أدب السجون اليساري والتاريخ (5)

أدب السجون اليساري والتاريخ (5)

المصطفى مفتاح

 تذكير

           كما قلت في بداية سلسلة هذه المقالات، هو امتحانٌ صعبٌ أن تحاول مساءلة إنتاج من شاركتهم وشاركوك تجربة مهمة كبيرة القسوة والعطاء وحافلة بالمواجهة والانكسار والانتصار، لأن ذاكرة الفرد بالضرورة والبديهة، تسرق أو تمسخ المزيج المشترك. والأمر أصعب حين يختلط المعيش ولسنوات مع حياة التزامٍ وتنظيمات وفصائل ومجموعات اختارت نفسها أو اختارها أصدقاؤها أو خصومها أو حتى الذين لا يبالون. والأمر أصعب أيضاً حين تختلط الذكريات وتتوهن الذاكرة.

سأغامر في هذه المساهمة الخامسة باقتراح تصنيف أولي لبعض العلامات الكبرى لأدب السجون اليساري، عبر بعض الكتابات التي تركت لدي أثرا كبيرا لاعتبارات ذاتية بالدرجة الأولى، مركزا على ما تعلق بتجربة مجموعة محاكمة 1977.

وعلى سبيل الاحتياط، لابد من الإشارة أن الكتاب المعنيين، إلا واحدا، لم تسبق لهم، قبل اعتقالهم، تجربة أدبية إلا من بعض المقالات أو الإبداعات، مما يجعل الكتابات المعنية خالية من “الصنعة” تغلب عليها المباشرة والتوق للشهادة.

ومن الضروري الإشارة إلى أن أول الغيث في أدب الاعتقال في مجموعة السجن المركزي ألف 1 وألف 2، كانت مقاطع منتقاة لشعراء معروفين، وخواطر ومحاولات شعرية تمكن أصحابها من تبادلها في دوائر مغلقة مع أصحابهم، حين بدأ “الانضباط المركزي الديمقراطي” ينهار. ودون الرجوع إلى المنشورات السجنية الأولى[1] والتي طغا عليها طابع الشهادة وفضح الممارسات القمعية والتعذيب والاضطهاد وتميزت بنفس شعري، يلاحظ على أشهر ما عرف من أدب معتقلي المركزي تأرجح بين نقاش أثر الاعتقال وما أعقبه من صدمات على المعتقلين والتنظيمات، من جهة، والشهادة وفضح القمع والتنكيل الذي تعرض له المعتقلون وشروط اختطافهم وسجنهم، من جهة ثانية، وردود الفعل على الممارسات السلبية الإقصائية والحلقية التي اشتهرت بها التجربة حتى 1980، من جهة ثالثة، دون أن يعني هذا اقتصار هذا النص أو ذاك على جانب دون آخر.

نصان معروفان كتبا داخل السجن: “كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي، وهذا المؤلف نشر سنة 1986 وصاحبه في السجن، و “تحت ظلال لالاشافية” لإدريس بويسف الركاب، الذي صدر بالفرنسية سنة 1989. وقد أثارا حينها نقاشات كان بعضها حادا بين المعتقلين، لأنهما تناولا بالتشريح تجربة الاعتقال والاستنطاق ثم ما وقع من تباينات وصراعات داخل السجن بين الفصائل وداخلها.

مؤلفان متميزان صدرا بعدهما، الأول هو “الغرفة السوداء” لجواد امديدش، والثاني “حديث العتمة” لفاطنة البيه، كتابان رائدان في أدب السجون اليساري والنسائي منه.

بالنسبة لفاطنة البيه، فتحت صفحة مهمة في ادب السيرة الذاتية النسائية وأدب السجون اليساري بوصفها لتفاصيل الاعتقال والاستنطاق والتعذيب ثم السجن بشكل عام، مع توجيه الضوء الفاضح لما جرى للمناضلات وما عبرن عنه من قدرات عظيمة في المقاومة.

“الغرفة السوداء” رحلة “سوداء” واقعية، تكاد تنطق أو تصرخ، فيها العصابة والقيد وعدة التعذيب وتفاصيل التحقيق داخل وخارج غرف التعذيب والاستنطاق وحلقات البطش التي توالت على مجموعة 1974 و1975 في مركز درب مولاي الشريف. مما يفسر أنها كانت أول سيرة من نوعها تتحول لشريط سينمائي نال حظا معتبرا من النجاح والاهتمام.

ثم توالت الكتابات، وربما ما تزال، وأرجو أن يبادر المعنيون المتابعون بتقديم ونقاش هذه الأدبيات المهمة والفصيحة في التعبير عن مغربنا. والخوف طاغٍ والقمعُ يومي معتاد.

واستمر التقريض والملاحظات وكل المعلومات المستقاة من آخر مصدر لم يقرأ الكتاب، والاعتزاز السري والعلني بالرفاق، في انتظار السيرة المقبلة!

ويستمر الاهتمام بذلك التاريخ، اهتماما بالذاكرة فقط، وبما أسفرت عنه نرجسية هذا وما أخفته نرجسية هاته واستمرت الذاكرات تغرق شيئا فشيئا في الوهن والشهود والفاعلون في الرحيل إلى سُكاتِهم أو إلى الصمت الأخير، ونرجع إلى الشجن المستدام والخوف من انتهاء هذه التجربة المهمة، على أي حال، إلى النسيان.

وأبادر للسؤال: – ماذا نعرف عن تجربة وتنظيم وأدبيات الفصيل الرفيق “لنخدم الشعب”، ولربما أن له وشائج خاصة بالاعتقال سواء في 1972 أو 1974/ 1976؟

وأصرُّ على الإلحاح: – كيف انتقل الخلاف داخل الحركة الماركسية-اللينينية المغربية وداخل فصيل “23 مارس” إلى التخوين والتكفير والقطيعة السياسية والتنظيمية، هكذا بدون مسطرة أو نقاش؟ ثم كيف، انقلبت العلاقات الرفاقية السياسية والأيديولوجية إلى علاقات إنسانية رائعة الإنسانية ودَفَنّا الخلايا واللجان والنشرة الداخلية وأسابيع “السرية” والاجتماعات والقرارات، دون رجعة؟

أين اختفت شراستنا في نقاش الأمور والتمحيص في أوجه الخلاف وأُسُسِهِ وأصوله وأبعاده في الكتاب الأحمر و”ما العمل” وفهرست “الرأسمال” وجزءه الرابع أو الثالث وقياس الاقتراب والابتعاد عن الثورة وطبقتها وتحالفاتها والمهام المستعجلة ل”الاشتراكيين-الديمقراطيين …” أجمعين؟

وبالمناسبة، اكتشفت أن لنا رفاقا، انبروا لمساءلة فكرنا ومساءلة فرضياته “ويقينياته” وخلاصاته ومراجعه التاريخية والروابط بين الطوبى الاشتراكية العظيمة والغولاغات[2] ولعل هذه مهمة استراتيجية أخرى لكل الذين انتسبوا أو ما زالوا منتسبين لهذا الحلم الإنساني.

ولربما غيرت عنوان هذه السلسلة من المساهمات إلى “أدب السجون اليساري والفكرة المُؤَسِّسَة”، ما رأيكم؟

لكن السؤال الأقسى على نرجسيتنا حين تستفيق من الروتين المعتاد وآخر أقساط القروض المقبلة وصمودنا الهائل في الاعتياد على الوضع القائم أو الجاثم ومشاكل البنت والولد والأحفاد إن استطاعوا واستطعنا سبيلا، هو ذلك السؤال الذي يظهر ويختفي يوقظنا آناء الكابوس وأطراف الحلم: – ماذا تبقى، بعد أن نحذف كل “الدوغمائيات المعلنة وكل التبسيطيات القديمة وكل البطولات والمواقف والتصريحات والقصائد “المطهمة” وكل هذي العقود من السجن والأدب؟

ماذا تبقى، بعد أن انتهى الخلاف بين “التراجع التكتيكي” و”بناء الحزب تحت نيران العدو” بعد التلاسن حول “وثيقة الأطر” وسرقة “المنظمة” من طرف “أصحاب باريس”، بعد انتهاء “إفلاس الإصلاحية والتحريفية” وصعوبات إعطاء الأمان لليمين المعتقل معنا وتأخر الثورة؟

أهو “الحلم الجميل” الذي نحمله منذ أول لقاء للكهول أو هو تجميعُنا وتجمُّعُنا بعد أن انسابت مياه كثيرة شاهقة وعميقة مُغْرِقَةٌ تحت جسر الحياة؟

أهمُ الراحلون وذكراهم؟

أم هي ما كُنّاهُ بمراهقته وتبسيطيته وأخطائه، والوفاء لتلك الشرارة التي أشعلت وأحرقت شبابنا وشكلت مشعل المقاومة الذي اقترضناه ممن سبقونا وسلمناه لأصحابه من الأجيال اللاحقة، أو نوينا الأمر، وديعةَ حبٍّ والوفاء للوطن وللإنسان؟

هل سنتواضع لنقرأ ونَعْرِفَ تاريخنا الخاص فردا فردا، وجماعة ووطنا، أم سنستمر نحمل أسفار “حلم جميل” لانَتَبَيَّنُهُ؟

يا نرجسيات أدب السجون اليساري هيا نَحُجُّ، جماعيا، باختلافاتنا وتفاوت تقديراتنا، لنُقْرِئَ الحركة الماركسية-اللينينية المغربية، التحية والسلام ما تستحقه من اعتزاز ونقد وتفكيك لعناصرها وقراءة “موضوعية” لتاريخها-نا.

على سبيل الختم والطلب

          هذه المقالات والمجموعة الملتئمة حول “أدب السجون اليساري” هدفها تحقيق آما العديد منا في إثارة التفكير والنقاش حول فترة عصيبة وغنية من تاريخنا الحديث، وتاريخ حركة سياسية تجرأت على ميزان القوى وعلى الوضع الصعب حين كانت سنوات الرصاص على أشدها والقمع غداء يومي والخوف طاغٍ، وعن حقل مهم من إبداع عدد من المغربيات والمغاربة.

لقد استقبلتم هذه المبادرة بترحاب كبير، لكننا سننجح جميعاً إذا بادر كل واحد منا باقتحام هذا النقاش المنشود، كل منا بطريقته وأسلوبه وتحليله وتقديراته.

ذلك واجبنا أيضا على كل اللواتي والذين احتضنوا مقاوماتنا وتضامنوا معنا في تلك الأوقات الصعبة وبعدها.

____________________________________________________________

[1] La parole confisquée publiée par Marc Gontard

[2] Les goulags

Visited 71 times, 10 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى مفتاح

ناشط سياسي وجمعوي