المرتد

المرتد

أحمد العلوي

كان المعلم الاعظم فى بلدنا فيلسوفا كبيرا اسمه وحش بن أسد ، وكنا قد علمنا فى اول اشتغالنا بالفلسفة ان اول ما يتعلم منها علوم الحساب والهندسة ثم ينتقل بعد ذلك الى العلوم الاخرى علما فعلما الى ان يبلغ حد التعليم علم الفلسفة الاولى؛ وكان المشتهر بين العلماء فى بلدنا مرجعية الفيلسوف الاعظم وحش وان التعلم على يديه شان لا يبلغ اليه الا كبار الشيوخ الذين ابلوا البلاء الحسن فى علوم الفلسفة ونالوا قصب السبق فيها والفوا فصولا عزيزة فى اصولها وفروعها ؛ وكنا نقرا فى كتب الفلاسفة الذين مروا قبلنا اشارات كثيرة الى مرجعية الفيلسوف وحش. لم يكن هذا الفيلسوف آفلا ككل الناس. كان مقتصرا على الحياة فى قصره لا يخرج ابدا ولا يراه احد من الناس وانما يسمع صوته اولئك الذين بلغوا رتبة الاخذ عنه من كبار الفلاسفة. لم يكن آفلا يعبر الدنيا ويتركها . هذا ما تواتر القول به بين الاجيال المتتابعة. يموت الفلاسفة جيلا بعد جيل وهو لا يموت. وحين ادركنا سن الاخذ الفلسفى اشار اساتذتنا الى قصره وعلمونا نبرات صوته كما هي موصوفة فى الكتب الفلسفية الموروثة، كي نستطيع التعرف عليه حين يحين وقت اخذنا عنه ، أي بعد اتمام سنوات طويلة من الاجتهاد فى علوم الفلسفة. كنا اذن عارفين بتلك النبرات وقضينا حوالي عشرين سنة فى التعلم الاول قبل دخولنا عليه وحين دخلنا لم يكن صوته غريبا علينا. غايته انه عاصر اجيال الفلاسفة منذ فيثاغورس وانكسمانس وانكسمادرس وكان استاذا لهم مسموع الكلمة ووجدت آثار فى برابى مصر على الاهرام والنواويس تفيد انه كان يعلم كهان مصر ولم يخل اثر فى الارض من دليل على حضوره فى كل اعمال التعليم التى عرفها النوع البشرى. وعاصر ايضا فلاسفة العرب وعلمهم وافتاهم فى الاخذ والترك وتطور به الزمن حتى بلغ عهدنا.تطور به المكان ايضا فلم يخل صقع من الارض من خاتم علمه ولم يخل تعليم من ظل نظرياته. ثبت لنا اذن انه لم يكن مواتا ككل الناس وثبت لنا من دوام حياته ان الاخذ عنه هو عين الصواب اذ لا دليل اصح من الحياة الدائمة التى شهد له بها اجيال الفلاسفة المتتابعة قبلنا، وشهدنا بها بحكم المقاربة والتعلم والاخذ عنه بالرواية. لم يكن يخرج لاحد من الناس ولم يكن احد من الناس براغب فى خروجه. كان الفلاسفة يتواصون بتحريم طلب الرؤية ويجعلونه شرطا لكل تقدم فى علم الفلسفة الكبرى وكانوا يتوارثون القول بان حياته الدائمة ثمرة اختفائه الدائم وانه لو تحول من الاختفاء الى الظهور لهلك كما يهلك الناس ولو هلك لهلكت الفلسفة معه ٠ وذلك ما كان الفلاسفة فى كل جيل يحاربون من اجل حدوث نقيضه. اذن كان جميع الفلاسفة فى بلدنا يدخلون القصر الذى شيد له ويتعلمون منه ويعرضون عليه كتبهم ويقرأونها عليه ويطلبون منه التجويز . وكان يستقبلهم فرادى ويجوز لآحادهم او يعترض عليهم وكان الحزن يستولى على من لم ينل التجويز منه. اما الذين نالوه فكانت القضايا التى يعرضونها فى كتبهم تتحول الى ادلة كاشفة فاصلة ويشار اليهم بالبنان وينالون لقب الفيلسوف الرفيع المقام. ولم يكن احد فى بلدنا يخرج عن قاعدة الدليل هذه فلم يكن يقبل قول احد لم يدخل الى قصر المعلم الاعظم وحش ولم ينل التجويز ولو كان من كان.

 حدث ان رجلا من وسط الارض كان قد جاء بقول يلغى الفلسفة وينشر الحقيقة فى لباس لم يخطر ابدا على ذهن وحش واتباعه وابى ان ياخذ عن المعلم وحش ونهى عن الاخذ عنه وأخبر عنه بما يصد الناس عنه فصدوا الا جماعتنا واتباعنا من المتفلسفين وكان اسمه الذي عرف به عندنا هو عدو وحش فكان الراي فى بلدنا ترك مذهبه وحين انتشر مذهبه لاسباب لاداعي لتفصيلها هنا ووصل الى بلدنا ارتعبنا  وكان راي اتباع وحش هو التقية والتظاهر ؛ وحين استقر الامر وزال الخوف كان فلاسفتنا يدخلون الى قصر المعلم الاعظم ويعرضون عليه كتاب  عدو وحش فكان يامرهم بوضع الفلسفة الوحشية على لسانه  فلما اعياهم الامر وانكشفت حيلتهم وعلموا ان لا مفر لجماعتهم من الاندثار ولقصر وحش من الانهيار سالوه ان يفسر لهم كتاب عدوه بصورة تجعله معكاسا للفلسفة الوحشية وتذهب بروحه٠ انقلب الفلاسفة منذ ذلك التاريخ  الى فقهاء لا هم لهم الا تجويز فلسفة وحش في الفاظ عدوه.

لم يتنازل الفلاسفة عن عشقهم للمعلم الاعظم وحش وقاتلوا بكل السبل اذن لانقاذه من الهلكة  حتى تحقق ذلك بثمن هو ارغامه على استبدال بردة الفلسفة بعباءة الفقه والتفسير فظل عندهم بتلك الحيلة المعيار الاول للصحة والصواب. لم يكن ذلك الاستبدال دائما. انما كان يدوم زمنا ثم تتراخى القبضة فيعود الفلاسفة الى انتاج القضايا الوحشية الصريحة ويتركون الفقه والتفسير الا الذين يستعذبون المنافع التى يقتطفونها من سلطتهم الفقهية على العامة الضالة.

 قضينا كما قدمنا من قبل عشرين سنة فى تعلم المبادئ الاولى للفلسفة ثم قضينا بعد ذلك اربعين سنة فى قصر المعلم الاول وحش بن اسد الغائب عن الابصار . وحين جاوزنا الستين وبلغنا اعلى المبالغ فى الفلسفة واحسسنا باقتراب اجلنا وراجعنا الاقدمين من الفلاسفة الذين اخذوا عنه وظننا اننا ماضون وتاركوه كما مضوا وتركوه الى ظلماء العدم طبقا لما علمنا ، حين تم ذلك اشتد غمنا وكان فينا من اخبره بذلك.

وإثر ذلك حدث فى بلدنا تغير احوال لم يعهد من قبل وأنسانا شدة غمنا بغموم اعظم وأبأس؛ وكان الذين عملوا ذلك التغيير اقوام غزاة من بلد آخر غزوا بلدنا واسقطوا حكم امرائنا وسفهوا فلسفتنا وشككونا فى امرنا، وسخروا من معلمنا الذي كان سيدا فيهم ايضا قبل اشتداد امرهم وغزوهم بلادنا ثم قامت  فيهم فتن وثورات ذهبت بسلطانه فخربوا قصوره واحرقوا كتب اتباعه واعلنوا تحريم تعليم الفلسفة الوحشية فى بلدهم ثم اتبعوا نقيضها حرفا بحرف الا الذين يختارون غير ذلك من المصابين بجرثومته . وحين راينا حال غزاتنا وحالنا لم يكن لغمنا الا ان يتسع. ولم نتخل عن معلمنا بالرغم من ذلك فكنا نلقاه في غار  اسود الجدران بالصحراء ولا نراه وكان جل المحاضرات التى كان يلقيها علينا عن الموت وكان خلال ذلك يؤصل لنظريته التى كنا نحفظها حفظا ونغتم بها غما لا مزيد عليه.ولم يكن لينسى ان هؤلاء الغزاة طردوه من قصوره فى بلدهم فاختلفت رغباتنا ورغباته. هو يريد ان نحارب الغزاة الذين سفهوا امره فى بلدهم وبلدنا واخرجوه من قصوره عندهم وعندنا وشتتوا اتباعه فى البلاد ونحن نريد النجاة من العدم الذى تبشرنا به نظرياته عن الموت. كانت نظرياته عن الموت تاج مفرق الفلسفة الكبرى وكان العارف لتلك النظريات يعد فى الرعيل الاول من الفلاسفة وكانوا يسمون بالخلفاء. وصلنا اذن الى رتبة الخلافة. صرنا خلفاء وحش بن اسد معلم الفلاسفة فى كل العصور والدهور والفيلسوف المرجعي الحي فى كل مكان وزمان. صرنا كبار اهل الارض بمصطلح الفلسفة الوحشية العظمى ولكننا لم نك نعدل شيئا بمصطلح الواقع  ولم نكن نساوى شيئا الا فى منطق معلمنا وحش بن اسد.

استجمعنا شجاعتنا وسألناه عن النظريات والخلود وقلنا له:

ان الفلاسفة القدماء الذين تتلمذوا عليك هلكوا فهل انت ممدنا بشئ يقينا الهلاك فنحيا مثلك خالدين؟

فقال لنا:

انما تقيكم نظرياتى من الهلاك الرمزى اذ تظلون احياء فى الفكر كما ظل من قبلكم احياء فيكم وما زلتم تذكرونهم فى مجالس التعليم فقاتلوا الغزاة اعدائي فلن يضيركم هلاك الاجساد.

فقلنا له:

نريد ان تعلمنا من الفلسفة التى بها تحيا فى كل الدهور والتى نريد ان نحيى بها معك.

فقال لنا:

لا تسالونى هذا فانا الخالد وحدي.

فقلنا له:

اذن فاخرج الينا.

فقال لنا:

انسيتم وصايا الفلاسفة الاول. ان خرجت هلكت وهلكت الفلسفة. اتريدون هلالك الفلسفة؟

فقلت له والخلفاء يسمعون :

فلتهلك الفلسفة ان كان فى هلاكها حياة لنا فانه ليس فى حياتها الابدية، كما تقول، حياة لنا. 

دخلت الى الغار ووقفت امام غرفة وحش. لم اكن مترددا. رفعت يدى ، وامسكت  بمقبض الباب القماشي الذى يفضى الى غرفة المعلم الاول الغائب المغيب الذي يسمع صوته ولا ترى ذاته ، وحملت فى يدى شمعدانا مشتعلا ودخلت ونظرت امامى وادرت الشمعدان  المنير فى جنبات الغرفة السوداء المظلمة الواسعة فلم اجد فيها ديارا ٠

انقلبت على عقبي ، وخرجت من الغار ، وبحثت عن الخلفاء ولم اجد احدا، واحاط بي نور الشمس

وكرهت ان اتذكر فصولا من الفلسفة استعين بها على الطريق فلم اتذكر منها شيئا ، وسألت عن عنوان عدو وحش فارشدت اليه٠

Visited 4 times, 4 visit(s) today
شارك الموضوع

د. أحمد العلوي

أكاديمي مغربي، أستاذ اللسانيات بكليات فاس والرباط وبني ملال وعمان٬ أثرى الساحة الثقافية في العالم العربي بأعمال علمية رصينة وأسهم في تجديد البحث اللغوي العربي وتأسيس مدرسة لغوية مغربية جديدة.