في رحيل فاضل الربيعي: الموتى وحدهم لا يتكلمون…

رضا الأعرجي
يموت الكاتب العراقي ويأخذ معه إلى القبر أسراره ومخزونه من الذكريات، وفي ذلك خسارة كبيرة لتاريخ الكاتب، وللتاريخ الثقافي حين يكتب للأجيال الحالية أو القادمة.
كثيراً ما يدفعنا الفضول لمعرفة حياة الكاتب بعد موته لأننا لا نملك سوى معلومات شحيحة عنها، فنضطر أن نذهب للبحث في كوكل وأشباهه من محركات البحث الإلكترونية. قد نعثر على ضالتنا، وقد نعود بيأس وخيبة أمل.
موت الكاتب ينبغي أن يدفعنا لاكتشاف التفاصيل المهمة عنه، واستحضار الغائب منها، وكل ما من شأنه أن يساعدنا على استيفاء عدد من المعايير الخاصة عن أهميته ومكانته ومدى تميزه وتأثيره مما يضيف قيمة حقيقية إلى سرديات النعي المألوفة والتي تكتفي عادة بعبارات المواساة ومشاعر الألم والحزن العميق.
الأجدى من كل ذلك هو أن نجد ما نبحث عنه لدى الشخص الذي يكون مستعداً ليس للتحدث عن الكاتب فقط بل عن دوره في مجريات حياته، ويقدر الموعد النهائي الصارم الذي يفرضه الموت كي يتحدث. ولهذا السبب، يكون المصدر المثالي كاتب آخر شاركه لعبة الحياة والذكريات والتجارب والمنعطفات ذاتها التي مروا ومر بها.
وأعتقد أن ما كتبه الناقد الأستاذ ياسين النصير والناقدة د. فاطمة المحسن والشهادة التي أدلت بها الصحفية الأستاذة سلوى زكو تكتسب أهمية خاصة من بين ما كتب إثر موت الكاتب فاضل الربيعي. فللمرة الأولى، وأشدد على المرة الأولى، يأتي النعي في سياق ثقافي وليس في سياق الاعتبارات الاجتماعية التقليدية التي تنطلق من العبارات الشائعة المتداولة.
الميت هنا كاتب تقلبت به سبل الحياة، وتقلب هو في سبلها. انتمى لحزب ثم انشق عنه وأراد في فترة لاحقة أن يشارك في تأسيس حزب يخدم السلطة التي كان معارضاً لها. كما انتقل من كتابة القصة والرواية إلى نوع من التاريخ وصفته د. فاطمة بـ “التاريخ الزائف” لأنه لم يستوف بعد الشروط الأكاديمية، عدا الافتقار إلى اللغة بل اللغات القمينة بإضفاء الصدقية عليه.
أستطيع أن أتفهم غضب الصديق كامل عبد الرحيم في منشوره الأخير واستثارته مما كتبه أصدقاء لفاضل الربيعي أو كانوا أصدقاء في مراحل معينة، ولكن لا أدري لماذا أبقى المنشور مفتوحاً للتعليقات، وهي كثيرة جداً، ولم يرد عليها حتى الآن.
انصب منشور الصدق كامل على وصف الربيعي بـ “ضاءلة الجسم” و”عدم التسامح معه في تحولاته الحزبية وتهمة تعاونه مع مخابرات نظام صدام” والتأكيد على مشروعه الفكري الذي مايزال موضع جدل باعترافه، وكل ذلك من منطلق التسامي والتعالي على الأحقاد، وهو أمر محمود، لكن ما يثير الاستغراب أن يطلب من (المعزين) “ذكر محاسن الميت” أو “الصمت على الأقل” أو “مناقشة مشروعه الفكري لا تسخيفه وتفنيده وتحقيره“.
وأرى أن الأوصاف الجسدية التي تطلق على الكتاب والفنانين من الأمور العادية، وبالتالي لا تعني دائماً الاستهانة أو الاستخفاف، فبعض الذين كتبوا عن سارتر ذكروا أنه (قبيح) وأشاروا إلى (الحول في عينيه). وهناك من وصف الممثلة أودري هيبورن بأنها (طويلة كقصبة، وبثديين ممسوحين ووجه يشبه الفأرة). وفي مورثنا الثقافي كتابات سلطت على الأوصاف الجسدية لشخصيات تعد مقدسة أو شبه مقدسة مثل كتابات الجاحظ عن (البرصان والعرجان….) حتى الجاحظ نفسه لم يسلم ممن وصفه بأقبح الأوصاف.
أما أن يطلب الصديق كامل (الصمت على الأقل) في حال امتنع المعزون عن “ذكر المحاسن” أجده يتعارض وحرية التعبير باعتبارها حقاً من حقوق الانسان، في الوقت الذي يتناول في منشوراته شخصيات عامة أو من بين أصدقائه فيطلق عليها ما يناسبها من أوصاف، ويحكم عليها بمقاييسه الخاصة، وهذا من حقه أيضاً، حيث يرى فيها ما لا يراه الأخرون.
تابعت على هذا الفضاء وفيات عدد كبير من الأدباء والفنانين كانت أسماؤهم لامعة، وأعمالهم مهمة، لكن معظمهم ماتوا ولم يجدوا من يتعقبهم بالأسئلة المطلوب اثارتها، وكان المعزون غير قادرين على الكلام عنهم بما يستحقون، ومن تكلم فبصوت خافت.
لقد كسر النصير والمحسن وزكو (وربما هناك آخرون لم استطع الوصول إلى منشوراتهم) أسلوب التعزية الذي يكاد يتشابه مع الجميع، مهمين كانوا أو من الغُفل، ويسجل لهم أنهم ألقوا حجراً في البركة الراكدة، وأكدوا أن مهمة الكاتب في مثل هذه الحالة لا تقتصر على العبارات إياها، فثمة ما يقال، وثمة ما يكشف عنه بل يجب أن يكشف عنه.
الموتى وحدهم لا يتكلمون….