نَجِيب مَحْفُوظ فى عيون نقّاد ناطقين بالاسبانية: تشريح شرائح اجتماعيّة من قاع المدينة

نَجِيب مَحْفُوظ فى عيون نقّاد ناطقين بالاسبانية: تشريح شرائح اجتماعيّة من قاع المدينة

د. السّفير محمّد محمّد خطّابي

         ما فتئت روايات نجيب محفوظ المُترجَمة إلى اللغة الإسبانية تحظى باهتمام بالغ، ومتابعات حثيثة من طرف العالَم الناطق بهذه اللغة، وما انفكّت أعماله تحتلّ يوماً بعد يومٍ مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية سواء في إسبانيا أو في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية على وجه الخصوص.

نماذج بشريّة تحت المِجْهر

      يرى الناقد الاسبانى “مانويل بيامور” أنّ رواية “زقاق المدقّ “(التى تُرجمت إلى العديد من اللغات الحيّة العالمية بما فيها اللغة الاسبانية) ” أنّ أوّل ما يلاحظه قارئ هذه الرّواية هو تعدّد وكثافة شخصّياتها التى تفرض نفسها عليه، والتى تبدو وكأنّها تطلّ بهامتها من بين سطور الرّواية. وتصبح فيما بعد وكأنّها قضايا حقيقية قائمة بحيث توحى لك الرّواية أنّ ما تقرأه هو أحداث واقعية يرويها لك راوٍ مُتجوّل تفاعل، وعايشَ، ولامسَ بالفعل ملابسات وظروف جميع أفراد شخصيات الرّواية.

يؤكّد نفس الناقد أيضاً ”أنّ مردّ ذلك يؤول فى المقام الأوّل إلى المقدرة السرديّة الهائلة التى يتميّز بها نجيب محفوظ، ذلك أنّ الحكايات والطرائف اليومية العادية والمتواترة عنده تتحوّل الى مادة أدبية ثريّة آسرة، فأقلّ الأحداث وأبسطها تعالَج في هذه الرواية بعمق تحليلي يثير فضول وتساؤل القارئ حيث يغدو ما يقرأه بالتالي تحليلات ذكية لنماذج بشرية يمكن أن توجد في أيّ بقعة من بقاع العالم. وهكذا يتحوّل القلم في يد الرّوائي إلى مِجهر دقيق تزداد الصّور والمرئيّات تحته أمام أنظارنا كِبراً واتّساعاً حيث يُجسِّد لنا به – ونُجسِّد بالتالي نحن معه – ذلك العالمَ الهائلَ المتنوّعَ الذي لا يتوقّف عن الغليان، ولا يهدأ أوارُه، والغارق في طيّات الزّمن وثناياه، وفى مجاهل المكان، هذا المكان ليس من الضرورة أن يكون زقاقاً من أزقّة القاهرة، بل يمكن أن يكون كذلك أيّ زقاقٍ من أزقّة العالم وقد اجتمع فيه: الحبّ، والكراهية والكسل، والصّبر، والفُضول، والطموح، والإخفاق، والرّغبة، والجشع، والطمع، والخِداع، والسّوقيّة، والعَجرفة، والابتذال، والتواضع، والتسكّع، والهجران… إلخ كل هذه النعوت والأوصاف، والطبائع والصّفات التى هى عناصر لها وجود في كل مكان نجدها في هذه الرّواية مجسّدة في أناس يبدون وكأنهّم موجودون فعلاً، والذين يمثّلون شرائحَ اجتماعية سُفلىَ فى قاع المدينة في وسط معيّن مثل بائعة الخبز، (العيش البلدي)، والزّوج صاحب المقهى، والحلاّق ، وبائع الحلويات السّمين والغليظ الجسم.. الخ.

إنّ المقدرة الفريدة للمبدع عندما تكون ذات أصالة فإنّه لا ينتقي بها أو من خلالها بالضرورة المواضيع الكبرى، بل إنهّ لا يلجأ إلى اقتناص الشخصيات المهمّة لكي يعكس لنا حقيقة العالم، بل إنّه يكتفى بزقاق ضيّق ضائعٍ بين دروب، وأحياء جانبية، وبين دهاليز أرباض مُهمّشة لمدينة مّا، ليقدّم لنا تحليلاً دقيقاً ضافياً، ووصفاً معمّقاً ومفصّلاً لنماذج بشرية ذات سِمات، أو صِفات مشتركة في مجتمعٍ يمكن أن يحدث فيه أيّ شئ، ويمكن أن يُنتظر منه أيّ شئ. في هذه الرّقعة الضيّقة والمحدودة نجد هذه الشخصيات التي تجذبنا إليها بقوّة بواسطة أحداث تبدو للوهلة الأولى وكأنّها ليست ذات معنى، ولكنّها سرعان ما تتوالى، وتترى، وتتصاعد في سياق الحكيّ، وأحداث الرّواية باستمرار، وكلما حاولت شخصية مّا ترسيخ خاصّية البطولة فيها لا تلبث أن تحلّ محلّها شخصيّة أخرى بفضل الموهبة الأصيلة التى تطبع، وتميّز كتابات نجيب محفوظ.

الأدَب العربىّ والأدب الاسبانيّ سيّان

    ويضيف الكاتب الإسباني بيامور -الآنف الذّكر- إنّ قارئ رواية ”زقاق المدقّ” وسائر أعمال نجيب محفوظ: “يشعر وكأنّه أمام نوع من الأدب الجديد، خاصّة بعد أن طفق جيلنا يتخلّص رويداً رويداً من رواسب، وبقايا، وآثار، ومخلّفات حكايات مُجترّة، وموروثة شفوياً تدور حول كلّ ما هو خيالى وهمى، وحقيقى واقعى، وأسطورى خرافي، هذه الحكايات المتوارثة والمُعنعنة، إستحوذت على باطن الذاكرة الشعبية لمدّة قرون. إنّ هذا النوّع من الأدب يخلق فينا متعة أدبية رائعة لا تقودنا أو تفضي بنا إلى كتابة رواية بليغة ليس لها وجود سابق في اللغة وحسب، وإنّما هي أنشئت إنشاءً مثلما هو عليه الشّأن فى الرّواية التى نحن بصددها.

إنّ أحداثاً من هذا القبيل، مثل حدث طبيب الأسنان وشريكه وهما يُضبطان متلبّسيْن بسرقة طاقم الأسنان لأحد الموتى حديثاً، إلى جانب أحداث أخرى في الرواية تبدو لنا وكأنّها قد انتُزِعت إنتزاعاً من أعمال “أرْثِيبِريستي دِى هِيتَا” (*) أو من إحدى الرّوايات الصعلوكية الاسبانية القديمة.

ولا يساور هذا الناقد أدنى ريب فى أنّ: ”هذا الصّنف من الأدب العربى لهو أقربُ من الغرب وبشكل خاص من بلده إسبانيا، أكثر من أيّ بلد آخر، الشّئ الذى يبيّن بوضوح مدى تأثيره البليغ فينا، هذا التأثير الذى يكاد أن يصبح نسيّاً مَنسيّاً في معظمه، إلاّ أنه في الواقع ما زال يقبع في أعماق آدابنا الإسبانية سواء في شبه الجزيرة الإيبيرية أو في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية ، إنّ كلّ ما هو عربي بالخصوص له سمات، وأمارات، وعلامات، وخصائص جدّ متشابهة، ومتقاربة مع كلّ ما هو إسباني إبتداء من القرون الوسطى ثم في عصر النهضة“.

ويستمرّ الناقد الإسباني في تأكيده لهذا الاتجاه مشيراً إلى أنّ هناك مظاهر مشتركة بيننا لا يمكن أن تقدّمها لنا آداب شرقية أخرى مثل الآداب الصينية أو الهندية ، أو اليابانية، حيث لاعلاقة، ولا صلة لها ببلداننا. وهذا أمر غريب ومثير وغير مفهوم بالنسبة لبعض لقرّاء الغربيّين.

إنّ هناك نزعات إنسانية أساسية بإمكان المرء أن يقتل من أجلها، وهي فوق كلّ اعتبار، هذه النزعات أو الأهواء هي مدفوعة بشكلٍ تلقائي فطري، وهي تبيّن لنا مدى عمق وأبعاد ثقافة تلك الشخصيات المتمثّلة والمتأصّلة بالخصوص في شخصيات هذه الرّواية مثل عبّاس، والحلاّق، وحميدة، وفي شخصيات روايات نجيب محفوظ الأخرى.

قمّة إبداعات نجيب محفوظ

    وعلى غرار الناقد الإسباني الآنف الذكر، ترى الكاتبة المكسيكية “نَعِيمَه أتَامُورُوسْ” من جهتها: ”أنّ نجيب محفوظ يُعتبر من كبار الكتاّب في مصر والعالم العربي، وهو ما زال يحظى حتّى الآن باهتمامات الأوساط الأدبية في المكسيك وفي مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية الأخرى على الرّغم من حصوله على جائزة “نوبل” في الآداب عام 1988 ، ومن رحيله عام 2006″. وتضيف الكاتبة: “ولقد تعرّفنا بواسطة كتاباته على كثير من العادات، والتقاليد، والأعراف، والعوائد العربية، بل إنّه نقل لنا صوراً حيّة عن ذلك الشقّ النّائي من العالم“. وتشير الكاتبة فى نفس السياق: أنّ روايته “السكّرية ” وهي آخر الثلاثية “بين القصرين” و”قصر الشوق” اعتبرت قمّة إبداعاته الأدبية التى تمّ نقلها إلى اللغة الاسبانية ليس في بلدها المكسيك وحسب، بل في معظم بلدان أمريكا اللاتينية، وفى فضاء العالم الناطق باللغة الإسبانية.

وتقول الكاتبة: ”إنّ “السكريّة” التى نُشرت في القاهرة أوّل مرّة عام 1957 وهي تعالج الجيل الثالث لأسرة عبد الجواد، نجد فيها الكثير من المظاهر السياسية، والاجتماعية في مصرفى الفترة المتراوحة بين 1935 -1944. وتضيف الكاتبة: إنّ صورة عبد الجواد وأسرته في هذه الرواية هي انعكاس واضح، وتصوير دقيق للعديد من الأسر المصرية التي عاشت في ذلك الوقت.

ويرى الكاتب المكسيكي”ألبرتُو روي سانشيس” من جهة أخرى: “أنّ أدب نجيب محفوظ يتعمّق فى استكناه، واستبطان، واستغوار الكائن البشري، ويحلّله تحليلاً دقيقاً أبعد ممّا يمكن أن يقوم به أيُّ أخصّائيٍّ فى علميْ النّفس أوفى علم الاجتماع أو أيّ مؤرّخ متخصّص. إنّ ما كتبه نجيب محفوظ عن مدينة القاهرة يبدو وكأنّه كُتب عن مدينة مكسيكو سيتي”، أو عن أيّ مدينة كبرى أخرى من بلدان العالم. ويضيف نفس الكاتب: “إنّنا واجدون فى أعماله البحث الدائم، والهوس المُستمر عن الهويّة المصريّة بواسطة وصفه الدقيق لمجريات الحياة اليومية فى القاهرة، كما أنه يتميّز فى هذه الأعمال بدعوته الملحّة إلى التسامح الديني، والمعايشة السلمية بين كلّ الناس من مختلف الإثنيات، والمِمل، والنِّحل، والأجناس، مثلما هو عليه الشأن فى روايته “أولاد حارتنا” ممّا عرّضه فى العديد من المرّات إلى تهديده بالموت”.

محفوظ فى السينما الناطقة بلغة سيرفانتيس

     وبالإضافة إلى العناية الفائقة التي خصّت بها السينما المصرية أعمال الكاتب نجيب محفوظ فى موطنه مصرحيث أخرجت العديد من الأفلام السينمائية انطلاقاً من نصوص رواياته، وقصصه على إختلافها، فقد نُقلت كذلك بعض أعماله الرّوائية إلى السّينما خارج بلاده خاصّة فى العالم الناطق باللغة الإسبانية، وعلى وجه التحديد فى المكسيك، وهكذا نقل المُخرج المكسيكي “خُورْخيِ فُونْسْ “عام 1994 روايته” زقاق المدقّ” إلى الشّاشة العملاقة للفنّ السابع بعد إجراء تغيير طفيف على عنوان الفيلم باللغة الإسبانية حيث أصبح: “زقاق المعجزات” بدل “زقاق المدقّ” وذلك حسب الترجمة التي وُضعت لعنوان هذه الرواية فى اللغة الإسبانية عند ترجمتها. وقد جعل المخرج أحداث الرّواية تتماشى، وتتأقلم مع الوسط الشعبي المكسيكي، وحصل هذا الفيلم على جائزة “غويا” السينمائية الإسبانية، وهي أعلى وأرقى تكريم يُمنح فى عالم صناعة السّينما فى هذا البلد. كما نقل المخرج المكسيكي المُجنّس بالجنسية الإسبانية كذلك، وهو (من أصل يهودي) “أرتورو ريبستاين” كذلك عام 1993 رواية نجيب محفوظ “بداية ونهاية” إلى السينما أيضاً، وقد حققت هذه الأفلام المُقتبسة، أوالمُستخرجة، أو المستوحاة، من أعمال نجيب محفوظ نجاحات محمودة .

وتجدر الإشارة فى هذا القبيل أنّه قد تُرجمت إلى اللغة الإسبانية (فى إسبانيا وأمريكا اللّاتينية) ما ينيف على ثلاثين رواية لنجيب محفوظ منها على سبيل المثال وليس الحصر: السّراب، وبداية ونهاية، وخان الخليلي، وبين القصرين، وقصر الشوق، واللصّ والكلاب، وأولاد حارتنا، وخمّارة القط الأسود، وزقاق المدقّ، وحبّ تحت المطر، والقاهرة الجديدة، وليالي ألف ليلة وليلة، والسّماء السّابعة، ورحلة ابن فطّومة، وحديث الصّباح والمساء، والمرايا، ومقهى الكرنك، وميرامار، وهَمس الجُنون، وصباح الورد، وسواها من الرّوايات، والقصص والأعمال الإبداعية الأخرى فى مختلف مجالات الحياة.

____________________________________________________________________________________

(*)- خوان رويث المعروف بـ” أرثيبريستي دي هيتا”. Juan Ruiz Arcipreste de Hita كاتب إسباني من مواليد ”ألكَلاَ دِي إينَارِيسْ” (قلعة النّهر) (1283-1350) القريبة من العاصمة الإسبانية مدريد، وهي نفس المدينة التي وُلد فيها الرّوائي الإسباني الذائع الصّيت ميغيل دي سيرفانتيس صاحب “دُونْ كِيشُوتْ”، اسمُه الحقيقي”خْوَانْ رْوِيثْ”، إلاّ أنّه إشتهر باسم: ”أرثيبريستي دي هيتا”. يُعتبر مؤلَّفه الوحيد الذي يحمل عنوان “كتاب الحبّ الطيّب” (El libro del buen amor ) من أهم، وأشهر الأعمال الأدبية التي كُتبت فى القرون الوسطى ليس فى إسبانيا وحسب، بل فى أوربّا كذلك.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا