين ملامحهم.

 كان علي وعلى كثير من الرفاق الذين في حالتي أن نتعود غياب الوطن أو غيابنا عن الوطن. كانت الشمس تميل إلى المغيب وأنا في نافذة غرفتي في الفندق المطل على البحر الأبيض المتوسط في نيس، حين تذكرت اللاذقية، المدينة التي أمضيت فيها طفولتي حين داهمتني ذكرى تلك الطفولة البعيدة، لم أكن حينها أعرف أن الأوطان يمكن أن تفقد، ففي مقهى العصافيري على الطرف الآخر من هذا البحر كنت أفتح ذراعي على مداهما وأحضن الماء والهواء، أحضن مدينة اللاذقية وتلال قراها الخضراء، فأشعر بسعادة لم أشعر بها حين كنت أتجول في موانئ العالم لا على شاطئ الباسفيك، وأنا في مدينة بارنكية في كولومبيا، التي ساقتني الأقدار إليها، ولا في طنجة على شاطئ الأطلسي، ولا على شواطئ بحر الصين. حين استقر بي المقام في باريس، وبدأت عملي كصحفية (مديرة مجلة “افريقا آسيا”، ومراسلة لصحيفة “السفير” في بيروت، ومجلة “التضامن” في لندن)، اخترت العمل على بلدان شمال افريقيا، والشرق الأوسط.

مازلت أتذكر رغم مرور الأيام والسنين رحلتي الأولى إلى تونس، رائحة الياسمين التي تنبعث من طرقات المدينة ودروبها في المنازه، رائحة الياسمين التي ردتني إلى دمشق، مرة واحدة رأيت نفسي في شوارع باب شرقي، والقصاع، وشارع بغداد، رائحة الياسمين الدمشقي. تنبعث من نوافذ تونس الزرقاء، واللغة العربية بالنكهة التونسية من فم الأصدقاء: خيرة الشيباني، مجيد، الشاعرة جميلة الماجري، وآخرين وآخرين.

عندما كنت أقطع حديقة “البلفيدير”، بين الفندق وبيت الصديق مسعود الشابي، لاحظت شجرات الزيتون، والتربة الحمراء التي تحيط بالجذور، اجتاحني شوق إلى إدلب مسقط رأسي ومهوى أحبائي وأهلي، كم كنت سعيدة وأنا أقبض قليلا من التربة الحمراء وأقربها من أنفي، فتختفي المسافات مابين تونس وإدلب، فأرى أبي هناك في كرمنا المزروع بالعنب والزيتون والمشمش والتين، أرى أبي قادما من الأفق البعيد ليضمني إليه بعد غياب لامتناهي.

هؤلاء الأصدقاء وقضايانا المشتركة وفرت لي وطنا مؤقتا بانتظار الوطن الغائب والبعيد، الذي لم اجرؤ على ركوب طائرة تعبر سماءه.

حياتي في باريس ونضالي لأجل القضايا القومية والإنسانية جعلتني أكسب أصدقاء عرب من شمال افريقيا (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا)، وأدين لهؤلاء الأصدقاء بالكثير من المعرفة ببلدانهم وثقافتهم..

من يمكن أن لا يتذكر صداقة عروة الزمان الباهي محمد، القادم من شنقيط والمنتمي إلى المغرب والاتحاد الاشتراكي.

من لايذكر الفقيه محمد البصري الزعيم المغربي ورفيق المهدي بن بركة..

 من لايذكر  محمد عابد الجابري ومشروعه حول العقل العربي..

 من لايذكر محمد بن سعيد قائد المقاومة  في المغرب ضد الفرنسيين..

 من لايذكر آيت قدور المشارك بالانقلاب ضد الحسن الثاني في الصخيرات

 من لايذكر الأصدقاء الجزائريين أحمد بن بلة، ولقائي الأول به في السجن (نشرت المقابلة في جريدة “السفير”)..

 من لايذكرعبد القادر حجار وكفاحنا المشترك من أجل التعريب.

كانت “السفير” قد فتحت لي صفحاتها لأكتب وأنشر مقابلات عن الأقطار المغاربية. كان التعريب حسب الصديق عبد الحميد المهري، وزير التربية الجزائري ثم الأمين العام لحزب جبهة التحرير، يقول لي دائما: إذا كنا حسمنا استقلالنا السياسي في اتفاقيات إيفيان، فإن استقلالنا الثقافي وهويتنا لاتزال مهددة.

أصبحت طرفا في معركة التعريب، كما قال لي ذات يوم  في عشاء دبلوماسي  السفير الفرنسي في الجزائر:

– لم تعودي صحفية حيادية.. أنت طرف في معركة التعريب، وأنا أتابع ما تكتبين. 

يومها أجبته باللغة الفرنسية جملة لم يفهم معناها:

– إن عروبتي تؤلمني في الجزائر.

 لم يفهم ما قلت، كيف له أن يفهم ولم يعش تلك الصباحات الإدلبية الباردة ونحن طالبات صغيرات ترتجف أيدينا تحت سارية العلم ونحن ننشد: “قسما بالنازلات الماحقات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر”. لم ير الدموع في مآقينا ونحن نخرج من السينما برفقة مدرستنا، بعد أن راينا فيلم جميلة بوحيرد، والعذاب الذي تعرضت له على يد الفرنسيين. بعد شهور من زيارتي الأولى لجميلة بوحيرد في شقتها القريبة من قصر المرادية، حكيت لها عن تلك المشاعر بعد أن رأيت الفيلم الذي مثلته العظيمة ماجدة الصباحي والكبير محمود المليجي. جميلة بوحيرد التي أصبحت صديقتي في ما بعد، أزورها كلما زرت الجزائر، كانت تعاني من عدم قدرتها على التواصل معي بالعربية، فهي من الجيل الذي أجبر على الدراسة باللغة الفرنسية، فكانت النتيجة ثورتها ضد فرنسا.

من يمكن أن ينسى المناضل الكبير من أجل هوية الجزائر العربية، الكاتب عثمان سعدي، الذي قادني إليه في مكتب من مكاتب وزارة التربية في شارع ديدوش مراد عبد القادر حجار. كان أحيانا يتحمس لعروبة الجزائر، فيعلو صوته بلهجته الجزائرية القريبة جدا من اللغة العربية الفصحى،  منددا بـ (مؤامرات فرنسا)  ضد عروبة الجزائر .غاضبا على فرنسا والعلم والتاريخ .

من الدار البيضاء حيث كرمني المغرب أدبيا على رواياتي وكتاباتي عن القضايا المغاربية، إلى فاس العاصمة التاريخية للمغرب، وأول مؤتمر إسلامي عقد بعد (ثورة الخميني)، رايت الملك الحسن بلباقته المعهودة، وسعود الفيصل بطوله الفارع، ينسحبان من قاعة المؤتمر، ومندوب إيران يبدأ كلمته بالآية الكريمة (واذا الملوك دخلوا قرية أفسدوها.. الخ الآية)، وخرجت وراءهما من القاعة لكي أرسل رسالتي إلى جريدة “السفير” في بيروت، فوجدت رتلا من الزملاء الفرنسيين  يطلبون مني ترجمة الآية إلى الفرنسية.

 كنت أعرف رئيس الوفد الإيراني، فقد صدف لي أن التقيته في مدينة نوفل لوشاتو، القريبة من باريس، حيث كنت أذهب يوميا لاستطلاع اخبار الخميني.

ذات يوم قادني الزميل بني صدر وصادق قطب زادة اللذان ناضلت معهما ضد الشاه إلى غرفة الخميني وتعرفت إليه. قال لي بني صدر إنه كان يجيد الحديث بالعربية لكنه يرفض أن يعطي مقابلات إلا باللغة الفارسية، وأجريت معه أول مقابلة مع صحيفة (نشرت في “السفير”)، وكان المترجم بيننا بني صدر، الذي سيكون أول رئيس للجمهورية الإسلامية بعد عودته مع الخميني من باريس، كان بني صدر يترجم للفرنسية وأنا أكتب بالعربية. في تلك المقابلة قال لي: إن أول مهامه بعد عودته لطهران إسقاط صدام حسين، لأنه قومي والقومية ضد الإسلام. أما هدفه الثاني فكان تأديب دول الخليج والسعودية، لأنهم استقدموا الأميركان إلى الخليج. عندما شرحت له أن الإسلام في الفكر القومي هو الأساس، لم يجبني، وتظاهر بعدم الفهم.

سقط نظام الأسد في دمشق على يد حفنة من شباب ثورة 2011، الذين شهدوا المذابح. وها هي السجون التي كان الرفاق الذين أتيح لي أن أقابلهم بعد خروجهم أحياءً منها، رغم فظاعة ما حكوا لي لم أكن أتخيلها بهذا الإجرام واللإنسانية. أي ظلم ومعاناة عاشها الشعب السوري من أجل حريته!

الذكريات تعود بي إلى ليبيا والعقيد الغاضب من نفسه ومن العرب، لأنهم يرفضون أن يتوحدوا (مقابلة هامة معه حول الدين والماركسية والمرأة). كان القذافي يذكرني دائما برواية دونكيشوت للعظيم سيرفانتس. القذافي الذي حمل إلى ليبيا نفحة حداثة استهلكته السلطة، ولم يعرف كيف يخرج منها بسلام. ظل يكابدها ويراكم أخطاءها حتى ألقت به في مؤامرة فرنسية أوربية لحلف الناتو، دفع بعض دول الخليج تكاليفها، مات القذافي ميتة بشعة لأن الغرب استطاع التلاعب بعواطف وقوى الشعب الليبي، ها هي ليبيا مقسمة وفريسة للمافيات.

سقط بشار الأسد..

ولا نستطيع أن نحكم ماذا ستكون طبيعة النظام الذي جاء بعده لكن علينا أن نأمل أن تكون السلطة الجديدة قد استفادت من دروس التاريخ، لكي تبني مع كل السوريين بكل أديانهم ومذاهبهم وعرقياتهم دول مدنية ديمقراطية، يكون فيها المواطن حرا ويكون الرئيس مواطنا شريفا حرا برتبة رئيس.

للأسف لن أستطيع الآن أن أزور إدلب لأقف على قبر أبي بعد نصف قرن.. وأقول له: سامحني على هذا الغياب.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حميدة نعنع

صحفية وكاتبة سورية مقيمة في باريس