القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد.. في كتاب “الإعلام في زمن اللا يقين”
متابعات:
من بين الفقرات التي تضمنتها فعاليات المؤتمر الدولي الأول حول “الصحافة والإعلام في ظل الثورة الرقمية: قضايا واشكاليات”، الذي نظم ما بين 19 و21 دجنبر بمدينة وجدة، تقديم مؤلف “الإعلام في زمن اللايقين” للكاتب الصحفي جمال المحافظ، رئيس المركز المغاربي للدراسات والأبحاث، الذي أكد في مستهل هذا اللقاء على أن ” القديم يحتضر ، والجديد لم يولد بعد، وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع”، وذلك استنادا لما كان قد ذهب إليه الفيلسوف وعالم الاجتماع الإيطالي أنطونيو غرامشيى صاحب مفهوم المثقف العضوي في وصفه للأزمة في مؤلفه “دفاتر السجن”.
في ما يلى الورقة التقديمية لـ”الاعلام في زمن اللايقين” التي ألقاها جمال المحافظ، صاحب مؤلف “حفريات صحافية.. من المجلة الحائطية الى حائط الفيس بوك”، خلال هذا المؤتمر الذي نظمه مختبر استراتيجيات صناعة الثقافة والاتصال والبحث السوسيولوجي – فريق المغرب الثقافي وتنمية الاتصال – وشعبة علوم الاعلام والتواصل الاستراتيجي وماستر الصحافة والاعلام الرقمي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة:
براديغم جديد
على خلاف اليقين الذي يفيد التأكيد التام والكامل على صحة شيء ما، أو الاقتناع بفكرة معيّنة، كحقائق مؤكدة لا مجرّد فرضيات، فإن اللايقين الذي قد يعنى الارتياب والشك، ليس مفهوما جديدا، بل تعود جذوره الى سنة 1927 حينما اعتبر العالم الألماني فرنز هايزنبرغ “أن الإنسان ليس قادراً على معرفة كل شيء بدقة متناهية”.
لكن سرعان ما انتقل مفهوم اللايقين بعد تشكله في دائرة الفيزياء، إلى الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، أضحى بذلك هذا المفهوم أكثر تداولاً في الزمن الراهن، وتحول إلى نموذج تفسيري وبراديغم إرشادي جديد. ففي كتابهما “بين الزمن والأبدية”، يذهب إيزابيل ستنغرس وإيليا بريغوجين الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1977 الى القول بأن ” اليقين الوحيد الذي يمكن أن يتمتع به المرء، هو أننا نعيش في عالم من اللايقين”..
كتاب “الإعلام في زمن اللايقين” ليس الهدف المتوخى من إصداره، معالجة مفاهيم مبدأ اللايقين أو مواكبة النقاش الدائر حوله في ظل عالم معولم ومتغير، وإنما هو مساهمة تستند على مقاربة نظرية، وميدانية ، تطرح الأسئلة، أكثر ما تتوسل أجوبة جاهزة ونهائية، حول قضايا الصحافة والإعلام والاتصال، وذلك ارتباطاً بأسئلة وتحولات مجتمع المعرفة والاعلام، في زمن الثورة التكنولوجية التي هناك من يعتبرها ثورة صناعية ثالثة بعد الأولى الآلة البخارية والثانية الكهرباء والسكك الحديدية.
الإعلام ثقافة
وفي هذا الاطار يندرج الكتاب، ضمن مؤلفات لحفريات متتالية حول الصحافة والإعلام قبل وبعد الزمن الرقمي. وترك نصوصه الحرية للقارئ في اختيار المواضيع الذي تتماشى مع ميولاته وانشغالاته، معتمدا في ذلك أسلوبا ومعالجة ذات لغة مرنة، تميل بشكل أكبر للكتابة الصحفية، وذلك أخذا بعين الاعتبار تحولات نمط القراءة وطبيعة القراء في العصر الرقمي.
“الإعلام في زمن اللايقين” مؤلف يتضمن ستة فصول، هي: “الإعلام والثورة الرقمية” و”الثقافة والإعلام” و”الإعلام والسياسة” و”الصحافة والذاكرة” و”الإعلام والمؤسسات” وأخيراً “الإعلام والجوار”. ومن خلال القضايا التي يعالجها الكتاب، يحاول إثارة انتباه مختلف الفاعلين إلى تحديات ورهانات الاعلام والاتصال الذي لم توليه بعد السياسات العمومية الاهتمام الذي يستحقه. فضلا عن الموقع المتدني الذي يحتله في البرامج الحكومية ولا حتى في النموذج التنموي الجديد الذي أريد له أن يستمر إلى غاية 2035، كما لم يحظ الاعلام والاتصال وقضاياه، بما يكفي من عناية في ميدان البحث العلمي رغم مجهودات مبذولة هنا وهناك.
مُستقبل الإعلام
إن مختلف نُصوص كتاب “الإعلام في زمن اللايقين”، تحمل قلق السؤال حول مُستقبل الإعلام في قلب تحولات جارفة تفعل ذلك وهي تُفكر في أثر السياسي على الصحافة والاعلام، و تقف على اختبار الأخلاقيات المهنية في زمن الرقمنة، تستعرض تحديات الصحافة الثقافية أمام اكتساح الضحالة المُعممة، و تُدقق النظر في حُضور الطفل و المرأة و الثقافة والبيئة والرياضة والمجتمع المدني في إعلام اليوم، و تبحث في مآلات بنيات و مؤسسات الأداء الإعلامي، كما جاء في تقديم الكتاب بقلم الأستاذ الجامعي حسن طارق.
إن النصوص التي يتضمنها المؤلف كتبت أيضا مُستحضرة وجوهاً مشرقة في ذاكرة الإعلام، أو مُتشابكةٍ مع قضايا مطروحة على جدول أعمال المغرب الإعلامي أو متفاعلة مع اهتمامات قريبةٍ من آفاق صاحب الكتاب. لكنه تحضر – ضمن جدلية خلاقة – كل الأسئلة الحارقة لمستقبل الصحافة في زمن اللايقين الإعلامي، كما جاء في مقدمة الكتاب أيضا.
الإعلام والتكنولوجيا
وتطرح إشكالية التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، عدة أسئلة في “عصر اللايقين” من بينها هل تهدد تكنولوجيا المعلومات الديمقراطية؟ وما هي الفرص الجديدة التي تتيحها لنشر الديمقراطية والحرية؟. بيد أنه إذا كان مستقبل الصحافة والإعلام والاتصال، يرتبط أشد الارتباط بمتغيرات الفكر والسياسة والصحافة والمجتمع، ومعها تحديات الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، ومعهما تحديات انتشار الشعبوية، فإنه يلاحظ على المستوى الاعلام والاتصال، أن الفضاء العام تحول – بفضل التوسع الهائل للتقنيات الحديثة – إلى “فضاء إعلامي بامتياز” حسب يورغن هابرماس آخر عمالقة مدرسة فرانكفورت النقدية الألمانية.
وضمن هذا الفضاء العمومي، أصبحت وسائط الاتصال، تشكل النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الرأي العام، وتحولت بذلك إلى موجه لطريقة تمثلنا للعالم، وأصبحت معها العلاقات، لا تتم وفق التجربة المباشرة للأفراد والجماعات، بل تتم وفق ما تقدمه لنا هذه الوسائط جاهزة.
مواطنة واقعية وافتراضية
الكتاب الذي حظي بقراءات بمناسبات وبفضاءات بمدن متعددة، وتميزت بمقاربات متنوعة لكنها كانت متقاطعة، منها من اعتبر أن توصيف مستقبل الصحافة المهنية في ظل الثورة الرقمية من خلال جدلية، تنبني على أساس أنها صارت تحاكي منطق السيلان – بحسب عالم الاجتماع البولندي زيغموند باومان – حيث أن تدفق المعلومة وليس سرعتها و خضوعها لنخبة سائلة وعائمة، ترتهن بجدلية الربح المادي والحظوة المجتمعية.
وهذا ما أكد عليه سعيد بنيس الأستاذ الباحث بجامعة محمد الخامس بالرباط في احدى مساهماته مؤخرا بالرباط لمقاربة نصوص كتاب “الإعلام في زمن اللايقين”، حينما أوضح بأن هذا ما جعل من الصحافة تابعة لقضايا وإشكالات متحكم فيها، وأن العهد الرقمي فتح مجال الصحافة لفئات عريضة من المجتمع، حيث انتقل الأفراد من مواطنين عاديين إلى مواطنين صحافيين من خلال تحول نوعي في طبيعة مواطنتهم حيث تم المرور من مواطنة واقعية إلى مواطنة افتراضية تتأسس على التداول والتفاعل الديجيتالي كمصدر للمعلومة وتداول الأخبار.
جرس إنذار
لكن مؤلف “الإعلام في زمن اللايقين”، لا يدعى الإجابة الشافية عن مستقبل الصحافة والإعلام في ظل تحديات الثورة الرقمية ورهانات الذكاء الاصطناعي والمتغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية الصحافية والذهنية والسلوكية، بقدر ما يطمح إلى أن يكون جرس إنذار مع إثارة انتباه كافة الفاعلين على جميع المستويات إلى الأدوار التي أصبح يضطلع بها الإعلام في القرن 21 زمن الثورة الرقمية.
كتاب “الإعلام في زمن اللايقين”، الواقع في 350 صفحة، يقارب بالخصوص التحديات التي تواجه الصحافة والإعلام في ظل التكنولوجيا الحديثة من خلال رصد آثار الثورة الرقمية التي صار بفضلها كل مواطن، كيفما كان، مصدرا للمعلومة، بشكل اختفى فيه مجال اختصاص الصحافي، الذي كان في السابق مصدرا أساسيا لإنتاج المعلومة ونشرها.