نيكول دو بونتشارا والأفق العميق لمراكش

نيكول دو بونتشارا والأفق العميق لمراكش

كاركاسون- المعطي قبال

       ليست نيكول دو بونتشارا من صنف أو عينة الكتاب الأجانب العابرين بمدينة مراكش أو من المقيمين لفترات لأجل الاستجمام والإلهام، بل تنتمي إلى فئة المتماهين مع روح المدينة، مع ناسها، إيقاعاتها ورموزها الخفية مثلها في ذلك مثل خوان غوبتيسولو أو بيرت فلينت. غير أن نزول دو بونتشارا بمراكش لم يكن نتيجة جولة عابرة بل كانت المدينة مأوى لمنفى قسري عنيف. إذ تم اغتيال والدتها عام 1944 من طرف جندي ألماني بمدينة ليون المحتلة. على إثر هذا الحدث، أخذتها خالتها رفقة أختها الأكبر إلى المغرب وتحديدا إلى مراكش وهي في سن صغيرة، وبدل إقامة العائلة بالحي الأوروبي بمنطقة جيليز، نزلت وأقامت بوسط المدينة.

    عاشت العائلة بين المنافي إذ نزحت المرة الأولى من روسيا إلى فرنسا، ثم من فرنسا إلى المغرب. بدل أن تعيش نيكول هذا النزوح كصدمة حولته إلى تجربة لمعايشة أمكنة ووجوه وفضاءات جديدة الشيء الذي أيقظ حواسها، ربى نظرتها ووسع من رؤيتها للعالم.

   عاشت نيكول دو بونتشارا بمراكش من 1945 إلى 1955 وهي فترة حاسمة في تاريخ المغرب الذي كان يرزح تحت نظام الحماية. على المستوى الثقافي كان الأدب الفرنكوفوني في حلته الاستشراقية هو السائد حيث قدم المغاربة في حلة أهالي متخلفين ومستوحشين.

   في السيرة الذاتية لنيكول لم ترد سنة ولادتها وهذا حرص منها على أن لا تكشف عن سنها. عاشت إذا بالمغرب لمدة 10 سنوات قبل أن تعود إلى فرنسا وتحديدا إلى غرونوبل للاشتغال على مشروعها الثقافي الذي لم يعرب في البداية عن شفافيته تجاه الجمهور، المنشطين والفاعلين الثقافيين إلى أن أمسكت بعد عدة زيارات ولقاءات مع كبار الرسامين والكتاب بالمغرب بالخيط الرابط لما عملت على تنظيم تظاهرة محلية مخصصة لفنون وآداب المغرب، وقد غطت التظاهرة ارجاء مدينة غرونوبل واستدعي لحضورها والمساهمة فيها كبار الرسامين والكتاب والموسيقيين المغاربة من أمثال محمد المليحي، فريد بلكاهية، محمد القاسمي، الشعبية طلال، عبد الكبير الخطيبي، محمد بنيس، فاطمة المرنيسي وغيرهم. كانت هذه التظاهرة حدثا فكريا وفنيا بامتياز مكن المشاركين من لإقامة حوار فيما بينهم بعيدا عن النرجسية والانكفاء. الحدث الثقافي الثاني الذي كانت نيكول من وراء هندسته الدقيقة هي رحلة التقفي لآثار أرثر رامبو ومشواره عبر مدن مر منها إلى غاية وصوله إلى مدينة عدن وإقامته بها لغاية التجارة.

    هكذا شكلت نيكول قافلة من كتاب، شعراء، فنانين، صحافيين تركوا من ورائهم فرنسا ليقلوا المتوسط من مارسيليا إلى فبرص، ثم الإسكندرية، ثم اليمن وصولا إلى عدن ومرورا بصنعاء وشيبام. لم نعثر على رامبو ولا على آثاره لكن وجدنا في استقبالنا شعراء وكتاب وفنانين بقيمة إبداعية وفنية عالية. من أمثال قاسم حداد وعز الدين المقالح وغيرهما. غير أن نيكول ليست منظمة حفلات بل هي شاعرة وكاتبة وناقدة من الطراز الرفيع. ألفت دواوين مثل «طنجة»، «الآنسة دنيز ماسون»، «نور على نور» ونصوصا فنية ونقدية، مثل العمل الذي أنجزته رفقة رشيد القريشي، أو الكتاب الفني بمشاركة المعطي قبال… لذا خلف رحيلها في 2 نوفمبر 2023، فراغا كبيرا في حقل الثقافة المغربية المكتوب بالفرنسية.

   لإحياء حضورها الفاعل قرر مجموعة من أصدقائها بالتعاون مع “بيت دنيز ماسون” بإشراف من صوفيا التباع، والمعهد الفرنسي بمراكش، ممثلا برئيسه سيلفان تراي، قرروا تنظيم لقاء تكريمي لذكراها يوم السبت 27 أبريل بـ”بيت دنيز ماسون” ابتداء من العاشرة، يساهم فيه كل من ماحي بينين، محمد حبيب السمرقندي، عبد الرحمان طنكول، محمد الراشدي، عبد الله زريقة، مديحة الحجوي، المعطي قبال…

    على أي سيبقى ذكر نيكول دو بونتشارا وثيق الارتباط بمراكش وبمشغول الكتابة في الثقافة المغربية الناطقة بالفرنسية.

Visited 70 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".