روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الأولى)

روسيا وإيران: تاريخ من التحالفات والصراعات (المقالة الأولى)

د. زياد أسعد منصور

           تتمتّع العلاقات بين روسيا وإيران بتاريخٍ طويلٍ وعميق. فقد بدأت أولى الاتصالات التجارية والسياسية بين الكيانات التي كانت قائمة في الأراضي التي تشكّل حالياً روسيا وإيران منذ وقتٍ مبكر يعود إلى القرنين الثامن والعاشر الميلاديين. وابتداءً من منتصف القرن الخامس عشر، بدأ البلدان في تبادل البعثات الدبلوماسية بشكل رسمي ومنتظم.

تُعدّ إيران دولة ذات حضارة عريقة وتاريخ موغل في القِدَم، وتقع في جنوب غرب آسيا، فوق الهضبة الإيرانية التي تهيمن على الجزء الغربي الأكبر منها. وقد تعود جذور الكيان السياسي الإيراني إلى أعماق التاريخ، حيث نشأت على هذه الهضبة الشاسعة قوى تاريخية كبرى مثل آشور، وأورارتو، وميديا. وامتاز التاريخ السياسي لتلك الكيانات بسلسلة من الحروب الطويلة والمستمرة، التي دارت رحاها من أجل السيطرة على مناطق النفوذ، وضمّ الأراضي، والحفاظ على الكيان السياسي ذاته.

الروابط التاريخية بين الدولة الإيرانية وروسيا حتى نهاية العصور الوسطى

يرتبط تشكّل الدولة الإيرانية بظهور عدد من الكيانات السياسية الكبيرة في العصور القديمة، مثل الدولة الأخمينية (القرنين السادس إلى الرابع قبل الميلاد)، والدولة البارثية (منذ القرن الثالث قبل الميلاد)، والدولة الساسانية (من القرن الثالث حتى القرن السابع الميلادي). وعلى مدار أكثر من ألفين وخمسمائة عام من التاريخ المتواصل، شهدت إيران فترات من الازدهار والهيمنة، كما تعرّضت كذلك لغزوات متكرّرة، وتمكنت في فترات أخرى من فرض سيطرتها على أراضٍ مجاورة.

وفي العصور الوسطى، وقعت إيران مرارًا تحت وطأة الغزوات الأجنبية، من قبل العرب في القرن السابع، ثم القبائل التركية، فالمغول في القرن الثالث عشر. وأدّى ذلك إلى إدماج الأراضي الإيرانية ضمن كيانات سياسية جديدة نشأت بفعل تلك الفتوحات.

أما على حدودها الشمالية والشمالية الغربية، فقد كانت الدولة الإيرانية تجاور شعوباً سلافية أخذت تتوحد في القرنين الثامن والتاسع لتُشكّل كيانًا سياسيًا يُعرف بـ”كييف روس”، وهي النواة الأولى للدولة الروسية القديمة. وقد أقامت كييف روس علاقات سياسية وتجارية نشطة مع دول المشرق، وساهم موقعها الجغرافي في تمرير طرق التجارة الدولية عبر أراضيها في اتجاهات متعددة.

ومن أبرز هذه الطرق، كان طريق الفولغا–بحر قزوين، الذي شكّل شريانًا حيويًا يربط السلاف القدماء بشرق العالم الإسلامي، ومنه إيران. ولم تقتصر تلك الصلات على المبادلات التجارية فحسب، بل شملت كذلك أبعادًا دبلوماسية وثقافية.

وقد نشطت التجارة بين روسيا والمدن والمناطق الإيرانية مثل تبريز، وجيلان، وشماخا، ودربند، وطبرستان. وكانت هذه المبادلات ذات أثر اقتصادي ملموس، حيث أفادت التجار الإيرانيين إلى حد كبير؛ فقد حصلوا على السلع الروسية بأسعار منخفضة نسبيًا، مما عزز من رواج تجارتهم.

تطور العلاقات الروسية الإيرانية من القرن الحادي عشر حتى القرن السادس عشر

استمر النشاط التجاري بين روسيا وإيران في التوسع خلال الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر. غير أن الغزو التتري-المغولي في القرنين الثالث عشر والخامس عشر، وما خلّفه من دمار واسع النطاق وإبادة جماعية وخراب للبُنى السياسية والاجتماعية، أدى إلى انقطاع طويل الأمد في العلاقات الاقتصادية بين روسيا ودول الشرق، وعلى رأسها إيران.

ومع تحرر الدولة الروسية من السيطرة التتارية عام 1480، وبدء عملية توحيد الأراضي الروسية تحت راية موسكو، بدأت العلاقات الاقتصادية والسياسية مع العالم الإسلامي تعود تدريجياً. وقد ساعد على ذلك نجاح دولة موسكو في بسط سيطرتها على نهر الفولغا، بعد القضاء على خانية قازان عام 1552 وخانية أستراخان عام 1556. إذ كانت خانية قازان تتحكم في الروافد الوسطى لنهر الفولغا، بينما كانت خانية أستراخان تُحكم سيطرتها على مصب النهر المؤدي إلى بحر قزوين، ما جعل فتحهما حيويًا لاستعادة هذا الممر التجاري الحيوي.

ومع تأمين هذا الطريق، استعادت روسيا منفذها التاريخي إلى بحر قزوين، الذي لطالما شكّل ممرًا تجاريًا بالغ الأهمية يربط مناطق الشرق الأدنى والأوسط ببعضها البعض. ومنذ القرن العاشر الميلادي، سعت الدولة الروسية للسيطرة على هذا البحر، إلا أن تحقيق هذا الهدف تطلب مواجهة ومجابهة قوى إقليمية قوية كانت تسيطر على الطرق المؤدية إليه، وفي مقدمتها القبيلة الذهبية، وخانية القرم، والدولة العثمانية. وقد شكّل إخضاع خانيتي قازان وأستراخان نقطة تحول حاسمة في مساعي موسكو لتوسيع نفوذها جنوبًا.

أدى هذا التقدم الروسي إلى تعزيز حضورها في منطقة القوقاز، وجعل ممتلكات الدولة الروسية والإيرانية تتجاور جغرافيًا على نحو مباشر. وأصبح الجزء الشمالي من بحر قزوين يُعد ضمن المجال الروسي، بينما بقيت ضفافه الغربية والجنوبية ضمن نطاق النفوذ الإيراني. كما بات طريق الفولغا، ذو الأهمية الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، خاضعًا بالكامل للسيطرة الروسية.

في هذا السياق، لعبت الدولة العثمانية دورًا حاسمًا في رسم ملامح العلاقات الروسية الإيرانية خلال هذه الفترة، إذ كانت الخصم الرئيسي لكلا الدولتين. فبعد سقوط القسطنطينية عام 1453، تصاعد النشاط العثماني في اتجاهي الغرب والشرق، وبدأت القوات العثمانية في شنّ هجمات متكررة على العديد من الدول المجاورة، ما أدى إلى خلق حالة من التوتر الإقليمي المستمر، وأثر على مسار العلاقات الروسية الإيرانية، سواء من حيث التعاون أو التنافس.

التقارب الروسي–الإيراني في ظل التهديد العثماني وصعود الدولة الصفوية

لم تقتصر السياسة التوسعية التي انتهجتها الإمبراطورية العثمانية على مناطق جنوب شرق أوروبا فحسب، بل امتدت لتشمل أراضي الدولة الروسية، وإيران، ومنطقة القوقاز كذلك. ففي عام 1475، تمكن العثمانيون من السيطرة على شبه جزيرة القرم، وحوّلوا خانية القرم إلى كيان تابع لهم. ومنذ ذلك الحين، استخدموا تتار قازان وأستراخان كقوة ضاربة في صراعاتهم ضد روسيا وإيران، مما أضفى بعدًا استراتيجيًا بالغ الأهمية على مسألة التحالف أو التقارب بين الدولتين الروسية والإيرانية في تلك المرحلة.

وقد تزامن تجدد العلاقات بين الدولتين مع نشوء الدولة الصفوية في إيران (1500–1722)، التي مثلت تحولًا نوعيًا في التاريخ السياسي والديني لإيران، حيث اعتنقت المذهب الشيعي الإثني عشري كعقيدة رسمية، ما أوجد خصومة دينية وسياسية عميقة بينها وبين الدولة العثمانية السنية. في هذا السياق، أُرسلت أولى البعثات الدبلوماسية المتبادلة بين روسيا والدولة الصفوية على مستوى السفراء في عامي 1552 و1553، وإن كانت العلاقات الرسمية والاتصالات بين الجانبين قد بدأت قبل ذلك.

كان الشاه الصفوي يرى في موسكو شريكًا محتملاً يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التوسع العثماني، خصوصًا بعد فشل إيران في صد الهجوم العثماني الجديد على منطقة ما وراء القوقاز عام 1548. أما من الجانب الروسي، فقد كانت موسكو تسعى إلى توسيع مجال نفوذها جنوبًا وجنوب شرقًا، وهو ما وضعها في مسار تصادمي مع المصالح العثمانية أيضًا. وهكذا نشأت أرضية مشتركة من العداء تجاه العثمانيين، شجعت كلا الطرفين على التقارب والتنسيق السياسي.

ومن الجدير بالذكر أن الزعماء المحليين في مناطق القوقاز، ولا سيما في القبارديين، كانوا من أوائل من سعوا إلى التقريب بين روسيا وإيران، رغبةً منهم في إيجاد قوة داعمة في وجه الخطر العثماني المتزايد. ففي عام 1552، أُرسلت أول سفارة إلى موسكو من قِبل الأمراء القبارديين. ويورد المؤرخ الروسي ن.م. كارامزين في هذا السياق: “أرادت أراضي شافكيل وتيومين وجورجيا أن تكون رعايا لنا”، في إشارة إلى استعداد بعض الكيانات القوقازية للدخول في حماية موسكو، تعبيرًا عن حاجتها إلى دعم في وجه التوسع العثماني”.

في نهاية القرن السادس عشر، استغل الأتراك الاضطرابات الداخلية في إيران، ووسّعوا نفوذهم، فاستولوا على أذربيجان، وما وراء القوقاز، وشروان. وفي عام 1583، استولوا على باكو. ووصلت تركيا إلى بحر قزوين، حيث ظهر الأسطول التركي سريعًا، وبُنيت عدة حصون.

خلال هذه السنوات العصيبة التي مرّت بها إيران وروسيا، أقيمت علاقات دبلوماسية منتظمة بينهما. اقترح شاه إيران محمد خدابنده الصفوي (1578-1587) على القيصر الروسي تحالفًا عسكريًا ضد الإمبراطورية العثمانية، عارضًا نقل مدينتي دربند وباكو، اللتين كانتا تحت سيطرة الأتراك آنذاك، إلى روسيا مقابل مساعدة عسكرية. وفي عام ١٥٩٠، قدّم الشاه الإيراني عباس الأول (1587-1687) الاقتراح نفسه، واعدًا بنقل مدينتي دربند وباكو إلى روسيا، بالإضافة إلى شماخا، مقابل مساعدة عسكرية ضد تركيا. بعد أن أضعفتها الحرب الليفونية (1558-1583)، اتبعت الدولة الروسية سياسة دفاعية بحتة ضد الإمبراطورية العثمانية حتى نهاية القرن السادس عشر تقريبًا. ومع ذلك، لم ترفض مقترحات إيران، لأن الوصول التركي إلى ساحل بحر قزوين شكل خطرًا ليس فقط على إيران، بل هدد أيضًا مواقع الدولة الروسية في جنوب نهر دنيستر حتى منطقة بحر قزوين وطريق الفولغا-قزوين. لكن هذا التحالف العسكري، بسبب العديد من الظروف التاريخية، لم يتوصل إلى نتيجة منطقية، على الرغم من أن العلاقات السياسية والاقتصادية الروسية الإيرانية استمرت في الود.

 في نهاية القرن السابع عشر – بداية القرن الثامن عشر، شهدت إيران فترة من التدهور الاقتصادي والسياسي العميق. أصبحت قوة الشاه وهمية. اندلعت تمردات في أماكن مختلفة من الإمبراطورية الشاسعة ومتعددة القبائل. اندلعت في كردستان ولرستان وبلوشستان وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. استغلّ الأفغان الوضعَ الإيرانيّ الصعب، فغزوا أراضيها واستولوا على أصفهان عام1722. ونصّب زعيمهم مير محمود نفسه شاهَ إيران. ورغم استيلاء الأفغان على منطقةٍ واسعةٍ في وسط إيران، تضمّ مدنَ قطن، وقم، وقزوين، وغيرها، إلا أن وضعَ الغزاة كان محفوفًا بالمخاطر، إذ أثار عنفُهم ونهبُهم مقاومةً عارمةً من الشعب الإيراني. لم تستطع روسيا أن تبقى غير مباليةٍ بالوضع في إيران. فقد كانت سياستها تجاهها، في المقام الأول، رهن بمصالحها الأمنية والخطط التي استندت إليها سياسة بطرس الأول الشرقية: السيطرة على شواطئ بحر قزوين ومنع تعزيز الإمبراطورية العثمانية على حساب الأراضي الإيرانية في القوقاز.

التدخل الروسي في إيران خلال عهد بطرس الأكبر ومعاهدة سانت بطرسبرغ (1722–1723)

في حزيران من عام 1722، أصدر القيصر بطرس الأول بيانًا موجّهًا إلى الشعب الإيراني، شدد فيه على أن التحركات العسكرية الروسية لا تستهدف إيران، وإنما تهدف إلى “كبح جماح” سرخاي خان وحاجي داود، اللذين – وفقًا للبيان – ارتكبا مجازر بحق التجار الروس في مدينة شماخا، حيث “قاموا بتقطيع أوصال أبناء شعبنا الذين قدموا إلى هناك للتجارة، وسلبوا ممتلكاتهم وبضائعهم التي قُدّرت قيمتها بنحو أربعة ملايين روبل”.

وفي إطار هذه الحملة، احتلت القوات الروسية مدينة دربند في أيلول 1722، تلتها السيطرة على مدينة باكو في صيف عام 1723. وبدعوة من بعض القوى المحلية، ولا سيما الجيلاكيين (شعب إيراني الأصل يعيشون بشكل رئيسي في شمال إيران، وتحديدًا في إقليم جيلان الواقع على الساحل الجنوبي للبحر الخزر (قزوين)، الذين طلبوا مساعدة روسيا ضد الغزو الأفغاني، أرسل بطرس الأول قوات بحرية إلى موانئ إنزلي ورشت، ما وسّع نطاق الوجود العسكري الروسي في المناطق الشمالية من إيران.

وقد أثار هذا التدخل الروسي قلق الدولة العثمانية التي رأت في التوسع الروسي في القوقاز تهديدًا مباشرًا لنفوذها في المنطقة. وردًا على ذلك، شنّت القوات العثمانية هجومًا على الأراضي الإيرانية في عام 1723، واستولت على أجزاء من شرق أرمينيا وشرق جورجيا.

في مواجهة هذا التهديد المزدوج من الدولة العثمانية والغزو الأفغاني، لجأ الشاه طهماسب الثاني إلى طلب الدعم الروسي، فأرسل مبعوثه إسماعيل بك إلى سانت بطرسبرغ حاملاً عرضًا للتحالف ضد الأعداء المشتركين. وفي 23 أيلول 1723، تم توقيع معاهدة سانت بطرسبرغ بين إسماعيل بك وبطرس الأول.

ورغم الطابع الظاهري للتحالف، فإن روسيا سعت إلى ترجمة مساعدتها إلى مكاسب استراتيجية دائمة. وقد تضمّنت المادة الثانية من المعاهدة تنازل الشاه رسميًا عن عدد من المناطق الحيوية لصالح الإمبراطورية الروسية، إذ نصّت على أن “جلالة الشاه يتنازل لجلالة الإمبراطور الروسي عن مدينتي دربند وباكو، وجميع الأراضي التابعة لهما، وكذلك الأراضي والمناطق الممتدة على طول سواحل بحر قزوين، بالإضافة إلى ولايات جيلان، ومازندران، وأستراباد”، وذلك بوصفها ملكية دائمة لروسيا.

استغلّ بطرس الأكبر حالة الانهيار التي كانت تمرّ بها الدولة الصفوية في تلك المرحلة لتحقيق مكاسب إقليمية استراتيجية، ممهدًا بذلك لحقبة جديدة من التنافس الروسي–العثماني في إيران ومنطقة بحر قزوين.

النتائج الإقليمية لمعاهدة سانت بطرسبرغ وتوسّع النفوذ الروسي في بحر قزوين

وهكذا، وبموجب معاهدة سانت بطرسبرغ الموقّعة عام 1723، حصلت روسيا رسميًا على أربع ولايات إستراتيجية على سواحل بحر قزوين، هي: شيروان (باستثناء مدينة شماخا ومقاطعتها)، وجيلان، ومازندران، وأستراباد (المعروفة أيضًا باسم غرغان). مثّلت هذه المناطق أهمية جغرافية واقتصادية بالغة، لما لها من موقع متميّز بين القوقاز والهضبة الإيرانية، فضلاً عن إشرافها المباشر على الطرق التجارية البحرية والبرية الحيوية.

وبموجب المعاهدة، أدخلت روسيا قواتها العسكرية فعليًا إلى ولاية جيلان، حيث تمركزت في عدد من مدنها وموانئها. غير أن ولايتي مازندران وأستراباد بقيتا خارج السيطرة الفعلية للقوات الروسية، ولم يتم احتلالهما عسكريًا، على الرغم من النصوص القانونية التي ضمنت لروسيا حق التملّك الاسمي لهما. ويعكس هذا التفاوت بين النصوص القانونية والتنفيذ الميداني الواقع السياسي المعقّد في إيران آنذاك، إضافةً إلى التحديات اللوجستية والبيئية التي واجهتها القوات الروسية في تلك المناطق الجبلية والساحلية ذات الطبيعة الصعبة. (يتبع)

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

باحث في القضايا الروسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!