محمد بنسعيد آيت إيدر.. الخالد في البال والنفس والقلب والتاريخ

محمد بنسعيد آيت إيدر.. الخالد في البال والنفس والقلب والتاريخ

محمد الهجابي

       سأطرق في هذه الشهادة المتواضعة بصدد علاقتي بفقيدنا سي محمد بنسعيد آيت إيدر جانبين: جانب المسألة الوطنية وجانب المسألة الشبابية.

أولا: في دور محمد بنسعيد في القضية الوطنية

     عرفت الرجل باسم “خالد” لما التحقت بمنظمة 23 مارس، أواخر سنة 1977 قادما إليها ضمن جماعة من مناضلي حزب التقدم والاشتراكية. لكن تفاصيل عدة كانت تنقصني لكي أستكمل الصورة عنه. الذي كنت أحوزه من معلومات ينحصر في معطيين اثنين: 1) إنه أحد القادة الأساسيين بالمنظمة في المنفى. 2) وإنه كان أحد الأعمدة الأساس في مجموعة (ج) أو “حلقة المهدي بنبركة”؛ وهي المجموعة التي كانت تتكون من قيادات جيش التحرير وأعضاء من إ.و.ق.ش بالمنفى، وكان أفراد منها قد عززوا صفوف المنظمة، على مراحل، بعد نقاش مستفيض أجراه أعضاء من قيادة المنظمة بالجزائر وفرنسا كانوا قد التحقوا بهذين البلدين على إثر حملات التمشيط التي باشرتها السلطات المغربية تجاه اليسار الجديد بالمغرب، ولا سيما ابتداء من سنة 1972، لكن خطوات هذا النقاش التمهيدية كانت سبقت هذا التاريخ بسنتين على الأقل (أحمد الحجامي بالجزائر منذ دجنبر 1970، ومن أوائل لاجئي حركة اليسار الجذري، وأحمد حرزني من المغرب 1971 وعبد الغني أبو العزم في فرنسا)، وإنه بالتحاق أفراد أساسيين من مجموعة (ج) في ربيع 1973 بجسم المنظمة (عبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد ورشيد سكيرج وحميد برادة)، والذين ما برح أن افترش إثرهم آخرون (لحسن زغلول ومحمد بورحيم ومحمد مخلص وأحمد تافسكا وإيدر أرسلا وعلي الطاهري وحسن مرزوق وعبد النبي ذكير وأحمد الركيك.. إلخ)؛ بهذه الالتحاق إذا استطاعت المنظمة أن تحسم في الكثير من الإشكالات السياسية التي ظلت محل تداول وتنازع بين مكوناتها في الفهم والتأويل إبان فترة تأسيسها، وفي مقدمة هذه الإشكالات: قضية الصحراء المغربية. وبحسمها للموقف من هذه القضية لجهة مغربية الصحراء دشنت حركة 23 مارس أفقا للنضال الوطني في تلازمه الجدلي بالنضال الديمقراطي؛ أفقا من طراز جديد ومغاير للفهم اليسراوي الذي لازم المنظمة في انطلاقة تأسيسها.

    وأذكر أنه في سنة 1980، وبينما كنت أستعرض، في إحدى صباحات شهر يناير الباردة، جوار مقصف الحي الجامعي بظهر المهراز معروضات بائع الكتب والمجلات المفروشة على الطوار، التقط بصري بالمصادفة عنوانا بمجلة “جون أفريك” (ع. 994، يناير 1980). أخذت العدد بين يدي وإذا به يتضمن استجوابا مع بنسعيد أجراه معه الصحافي حميد برادة (الرئيس السابق لأوطم سنة 1963)، بحضور الرفيقين محمد الحبيب طالب ومحمد المريني عضوي المكتب السياسي. استُنفر مناضلونا لاقتناء العدد وتداوله. وكان أغلبهم يرى لأول مرة صورة لأعضاء القيادة بالخارج ويقف على أسمائهم الأصل عوض “خالد” كاسم لمحمد بنسعيد، و”الريفي” كاسم لم.ح. طالب، و”فتاح” كاسم لم. المريني. كان هذا ثالث خطوة لاقترابي من بورتيه الرجل. ومعلوم أن الاستجواب إياه حمل عنوان: “ماركس ولينين والحسن الثاني: استجواب لمحمد بنسعيد ، قائد سابق في جيش التحرير بالجنوب” (الحوار هذا تقاسمته مع جون أفريك كل من البايس وهيرالد تريبون الدولية ولوموند وتايم ماكزين). في استهلال برادة للاستجواب قال: «إذا لم تكن الوحدة الوطنية حول الصحراء تفاجئ أحداً في المغرب، فإنها لا تكف، بالمقابل، عن إثارة المفاجأة في الخارج، متى لم يبلغ بها الأمر إلى إثارة سخرية قد تصل إلى حد الافتراء (…) هنا نقدم شهادة تلزم القائمين على الرقابة التي يجريها البعض على مواقف اليسار المغربي من أن يكون أكثر تواضعا. إنها شهادة محمد بنسعيد الذي لا يمكن إتهامه، بأي حال من الأحوال، بأقل تهاون تجاه الحكم القائم بالمغرب. ألم يُحكم عليه بالإعدام لمرتين في بلاده؟ ألا ينتمي اليوم إلى تنظيم (حركة 23 مارس) غير معترف به؟». (وبالمناسبة كان اليسار الفرنسي أو جزء منه على الأقل، زمنئذ، يتجاهل أن هناك رفاقا لنا يقبعون بالسجون محكومون بسنوات سجن قاسية وقد جاهروا بمغربية الصحراء ولم يكن يخشون في ذلك لومة لائم، وفي مقدمتهم الرفاق علال الأزهر والفقيد عبد السلام المودن وعبد العالي بنشقرون في محاكمة يناير 1977، وقد باتوا يعرفون بمجموعة 14 التي دافعت بقوة داخل السجن المركزي عن مغربية الصحراء متحدية كل أشكال الحصار والنعوت الفجة).  كان لهذا الاستجواب الأثر الكبير على نفسية مناضلينا في ما أتذكر. وأحسب أن الكثير منهم أدرك ساعتها أنه أمام رجل استثنائي.

    ذلكم العدد من مجلة “جون أفريك” الذي سمحت له السلطات الرسمية بتوزيعه بالمغرب سيكون، كما يعلم الكثير، إحدى الإشارات التي ترجمت في حينه بأن النظام المغربي لا يرى مانعا من التحاق اللاجئين بأرض الوطن. ثم كان قرار اللجنة المركزية للمنظمة في دورتها الثالثة (سبتمبر 1980)، لما بعد مؤتمر 1978، الذي قضى بالانتقال إلى الشرعية باعتبار أن سمة المرحلة السياسية التي نخوضها، إلى جانب القوى الوطنية الديمقراطية، هي إجمالا «مرحلة إصلاحية ديمقراطية والتي فرض طبيعتها تلك هو هذا التراكب “الاستثنائي” بين القضية الوطنية وبين القضية الاجتماعية والديمقراطية في شروط موازين قوى مختلة خارجيا لصالح الأطروحة الانفصالية، وداخليا لصالح الطبقة البورجوازية السائدة» (ص.5 من “وثيقة الشرعية” بخط اليد)، وأن “الهامش الديمقراطي” الناجم عن هذا التراكب، يتسع، بالتالي، لممارسة سياسية وتنظيمية “قانونية” للمنظمة على طريق «تنمية عوامل الثورة الاجتماعية- السياسية» (وثيقة الشرعية نفسها، ص.2). هذا التوجه الجديد لدى المنظمة هو ما ستكثفه صيغة “خط النضال الديمقراطي الراديكالي”.

    وهكذا سيكون لي شرف المشاركة ضمن حشد من مناضلينا وممثلين من القوى الديمقراطية سياسيين ونقابيين وجمعويين في استقبال أعضاء من قيادة المنظمة (محمد بنسعيد ومحمد المريني ومحمد الحبيب طالب ومصطفى مسداد والعربي مفضال ورشيد سكيرج) بمطار النواصر صباح يوم الأحد 8 مارس 1981. وكان يوما مشهودا في تاريخ المغرب المعاصر. أذكر أنه بقدر ما كنا، نحن المناضلين، على رغبة كبيرة في التعارف على بعضنا البعض بالكثير من التفاصيل بالقدر عينه الذي كنا فيه محتاطين وحذرين بفعل استمرار آثار مرحلة السرية لما قبل مؤتمر المنظمة في 2 يوليوز 1978 وآثارها الممتدة حتى إلى رفع المنع عن أ.و.ط.م في 9 نونبر 1978 وتأسيس ك.د.ش في 25 نونبر 1978، فإلى مرحلة “شبه الشرعية” التي وافقت صدور جريدة “أنوال” في 15 نونبر 1979 وإلغاء العمل في الجامعة باسم “أنصار 23 مارس” بقرار من اللجنة المركزية للمنظمة في فبراير 1979 مقابل العمل باسم تيار “الطلبة الديمقراطيون”، ثم انعقاد المؤتمر 16 لأ.و.ط.م في سبتمبر 1979، مكرسين بذلك مرحلة “شبه الشرعية” التي تواصلت تحققاتُها، على أصعدة عدة، إلى غاية حصول المنظمة على وصل “الشرعية القانونية” في 4 ماي 1983، والذي ثبتته ندوة 21 و22 ماي 1983 بالرباط بقاعة علال الفاسي (سمية) تحت شعار “دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع” بالإعلان الرسمي عن ميلاد منظمة العمل الديمقراطي الشعبي. وإذن، بمطار النواصر (مطار برشيد سابقا) قدمت فيه إلى الرفيق محمد بنسعيد بصفتي عضو قيادة أ.و.ط.م (اللجنة الإدارية) وعضو هيأة تحرير نشرة “الشباب الديمقراطي”. ومنذ تلك اللحظة صار بالإمكان أن ألتقي رفيقنا بمقر جريدة “أنوال” وبغيره من مؤسساتنا ومناسباتنا الحزبية.

    وحدث أنني كثيرا ما رافقته مشيا على الأقدام من مقر جريدة “أنوال” قبالة “باب الحد” إلى غاية صيدلية العمالة بقصد علاج حالة أذنه التي ظل يعاني منها لوقت طويل. وفي غدونا كما في رواحنا ذاك، ونحن نضرب على أرصفة طرقات العاصمة، حدثني الرفيق عن المنفى بالجزائر وعن “دار الحزب” بحي القبة في الجزائر العاصمة التي يقوم بأعمالها فقيدنا سي لحسن زغلول (سي عبد الرحمان) قيدوم اللاجئين. لكنه أجزل القول في كفاح جيش التحرير من أجل استكمال الوحدة الترابية بالجنوب. كنت أصغي مستوضحا عن العديد من الجوانب في الموضوع. زمنها كان يهمني الجواب عن سؤالين اثنين حملتهما معي منذ بداياتي الحزبية أوائل السبعينات. السؤالان هما : كيف كانت علاقة المقاومة المغربية بالحزب الشيوعي المغربي (وفي أرشيفي حصيلة من لقاءاتي بعبد الله العياشي والمعطي اليوسفي)، ثم كيف مارس أعضاء المقاومة العمل السري، وهل من تجربة لها يمكن الاستفادة منها (مستحضرا، في هذا المقام، تجربة المقاومة الفرنسية للنازية والمقاومة الفيتنامية للسلطة الاستعمارية). على أن ما أمدني به الرفيق من معطيات في تلك المِشيات التي جمعتني به لم تكن ترتبط بالسؤالين إياهما، وإنما همت الشروط التي واصل فيها المقاومون المغاربة المنفيون النضال من أجل مغربية الصحراء سواء تجاه موقف نظام بومدين أو موقف نظام القذافي؛ وهما موقفان لم يكن يأخذان بنظر الاعتبار موقف الشعب المغربي وقواه الوطنية والديمقراطية من الوحدة الترابية. وكانت جريدة “23 مارس” بالخارج (ابتدأت في الصدور، في طابعها الجديد، في فاتح فبراير 1975 وتوقفت بقرار من المنظمة في سبتمبر 1980، وصدر منها حوالي 67 عددا)، وبعدها جريدة “أنوال” بالداخل، قد دأبتا على نشر جملة وثائق وإسهامات قدمها الرفيق بنسعيد لدحض الأطروحات الانفصالية؛ وهي إسهامات راكمت أرشيفا هائلا كان من ثماره إصدار كتاب “الموقف الوطني الثوري من مسألة الصحراء المغربية” (ضمن منشورات جريدة “23 مارس” عن دار الكاتب، بيروت في يونيو 1978) خصص الباب الثالث منه لمقابلة مطولة مع الرفيق أنجزها الصحافي محمد باهي حرمة. في مواقف رفيقنا بنسعيد باسم منظمة 23 مارس ما يفيد بأن القضية الوطنية تحتل ركنا أساسيا في نضالنا الوطني والديمقراطي. وعلى هذا المستوى ظل الرفيق يؤكد على أن “العدمية الوطنية طريق نحو العدمية السياسية”، إذ أن الديمقراطية لا تبنى في السماء، وفي نفي للأرض، بل تبنى ضمن السيادة على المجال الترابي، أي على الأرض، أرض الوطن.

    ولأن “الحقد موجه سيء في السياسة”، فقد بقي الرفيق يخوض نقاشات، لا هوادة فيها، مع قوى التحرر الوطني العربية بالمشرق كما بالمنطقة المغاربية ومع قوى اليسار الفرنسي لأجل حملهما على عدم الخلط بين الطبيعة الاستبدادية للنظام المغربي، على عهد الحسن الثاني، تجاه فصائل المعارضة بالبلاد وبين حق الشعب المغربي في استكمال وحدته الترابية. إذ لا علاقة لطبيعة النظام الحاكم (ملكي أو جمهوري) بالأرض. هذه الأخيرة إذا ما فرط فيها بغباء سياسي أو بقصد منه، فلن تعود حتى وإن تغيرت طبيعة النظام. ثم إن تلك القوى انساقت وراء الجملة الثورية للنظام الجزائري وتغافلت، بالمقابل، عن مصالحه الاستراتيجية المتوسطة المدى والبعيدة بالمنطقة.

    وهذا الفهم العقلاني في بسط قضايا الشعب المغربي من قبل المنظمة، ومن قبل فقيدنا بنسعيد، كسب العديد من هذه القوى لفائدة أطروحة الصحراء المغربية أو أقله أربك قسما آخر منها أو حيّده. وهو ما ترجمه ذلكم الحضور الوازن واللافت لهذه القوى في مؤتمر المنظمة في دجنبر 1985 بالدار البيضاء. ومن بين التنظيمات العربية التي كانت أشد دعما لمواقف المنظمة من مسألة الصحراء المغربية داخل جسم اليسار العربي أذكر هنا موقف “الجبهة الشعبية لتحرير البحرين” (سليلة الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي، و”وعد” حاليا) بزعامة المناضل الفذ عبد الرحمان محمد النعيمي، والذي كان لي شرف الاجتماع به بالرباط رفقة أعضاء خليتي الحزبية آنذاك (حسن السوسي ومحسن عيوش وأحمد شوقي بنيوب) بحضور الرفيق محمد الحبيب طالب ليستأنس بتجربتنا في تيار “الطلبة الديمقراطيون” بعد أن دخل إلى المغرب باسم “سعيد سيف”). هذا الزعيم الخليجي والعربي كان يقدر كثيرا رفيقنا بنسعيد شأنه في ذلك شأن نايف حواتمة (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) ومحسن إبراهيم (منظمة العمل الشيوعي بلبنان) وأحمد نجيب الشابي عن “حركة آفاق التونسية”، فالعامل التونسي، ثم “التجمع الاشتراكي التقدمي التونسي”، ولا شك أن بعضكم لا يزال يتذكر المقالات المتواترة لرشيد خشانة بجريدة “أنوال” وهو أحد رفاق أحمد نجيب الشابي). غالبية هذه القوى اليسارية العربية حتى وإن التقت في أن عوامل التجزئة للأوطان التي تشجع عليها الحركات الانفصالية والقوى الرجعية إنما تخدم الإمبريالية والصهيونية وتديم أسباب “التأخر العربي التاريخي” وتعطل النضال من أجل الديمقراطية، فإنها تفاوتت في التخلص من بروبكاندا نظام العسكر بالجزائر وفي التمييز بين طبيعة نظام المغرب وحقوق الشعب المغربي في استكمال تحرره. ومع ذلك حققت منظمتنا انتصارات باهرة في إسقاط ورقة التوت التي كانت “البوليساريو” ومدعمها يتستران بها.

    وشخصيا اغترفت الدفاع عن الوحدة الترابية للمغرب بداية من تجربة حزب التحرر والاشتراكية، في مرحلته شبه السرية (1968- 1974) فالتقدم والاشتراكية لاحقا. وإذا كان الحزب الشيوعي المغربي من خلال كتاب “الحزب الشيوعي المغربي في المعركة من أجل الاستقلال الوطني 1949- 1958” (صدر في يوليوز 1958)، فكتاب علي يعتة Le Sahara  Occidental Marocain 1973-1975 (1982) قد أمداني بوثائق ومعطيات داوم الحزب من خلالها على “تصحيح الخلل” الذي طبع مواقف القيادات غير المغربية للحزب منذ التأسيس إلى غاية 1944 من الاستقلال الوطني ومن الدعوة إلى إقرار حق المغرب في  كامل ترابه التاريخي شمالا وشرقا وجنوبا، فإن الرفيق بنسعيد، وعبر إصدارات المنظمة في الموضوع أفادتني، بما لا يقاس، في اعتبار أن معركتنا من أجل تثبيت وحدتنا الترابية إنما تندرج أيضا ضمن المساعي في سبيل المصالحة مع تاريخنا الوطني، في جوانبه المشرقة، منذ الأدارسة مرورا بالمرابطين والموحدين إلى يومنا هذا من جهة، ومقاومة العوامل التي تغذي التجزئة بالوطن العربي وتعرقل وحدة الأمة العربية من جهة أخرى. هذان البعدان في المسألة الوطنية، أي بعد التجزئة والبعد القومي العربي في نضالنا، فضلا عن البعد التاريخي لصيرورة تشكل الكيان المغربي، هما اللذان كانا ينقصاني في الإحاطة بمختلف جوانب القضية الوطنية.

    وفي إصداراته الشاملة، وهي كثيرة ووازنة، التي رصدت تجربة جيش التحرير بالجنوب، وأغنى بها الخزانة والأرشيف المغربيين، ما يكفي من أدلة على أن فقيدنا آيت إيدر كان يدرك قيمة المسألة الوطنية (استكمال الوحدة الترابية، وهي من استكمال السيادة الوطنية التاريخية) في برنامج حركة التحرر الوطني المغربية بوصفها ركنا رئيسا وباعتبارها أحد المداخل الأساسية، بل هو شرطها، نحو الانتقال الديمقراطي بالمغرب وبناء المغرب الكبير. ولم يكن ترجيح اختيار رفيقنا لاسم “أنوال” اسما لجريدتنا إلا تكريسا للنهج الوطني للمنظمة. وأتذكر دفوعات رفيقنا في جلسات البرلمان (للتذكير فالرفيق انتخب عضوا في البرلمان عن أشتوكا آيت بها في تشريعيات 14 سبتمبر 1984، وأعيد انتخابه في استحقاقات تشريعية تالية لثلاث ولايات أخرى، أي ما مجموعه 23 سنة من الترافع البرلماني) حول الموضوع مثلما أتذكر تدخلاته خلال افتتاح دورات اللجنة المركزية وباقي المحافل الحزبية وهو يتابع مواقف الدولة تجاه القضية بتثمين ما يجوز تثمينه وانتقاد ما يلزم انتقاده. وكلنا يتذكر انحياز جريدة “أنوال” (أي المنظمة في شرطها ذاك) شهر سبتمبر 1981 (أنوال ع. 20، بتاريخ 30 سبتمبر 1981، صص. 2- 3) لصالح الدفاع عن حق الزعيم عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه في الإدلاء بالموقف من مستجدات قضية الوحدة الترابية (بيان المكتب السياسي للاتحاد بتاريخ 5 سبتمبر بصدد قمة نيروبي). هذا الربط الجدلي بين المسألة الوطنية والنضال من أجل الديمقراطية هو النضال الذي خاضته منظمة العمل الديمقراطي الشعبي طوال مرحلة الثمانينات والتسعينات. في مذكراته “هكذا تكلم محمد بنسعيد” (الصادر سنة 2018) العديد من الإشارات إلى ملازمة المسألة الوطنية للمسألة الديمقراطية، وأن كل تأخير لتسوية هذا الملف، ملف وحدتنا الترابية، إنما هو تأخير للتصدي لمعضلات الديمقراطية في بلدنا والمغرب الكبير.

    لم يتسن للمنظمة تقديم مرشحين عنها في الانتخابات الجماعية في 10 يونيو 1983، وفي ما خلا بضعة ترشيحات مستقلة أصدرت القيادة منشورا عموميا يدعو إلى مساندة مرشحي القوى التقدمية. هذا النفس الوحدوي لدى المنظمة وجد له الصدى الكبير داخل الأسرة الديمقراطية وعموم المواطنين. وفي خضم توزيع المنشور بمدينة القنيطرة صادف أن دلف مناضلونا إلى مقاه بشارع محمد الخامس أو ساحة الشهداء وبالفيلاج أو في غيرها من الأماكن التي يلتم فيها المتقاعدون وقدماء المقاومين والمحاربين حول طاولات لعب الورق أو كؤوس الشاي. وكان يكفي أن تذكر اسم بنسعيد جوابا عن سؤال: شكون زعيمكم؟ حتى تنفرج أسارير الوجوه وتمتد الأيدي إلينا بالمصافحة والترحيب. كان اسم بنسعيد شيفرتنا إلى هذه الفئة العمرية ممن عايش فترة الاستعمار والنضال الوطني.

    وأذكر أنني اصطحبت الرفيق بنسعيد في سيارته رونو 4، إلى مدينة وزان، عقب الانتخابات التشريعية في سبتمبر 1984 التي خضناها بهذه الحاضرة العامرة، وكان مرشحنا (سمير لقبيل) قد تجاوز 5 في المائة من الأصوات المحصل عليها وهو انتصار للمنظمة عقدنا من أجله مهرجانا خطابيا بسينما شهرزاد ألقى به الرفيق كلمة بالمناسبة، وهو ثاني مهرجان خطابي لنا بها وقتئذ، وفي طريق الذهاب، حدثني الفقيد عن أدوار ضباط صحراويين ضمن صفوف جيش التحرير بالجنوب لأجل طرد الاستعمار. وهو ما سأقف عليه عيانا لاحقا وأنا ألتقي بنخبة منهم بالمندوبية السامية للمقاومة بحكم وظيفي المهني أو بمدينة الداخلة أو عبر الأرشيف والوثائق، مما يدحض خرافة “الشعب الصحراوي” على غرار خرافة “الشعب الريفي” التي يسوّق لهما خصوم وحدتنا الترابية. وبالمناسبة يهمني إيراد هذا المقطع من استجواب للفقيد بجريدة “أنوال” بتاريخ 26 نونبر 1987: «.. إن بروز “الشعب الصحراوي” يتناقض مع كفاح عموم المغاربة، وضمنهم الصحراويون، من أجل تحرير واسترجاع الصحراء.. فقد وَجَد المسؤولون الجزائريون أنفسهم مضطرين إلى بتر تاريخ طويل من الانتفاضات والكفاحات المغربية الوحدوية وضمنها حركة الشيخ ماء العينين في بداية القرن وكفاحات جيش التحرير في نهاية الخمسينيات.. فتاريخ المنطقة عندهم يبدأ بعد سنة 1974.. لكن المثير والمحزن في نفس الوقت هو أن قرار مؤتمر مدريد للمقاومة وجيش التحرير في بداية سنة 1956 بمواصلة الكفاح ضد الوجود الاستعماري في الجنوب المغربي.. كان من أهم أهدافه دعم الثورة الجزائرية حديثة الانطلاق وتخفيف الضغط عليها عن طريق قيام جيش التحرير المغربي بفتح جبهات ضد القوات الاستعمارية الفرنسية في موريطانيا وفي الصحراء الشرقية التي ألحقتها فرنسا بالجزائر. وكما تعلمون، فطوال النصف الأخير من سنة 1956 وإلى غاية 23 نونبر من سنة 1957، ظلت عمليات جيش التحرير مركزة ضد الفرنسيين تخفيفا للضغط على الثورة الجزائرية، وتحييدا لإسبانيا، خدمة للثورة الجزائرية التي كانت تجعل من مدريد أهم مركز لنشاطها الخارجي. وكانت إسبانيا من جهتها لا تجادل كثيرا في المطالب المغربية بشأن استرجاع الصحراء. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان جيش التحرير المغربي عبر الصحراء الشرقية يقدم الإمدادات بالسلاح والرجال للثورة الجزائرية مثلما كان الأمر في الشمال، حيث أشرفتُ شخصيا بمعية حافظ إبراهيم التونسي وعلال الجزائري على وضع 500 قطعة من السلاح وفرقة مكونة من 70 مقاتلا رهن إشارة جبهة التحرير الجزائرية. وما يحز في النفس كثيرا أن الدم الجزائري لم يسِلْ على أرض تندوف بالصحراء الشرقية، التي اقتطعها الاستعمار الفرنسي من المغرب وضمها إلى الجزائر، وأن مقاتلي جيش التحرير هم الذين ساقوها بدمائهم الزكية في معاركهم البطولية التي خاضوها ضد القوات الفرنسية سنة 1956، معارك مركالا، فم العشار والزمول.. ومع ذلك لم يكتف المسؤولون الجزائريون بإنكار أي حق للمغرب في تندوف، بل جعلوا منها معملا لتفريخ الانفصاليين والمرتزقة، وقاعدة لشن العدوان على الأرض المغربية والشعب المغربي».

    ومن جميل المصادفات أن جمعتني بالرفيق بنسعيد ما بين 2007 و2009 تجربة الهيأة المشرفة على “موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب”. وقد دأب الرفيق، إلى جانب كل من محمد أجار سعيد بونعيلات والغالي العراقي وشبيهنا حمداتي ماء العينين وثلة من الأساتذة الأكاديميين (جامع بيضا ومعروف الدفالي وعلال الخديمي وعلال ركوك ومحمد عياد وزكي مبارك والعربي واحي..) على حضور اجتماعاتها الدورية وتقديم رأيه، بتواضع جم لكن بصرامة من يكنه حقيقة الوقائع التاريخية. وكما كان رأيه في محتويات هذه الموسوعة كذلك كان رأيه في مواضيع مجلة “الذاكرة الوطنية” التي كان عضو لجنتها العلمية، (والعملان كان يصدران عن المندوبية السامية للمقاومة) موضع تقدير واعتبار. ثم ما برح أن استنكف عن الحضور. وأقدر أن عامل السن فعل فعله، مثلما أقدر أن كتابة تاريخ الكفاح الوطني، الكتابة الموضوعية، يحتاج إلى التخلص من إكراهات “التاريخ الرسمي” وشروطه. ولربما بسبب هذا المقتضى استنكف الرفيق عن مواصلة الحضور في اجتماعات هذه اللجان دون أن يستنكف عن تقديم المشورة والدعم لكوكبة من الباحثين في تاريخ المغرب المعاصر!

ثانيا: في علاقة محمد بنسعيد بالشبيبة المغربية وحركاتها

    وأنسى لا أنسى كيف عمد الرفيق، “بالتي هي أحسن”، إلى جانب أعضاء آخرين من قيادة المنظمة، ونحن بصدد استكمال الشروط الأدبية لافتتاح الندوة التأسيسية لحركة الشبيبة الديمقراطية في 6- 8 سبتمبر 1985 بالدار البيضاء، إلى حل بعض إشكالات “سوء التفاهم” الطارئة. لم يكن سلوك الفقيد حيالنا، في اللجنة التحضيرية أو في المكتب الوطني سلوكَ الأمين العام للمنظمة فحسب، بل إلى ذلك، كان سلوك الأب الحاضن. وطوال تجربتي الشخصية في قيادة “حركة الشبيبة الديمقراطية”، إلى جانب رفاقي بالمكتب الوطني، والتي لم تكن تخلو من صعوبات مادية وتنظيمية، إلى غاية ندوتها الثانية بفاس صيف 1989 لم أر من الرفيق بنسعيد سوى المؤازرة والتشجيع.

    وأذكر يوم صادف وجوده بمقر شارع لالة ياقوت ربيع 1988 ختام اجتماع للمكتب الوطني ل”حشد”، فاقترح علي والفقيد أحمد شوقي بنيوب أن نرافقه إلى لقاء لفرع ك.د.ش بالمحمدية بمناسبة عمالية لنلقي من جانبنا كلمة باسم “حشد” فرحبنا بالفكرة لنعرج على رفيقنا عبد الرحمان زكري (كاتب فرع المنظمة بالمحمدية)، وبذلك شكلنا وفدا استجابت له القاعة بالهتاف والتهليل. وخلفت هذه الالتفاتة من الفقيد، بالمقابل، في داخلتنا الأثر الطيب ووقع عرفان.

    ولا شك فهذا العطف والحدب والاهتمام من قبل الرفيق على الشباب هو الذي جعله رجلا محبوبا لدى فئاتهم العريضة ومنظماتهم المناضلة. وأقدر بأنه كان من بين أقرب مجايليه إلى حركة الشباب بالمغرب لما بعد الاستقلال. انخراطه العملي في حركة الشبيبة الماركسية بدايات السبعينات دون اعتبار كبير لعامل السن (أغلب الرواد الحركة لم يكن سنه يتجاوز الثلاثين) من حيث تلكؤ العديد من أقرانه عن الإقدام على هذه الخطوة، وتفاعله الإيجابي مع إصرار هؤلاء الشباب على تقييم تجربة اليسار الجذري وباقي تجارب القوى الديمقراطية بقصد اكتساب واقعية فكرية في النظر وعقلانية سياسية في الممارسة العملية، ودعمه لمنظمات الشباب المناضلة، ومن ذلك “حركة الشبيبة الديمقراطية”، ثم انخراطه في حركة 20 فبراير 2011 مؤازرا ومنافحا.. كل هذا دليل آخر على هذه الشميلة التي تميزه عن غيره. إنها شميلة الرجال الكبار. وأليس هو القائل في رسالة إلى شباب هذه الحركة وقد أكمل العقد الثامن من عمره: «تحية للشابات والشبان الذين أعلنوا للعالم أن الشعب المغربي ليس عاقرا. تحية للشباب الذي يطمح أن يصير غدا من رواد حركة التغيير الأصيلة، للشباب الذي سينعت في التاريخ باسم “بناة المواطنة المغربية” (…)  لست بحاجة لأن أذكركم و أنتم المعتزون بمغربيتكم الغيورون على بلدكم أن الوطن لا يتقوى ولا يتصلب عوده إلا بحقوق المواطنة، وأن الدرع الحصين للوطن هو المواطن الذي يشعر أن مواطنته غير منقوصة وأن عنوانَها هو العيش الكريم في مجتمع منتج متضامن ديمقراطي حيث لا صوت يعلو فيه على صوت القانون المبلور من طرف مؤسسات تعكس بصدق إرادة الشعب.. فالشعب هو مصدر السلطات والسيادة..».

    في مذكرات الرفيق سي أحمد الحجامي الكثير من المشاهد التي تؤشر على تواضع الرفيق بنسعيد واستعداده الدائم لأداء مهام مهما كان حجمها إلى جانب رفاقه الشباب. لا يأنف من مباشرة الأعمال التي قد تبدو للبعض صغيرة بينما هي في تراكمها ما يؤدي إلى التقدم والتطور. وكأني به يستحضر، في كل ذلك، القول الفيتنامي المأثور: «إن الانتصارات الصغرى تؤدي إلى الانتصارات الكبرى».

    بنسعيد لم يكف عن أن يكون شابَّ الذهن ومتوثب الإرادة حتى وإن وهن العظم منه وضمر الجسم ونضَبَت المسام. لم يكتهل بنسعيد قط ولم يعجز ولم يشخ، بل ظل شابا روحا وعقلا وفكرا وممارسة. وأحسبه لو لم يكن كذلك لما عمر طويلا وكان شاهد زمنه وزمانه معا. كان رجلا استثنائيا ينتسب إلى بلاد ذات تاريخ تليد في المقاومة والجهاد ضد تربصات قوى الخارج كما ضد جور الداخل وينتمي إلى ما صدحت به المنظمة منذ تأسيسها من أننا “لسنا شعبا عاقرا”. ولعل هذا هو الذي أكسبه محبة رفاقه ممن شاطروه الرأي والمسار في هذه القضية أو تلك، وممن خالفوه فيهما أيضا، وهو كذلك ما جعل الخصوم يهابونه ويحترمونه. كنا ننعته باسم “خالد” (وفي كامل اسمه: خالد عبد الله)، الاسم الذي لازمه في مرحلة السرية وبعضا من مرحلة شبه الشرعية، فالشرعية. والاسم جاءه بالمصادفة بداية، ثم لازمه كاسم حركي. وصار على أسلة اللسان كما لو من جبلته وهويته الأصل. نقرأ في المعجم: «خالد اسم علم أصله عربي مذكر، جاء بصيغة اسم الفاعل من خَلَدَ الذي يعني دام (…) والخَلَد، بالتحريك: البال والقلب والنفس، وجمعه أَخلاد». سيستمر “خالد” خالدا في القلب والبال والنفس.. والتاريخ.

    تحتاج كل الشعوب إلى “ميتات” Les Mythes، وهي غير الأساطير كما تعرفون (بحسب المفكر محمد أركون)، بها يتحرك متخيلها الرمزي والاجتماعي، وبها تؤسس لسرديتها التاريخية. وعلى هذا المستوى مثل محمد بنسعيد أحد “ميتات” جيلنا التي شكلت “خصوصية” حركة 23 مارس ولواحقها تاليا. فما أحوج الأجيال الحالية والقادمة إلى هذا القبيل من “الميتات”، إذ ميتاتنا، للأسف، في توار وانقراض!

    لترقد روحك رفيقنا الزعيم محمد بنسعيد آيت إيدر بسلام وسكينة، فقد أعطيت فأثريت وبذلت فأجزلت وسخوت فأوفيت، وعزاؤنا واحد..

القنيطرة، في: 03 أبريل 2024

Visited 201 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد الهجابي

صحفي وكاتب