الفقيه محمد البصري: وفي الليلة الظلماء…

الفقيه محمد البصري: وفي الليلة الظلماء…

جورج الراسي

    في  14  تشرين الأول/أكتوبر المقبل، تحل الذكرى العشرون لرحيل واحد من المناضلين العرب الشرفاء هو “الفقيه” محمد البصري،  “فقيه الكفاح المسلح” كما كنا نلقبه…

   لا أدري بأي مصادفة من مصادفات التاريخ والجغرافية اختار محمد البصري نزلا متواضعا هو فندق Le Crillon في بلدة برمانا الجبلية السياحية اللبنانية، على بعد طابة بينغ بونغ من منزلي، لكي يحل فيه خلال زيارته تلك للبنان…

   لم تكن تلك المناسبة الفريدة الحافز الوحيد لزيارته. فقد تكررت اللقاءات معه منذ سبعينيات القرن الماضي بين دمشق والقاهرة وبغداد وطرابلس والجزائر وباريس، و أخيرا الدار البيضاء، التي لم يرجع إليها إلا في صيف 1995، بعد رحلة منفى دامت قرابة ثلاثين عاما، بفضل عفو شامل أصدره بحقه العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني …

 أربعة احكام بالإعدام…

   كان محمد البصري أو “الفقيه”، يحمل على كاهله أربعة أحكام بالإعدام، واحد صدر قبل الاستقلال عام 1954، عندما كان يقارع الاستعمار، وثلاثة أحكام صدرت بعد الاستقلال في أعوام 1963  و 1972 و 1973 عندما كان يقود المعارضة.

   كان الفقيه يريد أن يكون على مسافة واحدة من كل العواصم العربية التي كان يعتبرها “واعدة”.. لا بل كان أقرب إلى الجزائر من المغرب في قضية بالغة التعقيد والحساسية مثل قضية الصحراء الغربية، بحكم علاقة نضالية ربطته مع مصطفى الوالي الزعيم الأول لجبهة البوليساريو منذ مطلع السبعينيات، أيام محاربة الاستعمار الإسباني للمنطقة، أي قبل بروز تلك المشكلة بعد الانسحاب الإسباني عام 1975. وأدمت قلبه ” حرب الرمال ” بين المغرب والجزائر عام 1963.

   وقد كلفته تلك المواقف غاليا لا سيما وأن رفاقه في المغرب كانوا أكثر الأطراف حماسة لتحقيق ما اعتبروه  “وحدة المغرب التربية”.

   ويعرف الذين عايشوه خلال الأسابيع الأخيرة من حياته أنه كان مسكونا بهاجسين: الأول صدور مذكراته في العاصمة الفرنسية، والثاني والأهم محاولة إيجاد مخرج لقضية الصحراء الغربية، و إعادة المياه إلى مجاريها بين الرباط والجزائر…

 نصف قرن من النضال…

لقد ارتبط اسم محمد البصري بتاريخ المغرب المعاصر منذ أواسط القرن المنصرم. فقد رافق نشوء حزب الاستقلال عام 1944. وبعد إزاحة الملك عن السلطة من طرف الاستعمار، أسس مباشرة عام 1953 –  وكان بالكاد يبلغ السابعة والعشرين من العمر- أول منظمة سرية مسلحة شكلت الذراع العسكرية لحزب الاستقلال. وقد ترافق ذلك مع الاستعدادات التي كانت جارية لتفجير ثورة فاتح نوفمبر 1954  في الجزائر، و مع قيام حركة مقاومة مسلحة في تونس.

تم اعتقاله عام 1954 وأودع في سجن القنيطرة. لكنه نجح في تنظيم عملية هروب جماعية شملت 37 سجينا (قتل منهم اثنان) عام 1955.

وعندما استعاد الملك عرشه استقبله وعانقه،

بعد ذلك التاريخ كان هو الخطيب الثاني بعد الملك في كل عيد لـ”ثورة الملك والشعب” في20 آب / أغسطس من كل عام .

   وفي 25 كانون الثاني/ يناير 1959  كان اسمه لصيقا مع عبد الرحمن اليوسفي عندما انشقا عن حزب الاستقلال لتكوين “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، ذلك أن الرجلين كانا يمثلان ” الخيار الاشتراكي” في تلك المرحلة، و إن كان الفقيه أكثر ميلا إلى “الخيار الثوري”.

   أشرف الرجلان فيما بعد على إصدار جريدة “التحرير”، و تم اعتقالهما معا في 15 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1959، في ظل حكومة عبدالله ابراهيم بتهمة التآمر، وبسبب إحدى افتتاحيات الجريدة .

وبقيا معا في كل الصراعات والخصومات والمحاكمات طيلة عقد من الزمان حتى مطلع السبعينيات، بخاصة بعد ما عرف بمؤامرة 29 تموز /يوليو عام 1963، حين تم توقيف نحو خمسة آلاف مناضل من مناضلي الاتحاد الوطني والحزب الشيوعي.

لقد ملآ معا الفراغ الذي تركه المهدي بن بركة بعد خطفه في باريس و تذويبه في حامض الأسيد في 29 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1965.

“انقلاب بعثي”…؟

 

صورة تاريخية تجمع بين محمد البصري وميشيل عفلق (بغداد في 12 - 4 - 1979).
صورة تاريخية تجمع بين محمد البصري وميشيل عفلق (بغداد في 12 – 4 – 1979).

   لكن تلك المرحلة المشتركة من النضال ما لبث أن لفها ضباب كثيف بخاصة بعد ولادة “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” في 30 تموز / يوليو عام 1972، بعد انشقاق جديد، واتهام محمد البصري بمحاولة تنظيم “انقلاب بعثي” في حزيران/ يونيو من عام 1971، ثم الزلزالين اللذين هزا العرش المغربي وكان أولهما محاولة انقلاب الصخيرات في 10 تموز/ يوليو 1971، و حادثة ” البوينغ” الملكية في 16 آب / أغسطس 1972، وما أعقبهما من انتحار الجنرال محمد أوفقير- أو نحره – …وكان محمد البصري قد أثار زوبعة سياسية حين سرب إلى إحدى الصحف رسالة غامضة يرجع تاريخها إلى العام 1974، تنطوي على اتهام لبعض قادة الاشتراكي بالضلوع في مؤامرات أوفقير، في حين يتهمه خصومه بأنه هو من حاول استخدام أوفقير لتغيير النظام، على أن تتم إزاحة الجنرال فيما بعد، وفق الطريقة المعتمدة…

 

وريث عبد الكريم الخطابي…

   هذه كلها أمور متروكة للتاريخ. المؤسف أن الرفاق تفرقوا منذ مطلع السبعينيات. فذهب عمر بن جلون وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي في طريق، وذهب البصري في طريق آخر محاط بالسرية وبدعوات الكفاح المسلح.

وزادت الهوة بين الطرفين عندما قام الفقيه بتنظيم أعمال مسلحة في بعض المدن و”الدشرات” انطلاقا من “مولاي بو عزة” في الأطلس المتوسط و “غولينا” في الأطلس الأعلى، على الحدود مع الجزائر، فيما عرف بـ”مؤامرة 3 مارس/ آذار”.

وزادت تلك الهوة بسبب موقف البصري من قضية الصحراء الغربية.

   نحفظ من محمد البصري أنه ظل في ذاكرتنا وريث عبد الكريم الخطابي، عربي القومية والفكر والهوى، رافعا راية الكفاح المسلح على امتداد رقعة المغرب العربي لمقارعة الاستعمار القديم…

 في تراب شفشاون…

   هل تذكرون قصة ذلك الطفل المغربي الذي وقع في بئر.. العام الماضي وعجزت كل جهود الأرض عن إنقاذه…؟ كان ذلك في مدينة شفشاون في الريف المغربي.

وفي شفشاون مدينة الزهور، توفي محمد البصري بعد فشل محاولة إنقاذ قلبه في مشفى باريسي في 14 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2003، هو المولود في مراكش عام 1926…

لم يحمل من الفقه تكوينه الإسلامي في كلية بن يوسف فحسب، بل كان فقيه الكفاح المسلح من أجل الاستقلال والحرية في أزمنة تراجع فيها الكفاح وساد فيها الفجور وسرقة قوت الشعوب…

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني