عن عائلة “بركاش” العريقة وعن بني مَكُّود أهل التُقىَ والجُود
د. محمّد محمّد خطّابي
للذّكرى الجميلة مع أعزّ الناس نسائم تنزل على ثبج الذاكرة والقلب والعقل والوجد والوجدان كرذاذ نسائم الفجر الباسم الضّحوك، الصديقتة الباحثة المثابرة، الهائمة الولهانة بتاريخ الأندلس، وآداب الأندلس، وشِعرالاندلس، وحضارة الأندلس، صوفيا الجريري بلفقيه، وسائر الأعضاء، والعضوات المنضوين والمنضويات تحت الظلال الوارفة لمجموعة (أندلوسيّا) التليدة، أقول: إنّ القرية الاسبانية الجميلة (Vargas بركاش) التي توجد بالقرب من مدينة طليطلة الغرّاء، ينحدر اسمُها من اسم عائلة اندلسية وموريسكية معروفة عريقة تقلّد أفراد عائلتها على امتداد التاريخ مناصب عليا فى المغرب وفى الأندلس على حدٍّ سواء، وهذه العائلة ما زالت موجودة الى يوما هذا المشهود في كلٍّ من مدينتيْ الرباط وسلا، وفى منطقة الرّيف شماليْ المغرب كذلك، وهي فى المناطق الريفية تُنطق مضافاً إليها الألف في أوّلها، وتُستبدل االكاف بالقاف فيُقال: أبرقاش.. كما توجد عوائل عديدة من هذه الأسرة الكريمة فى معظم بلدان أمريكا اللاّتينية كما شاهدتُ ذلك خلال وجودي ومعايشاتي فيها، حيث عملتُ في بلدانها لسنواتٍ طويلة، منها (Mario Vargas Llosa) وهو اسم الرّوائي البيروفي الشّهير (ماريو بركاش يوسا) الحاصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب.
الرحّالتان المكناسيّ والمَوْصليّ واسم يركاش
وأشير أن الرحّالة السّفير ابن عثمان المكناسي في مُؤلَّفه الشّهير “الإكسير فى فكاك الأسير” الذي أنا بصدد كتابة دراسة ضافية وموفية عن هذا الكتاب التاريخي القيّم التي سأعمل على نشرها قريباً بحول الله على صفحات هذا المنبر الإعلامي المنيف، هذا الكتاب قد تعرّض لعائلة بركاش بإفاضة سواء في اسبانيا أو في المغرب.
وتجدر الإشارة أنّ أوّل رحّالة عربي إلى العالم الجديد قد ذكر اسم عائلة (بركاش) كذلك في رحلته وهو: “الخوري إلياس إبن القسّيس حنّا الموصلي الكلداني من عائلة بيت عمودة)، الذي شدّ الرّحال عام 1668 من بغداد لزيارة القدس الشريف، وبعد أن قضى مدّة فى حلب أبحر من إسكندرونة إلى البندقية وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، وجزيرة صقلية ثم عاد إلى إسبانيا وركب البحر من قادس إلى أمريكا فمرّ على جزر الكناري ووصل إلى قرطجنّة فى أمريكا الجنوبية بعد 55 يوماً قضاها فى البحر، ثم ساح فى جهات بنما ومنها تتبّع المدن والقرى والمناجم غرب امريكا الجنوبية فزار البلاد التي تدعى اليوم كولومبيا، وخط الإستواء، والبيرُو، وبوليفيا، ثم شيلي، ومنها عاد الأعقاب إلى ليما من أعمال البيرو عام 1680وهناك كتب القسم الأوّل من رحلته، وما لبث أن سارإلى البلاد التي يسمّيها “ينكي دنيا” أيّ العالم الجديد المكسيك وأمريكا الوسطى، وبعد مدّة قضاها فى مكسيكو قفل راجعاً فركب البحر وعاد إلى إسبانيا فرومية”، وقد استغرقت رحلته زهاء إثنتي عشرة سنة.
بنو مكّود أهل التقىَ والجُود
وأعود لقبيلة “بني مكادة” وهي قبيلة أمازيغية يشكّل اسمُها اليوم إحدى المقاطعات الأربع الكبرى التي تكوّن مدينة طنجة وتقع بعمالة طنجة أصيلة، جهة طنجة تطوان الحسيمة شمالي المغرب وتحدّها قرية العوّامة من الجنوب، وإقليم الفحص أنجرة من الشّرق. ومنها سُمّي الحيّ الشهير والكبير الموجود فى مدينة طنجة حالياً على وجه الخصوص.
وهناك قصّة طريفة وحكاية رائعة لأحد أبناء قبيلة “بني مكادة” وهو العالم المغربي النحوي اللغوي المعروف بـ (المكّودي) الذي كان ذات مرّة يطلّ من نافذة منزله ورأى نجله يتشاجر مع شاب اسباني من نفس سنّه وسرعان ما نشبت معركة حامية الوطيس بينهما بالأيدي لأنّ الفتى الإسباني كان يتهجّم ويهجو الاندلسيين المسلمين من الموريسكيين فاستمرّت المعركة بين الشابيْن اليافعيْن والعالم الفقيه (المكّودي) ما زال يطلّ من النافذة ويتابع الشّجار، وأخيراً تغلّب إبنُه على خصمه الإسباني وأرداه أرضاً بضريةٍ قاضية..! عندئذٍ أصاب العالم المكّودي الخشوع وتأجّجت فى نفسه الحماسة، وملأه الزّهو والفخار، وأنشد متباهياً بنجله، وبأصله، ومحتده العريق، فقال : ( نحنُ بنُو مكّود أهلُ التُقىَ والجُود /نكرُّ فى الأعَادي ككرّة ِالأسُود)!
والشيخ المكّودي هو أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي، إمام النحاة في عصره، وكان ذا إلمام واسع باللغة العربية، صاحب مقصورة المكودي، وهو يُنسب إلى قبيلة بني مكّود، وهي إحدى قبائل هوارة الذين كان مستقرهم بين مدينتيْ فاس وتازة، إذ درس كتاب العالم النحوي الشهير سيبويه بمدرسة العطارين، وأشير بالمناسبة أنّ اسم “سيبويه” باللغة الفارسية يعني “رائحة التفّاح”، ودرست على يديْه أجيال من طلاّب العلم في منطقته، وله شرح وافٍ وضافٍ مشهور لألفية ابن مالك. توفيّ الشيخ المكودي رحمه الله في (801 أو 807 هـ- 1405 م).
من أبيات الشيخ المكودي الجميلة قوله:
إذا عَرَضَتْ لي في زَمانِيَ حاجةٌ / وَقَد أشكلتْ فيها عَليَّ المقاصِدُ
وَقَفتُ بِبابِ اللهِ وَقفَةَ ضَارِعٍ / وَقُلتُ إلهي إنَّني لَكَ قاصِدُ
وَلَستَ تَراني واقِفاً عِندَ بابِ مَنْ / يَقولُ فَتاهُ : سَيِّدي اليَومَ راقِدُ!
واستحسن تدوينة كنت قد نشرتها على الفيس عن عائلة آل باركاش، وعن العالم الجليل الشيخ المكّودي بعض الأصدقاء الاصفياء، والصديقات الكريمات من فرسان اليراع وفارسات الابداع أذكر منهم ومنهنّ: صوفيا الجريري بلفقيه، وإدريس عفارة، ومصطفى الزّين، وبدرية بنخضرا، وإحسان نيّة وسواهم.
رأي الصديقيْن إدريس والزّين
وأشار الأستاذ الصديق الأديب إدريس عفارة قائلا من لطفه: هذه المعلومات القيّمة ردّتنب الى جادة الصّواب إذ كنت – إلى عهد قريب – أعتقد أن حيّ “بني مكادة” عبارة عن تجمّع سكّاني من فقراء المغاربة والإسپان، وأنّ أهل طنجة الأصليّين لم يهتدوا إلى أصل هؤلاء المهاجرين، فسمّوهم (بني ما كذا …؟) انتقاصاً من قدْرهم، ولم أكن أربط الاسم بالعالم المكّودي؛ والآن حصحص الحقّ، وما ينبئك به مثل خببر مقتدر، ينطبق عليه قول المتنبي: كالبحر يقذف للقريب جواهرا / جوداً ويبعث للبعيد سحائبا… كالشّمس في كبد السّماء وضوؤها / يغشى البلاد مشارقا ومغاربا.
وأشار الزميل الأستاذ الأديب مصطفى الزّين من كرمه فقال: كما، تعودنا، أستاذنا دكتور محمد الخطابي العزيز؛ نبدأ مقالاتكم خماصا، وننهيها بطانا، و وُدُّنا ألا تنتهي لمتعتها الفائقة. كنتُ أعرف أن المولى إسماعيل العلوي، بعدما خلص طنجة من الاحتلال البرتغالي في القرن السابع عشر؛ عمل على توطين قبائل وأسر ريفية كثيرة في طنجة، لعل منها قبيلة بني مكادة التى لا تزال أكبر حومات طنجة تسمىّ عليها إلى اليوم. لكني كنت، بالمقابل، أعتقد أن الأديب النحوي اللغوي المكوُّدي صاحب المقصورة (مقصورة المكودي)، إنما ينتمي إلى بني مكود،وهم فرع أو قبيلة تستوطن منطقة من ضاحية صفرو قريبا من أهرمومو/رباط الخير، وقريبا منها يوجد دوار من قبيلة بني يازغة، يسمى ولاد مكودو، ضاحية المنزل. وبإقليم الشاون، قريبا من باب تازة، يوجد مدشر يسمى ماگو، أخبرني بعض أهل بني مكود، الذين أشرت إليهم، أنهم وجدوا بعض أهاليهم بماگو بقبيلة الأخماس العليا، علما أن الفقيه الهبطي، العلامة الصوفي، الذي تنسب إليه كرامات مختلفة، والذي تتلمذ على الشريف الغزواني، وكلاهما كانا طنجييْن، كان نزح من طنجة واستقر بضاحية من ضواحي الشاون، وبالضبط، قريبا جداً من ماگو، وأسّس زاوية هناك، لا تزال تُسمّى زاوية أيرأفتوح، واستقر أحد أبنائه بتلمبوط على الطريق بين الشاون ووادي لاو، ولعله الهبطي الفقيه العلامة الذي اشتهر بوضعه علامات الوقف بالمصحف الشريف على قراءة ورش. والخلاصة أن المكودي قد يكون من بني مكود، وبني مكود قد تكون بدورها منحدرة من بني مكادة الطنجية الريفية، كما قد تكون ماگو الخمسية منحدرة، كبني مكود، من بني مكادة ،علما أن القبائل كانت دائمة الترحُّل؛ وكل هذا يدل على تداخل الأنساب والتفاعل الذي حصل ويحصل بين الأصول الأمازيغية والأصول العربية، ضدا على الأطروحات العنصرية والتطرّفات العرقية. وإني لأعلم أن كلامي هذا تطفل على مجال أجهله جهلاً شبه تام. فلعلنا نحظى منكم بعودة إلى هذا الموضوع، نفيد منها ومنكم ، بالخصوص حول بني مكادة، وحول ريفييّ طنجة، إن شاء الله تعالى. ولكم ، سيدي السفير، أزكى التحايا وبالغ المودة”.
بعد هذا الفيض الهائل من كرم وسخاء التعاليق البليغة لا يسعني إلاّ أن أزجي لهؤلاء الأصدقاء الأكرمين، وتينك الصديقات الكريمات خالص الشّكر، وعميق الإمتنان والعرفان على مرورهم ومرورهنّ البهيّ البهيج، وحضورهم وحضورهنّ النديّ الأريج .